‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحياة الأدبية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحياة الأدبية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

حياة محمود البدوى الأدبية والإحساس المبكر للأدب الجزء الأول ص39


الإحساس المبكر بعملية الأدب

* التعليم الابتدائى .
* دار الكتب المصرية .
* تعلم الموسيقى .
* نظام التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية .
* كلية الآداب بالجامعة المصرية .
* مجلة الرسول .
* الأدب الروسى .
* مؤلفات د.هـ لورنس .
* بداية العهد بأستاذه الزيات .
* ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية .

=============

التعليم الابتدائى

تعلم البدوى القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بكتاب مسجد الخطباء فى القرية التى ولد ونشأ فيها " قرية الأكراد " ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، وأقام بالمدينة ، وكانت تجربته الأولى التى يعيش فيها بعيدًا عن أسرته ..

يعود فى الأجازات المدرسية إلى القرية ويقضى الليل فى الحقول ووسط الفلاحين وهم يحرسون الأجران ، يجلس معهم ويتندرون ويفيضون بأعذب الأحاديث والسير ، ويوقدون النار فى الدريس لعمل الشاى ويجذبون سمعه بحكاياتهم الشيقة ..

كان رجال الليل بأثوابهم الداكنة ومغطين رؤوسهم وأعناقهم بالملاحف ، مسلحين بأحدث طراز من البنادق يمرون عليهم ويجلسون يشربون الشاى ويقصون عن مغامراتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب والمزارع الغنية لبعض الثراة ويحكون عن حوادثهم مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول والتجار العائدين من الأسواق ..

وفى المدرسة الابتدائية التقى البدوى بالشيخ صالح مدرس اللغة العربية والذى كان فى ذات الوقت يعطيهم حصة الدين ــ وهو كما يراه " مفكر سبق زمانه بزمان " ويعترف بفضله عليه حيث يقول عنه ..

" أول من أدين له ، لأنى أعتقد أن هذا الرجل هو أول من فتح قلبى لقراءة التراث العربى وكانت حصته من أحب الحصص إلى نفوسنا ، مع أنها كانت حصة الدين ، ولأن هذا الرجل كان بطبعه واسع الاطلاع ، فقد أخذ يحدثنا من كتاب السيرة لابن هشام عن الكثير من الوقائع التاريخية ويزيد هو عليها من براعته ومن نفسه المتفتحة وحبب إلينا الاستماع والتلهف إلى ما يأتى من الدروس .. كان يقص علينا السير .. بأسلوب أخاذ فى استفاضة وتطويل .. وكنا ننصت إليه خاشعين لطريقته فى الشرح .. وهو يبسط ذراعيه ويضمها طبقا لمقتضى الحال ، ومنه أخذنا نقرأ ونرجع فى شوق ولهفة إلى كل ما كان يشير إليه من هذه السير " ..

وجد البدوى نفسه يتجه إلى الأدب ينهل ويغترف منه بلا حدود وقد ساعده على ذلك وجود مكتبه فى البيت بعضها من التراث وبعضها من الأدب الحديث .. ويقول "كان من الطبيعى أن هذه القراءة ساعدتنى فى مواضيع الإنشاء التى كنت أكتبها فى المدرسة والخواطر التى كنت أسجلها فى كراستى الخاصة ، ومن الإعجاب الذى كنت ألقاه من جراء هذه الخواطر تكون عندى الإحساس المبكر بعملية الأدب " ..

==================

دار الكتب المصرية

بعد أن أتم البدوى تعليمه الابتدائى جاء إلى القاهرة ليكمل تعليمه الثانوى والتحق بالمدرسة السعيدية بالجيزة .. وعرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ، فكان يقرأ ويطالع كيفما أحب وشاء من كتب السيرة ومن الأدب العربى القديم .

ويقول " وبهذا التوهج والحب للكتاب والأدب إنتقلنا من مرحلة الدراسة الابتدائية .. التى كانت المنبع لحب الكتاب إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق لنتزود بالمعرفة وتتسع الآفاق فى البحث والدراسة "..

" كنت أذهب إلى دار الكتب .. لأنى أجد فى الدار مكانا هادئا للمطالعة والمذاكرة أحسن من البيت ، وكان قد أعد بها مكان جديد مريح سمى " مكتبة الطالب " يختار فيه الطالب الكتاب الذى يرغب فى مطالعته من صفوف الكتب التى حوله فى المكتبة حسب تصنيفها .. ويتناوله بيده دون الحاجة إلى كتابة استمارة وانتظار الكتاب من المخزن ، وفى سبع حالات من عشر يكون رد المخزن ــ لا يعار .. بالخارج .. به تمزيق ..

ورواية ماجدولين هى أول رواية قرأتها فى حياتى .. وأعجبت بعد قراءتها بالمنفلوطى إعجابا شديدا .. فقرأت جميع مؤلفاته .. المؤلف منها والمترجم ، وأنا أزداد إعجابا بالرجل وتعظيما له .

وكانت صورة المنفلوطى فى زيه الشرقى الجميل ووجاهته تتصدر المكتبات والصحف ، كان ملكا متوجا على عرش الأدب .

ثم وقع فى يدى كتاب الأغانى للأصفهانى بكل أجزائه ومن فرط متعتى وانبهارى بمحتوياته وأسلوبه وطريقة حكيه ، إنطلقت التهم كل أجزائه ، ثم أعود لأقرأها مرات أخرى ، وكان هذا الكتاب لا يفارقنى لفترة طويلة ، فقد أدخلنى عالما لا يقتصر على الأسلوب الأدبى وكثرة ما يحتويه من كنوز الشعر والحكمة والطرائف ولكنه يقدم لى أيضا العواطف والمشاعر والغرائز الطبيعية البشرية بكل أحوالها ومادة لا تنفذ من الحكايات والحوادث والوقائع ..

وبعد قراءة هذا الكتاب وجدت فى نفسى القدرة على التعبير القصصى ثم تزايدت العملية إتساعًا وامتدادًا مع التجارب والقراءة واتضاح معالم الاستعداد الذاتى بما يجعل العملية معقدة يصعب تحديد فواصلها ، ولكن لا يمكن أن أنسى أن كتاب الأغانى كان نقطة تحول كبيرة عندى وأنه يفضله ترسخ عندى اليقين بأننى سوف أكون كاتبا قصصيا ذات يوم ..

وقرأت ألف ليلة وليلة بالإنجليزية .. والمترجم مستشرق كبير .. وكنت أقرأ الكتاب بالعربية أولاً ثم أطويه وأبدأ بالنسخة الإنجليزية .. ووجدت نفسى بعد شهور قليلة أستغنى عن النص العربى .

وقرأت الأدب القديم والحديث .. ونوعت وسائل الاطلاع .. وساعدنى على ذلك ذهابى إلى دار الكتب يوميا .. قرأت فى دار الكتب مجلة البيان لعبد الرحمن البرقوقى وكان يكتب فيها محمد السباعى وعباس حافظ والعقاد والمازنى مقالات وترجمات عن أدب الغرب فى كل ألوان الأدب وفنونه .

ثم قرأت مؤلفات الزيات والمازنى والعقاد وتوفيق الحكيم وزكى مبارك وصادق الرافعى وطه حسين وعلى أدهم وسلامة موسى وحسين فوزى وشوقى وحافظ وطاهر لاشين وإبراهيم المصرى ويحيى حقى ومحمد تيمور ومحمود تيمور .

كما قرأت فى دار الكتب عيون الأخبار وصبح الأعشى .. والبيان والتبيين ودواوين المتنبى والبارودى وابن الرومى ومهيار .
وكانت الجلسة فى دار الكتب مريحة وتساعد على طول المكوث ونسيان المرء أوقات الطعام ..

وقد سهل علينا الاطلاع فى ذلك الوقت أن الدار كانت منتظمة ، وكانت تخرج الكتب للقراء بروحها وقلبها ..

ولكثرة ترددى أصبحت لى علاقة صداقة مع الملاحظين فى القاعة ، وكانوا يسهلون لى الحصول على الكتب ، كما إن قاعة المطالعة فى دار الكتب كانت مليئة بالمجلدات التى تسهل للإنسان القراءة دون كتابة الاستمارة وانتظار ورود الكتاب .

وكثيرا ما يقع المرء على جمال يفوق الوصف جاء مصادفة فى المقعد القريب أو البعيد .. جاءت زائرة تطلع أو مستشرقة تدرس وتطلع على المخطوطات ، وأنا أعشق الجمال وأحب أن أراه فى الطبيعة وفى الإنسان .

وفى دار الكتب تعلمت من الحكمة المسطرة بالخط الفارسى على الجدران .. كل كتاب تقرأ تستفد .. فكنت أقرأ كل كتاب يقع فى يدى ولو جاء خطئا من مخزن الدار .
كما تعلمت " وخير جليس فى الزمان كتاب "

أما الآداب الأجنبية فقد قرأت تشيكوف بهوس وتأثرت به جدًا ، وتأثرت أيضا بديستويفسكى وهو كاتب ليس له مثيل من ناحية الغوص فى أعمق أعماق النفس البشرية ، كما أعجبت جدا بمكسيم جوركى ككاتب عظيم خلق نفسه بيديه وعاش الحياة بطولها وعرضها .

أدب هؤلاء الثلاثة فيه الصدق والواقعية ويتعدى كل الحدود التى يفرضها النقاد ، وإليهم يرجع الفضل فى حرصى على إضاءة الشخصية الإنسانية من داخلها وليس من ظاهرها السطحى ، وذلك عن طريق الاهتمام بالانفعالات النفسية وتأثير الظواهر الخارجية على الأعماق .

تعقيب على قراءات محمود البدوى بدار الكتب :

احتفظ محمود البدوى بخمس دفاتر صغيرة فى مكتبه ، ولم تمتد إليهم يد عابث ، خلال تنقلاته من مسكن إلى آخر منذ جاء إلى القاهرة ، كتب على واحد منه عام 1929 والثانى عام 1943 والباقى بدون تاريخ ..

كتب فى ثلاث منهم عناوين الكتب التى قرأها فى الدار باللغتين العربية والإنجليزية وهى عن تاريخ الأدب وعن الرواية والقصة والفلسفة والتاريخ والطب والاجتماع ، والدفتران الآخران أحدهما كتب فيه مفردات لغوية وعنونه بعنوان "لغة" ، والثانى عنونه باسم « مختارات شعرية » وكتب فيه الكثير من أشعار المتنبى وابن الرومى والبحترى والمعرى .
===============

تعلم الموسيقى

حينما نزح البدوى من الريف إلى القاهرة لم يكن له أهل فيها ، فأقام فى كثير من البنسيونات والغرف المفروشة وأحس بالفراغ ولم يستطع صحبة أهل المدن ونفر منهم ، فكان يرى السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف الطريق ، وكان يفكر فى الحياة التى يعيشها هؤلاء الفلاحون وفى ليل الريف وظلامه ، وقارنها بحياة الناس فى المدينة ويشعر بالضيق الشديد، ويجد لذته فى القراءة والاستماع إلى الموسيقى ، وحبه وعشقه لها تعلمها على يد رجل موسيقى من أصل تركى . وجاءت فرصته فى أن يتعلمها مع زملاء المدرسة « بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية » . كان المعهد فى حاجة إلى معونة سخية من وزارة المعارف .. فرأى أن يضم لفصوله الدراسية، بعض طلبة المدارس الثانوية الأميرية .. ليعزز طلب المعونة " .

وعن هذه الفترة يقول البدوى .. « كان أمير الشعراء شوقى بك .. يزور الفصول يوميا .. ويقف على باب الفصل صامتا دقيقة واحدة وفى فمه السيجار .. وندر ما كان ينطق أو يوجه إلينا سؤالاً .. ثم يذهب سريعا كما جاء ..
وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة .. اخترت الكمنجة كآلة .. وكان هذا من سوء اختيارى لأن دراستها صعبة .. وكنت أستعد للبكالوريا بكل جهودى فأهملت الموسيقى .. وانقطعت عن المعهد » .
================

التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية

يقول البدوى : " فى حصة الهندسة بمدرسة السعيدية دخل المعاون ووزع علينا مسرحيات شوقى .. ومثل هذا كان موجودًا فى كل المدارس من الابتدائية والثانوية والجامعات .. كان كل به مكتبة ضخمة تضم كل الكتب والمراجع العلمية والأدبية ..

والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام .

وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ويستعمل لفظة غليظ فى إسراف.. وتبسم الشيخ شتا.. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن "عذاب غليظ" فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ ..

وكان الشيخ طموم يجعلنا .. نكثر من قراءة كليلة ودمنة حتى إننا من كثرة معاودتنا له حفظناه .. وما من كاتب فى الدنيا فى بلاغة ابن المقفع ..

وفى البكالوريا .. كانت مقررة علينا مسرحية بالإنجليزية .. نحب حياة " إبراهام لنكولن " وقد وجدنا فيها ما حببنا إلى الرجل بصفاته العظيمة .. وأخذت أقارنه "بعمر ابن الخطاب" والقياس مع الفارق بالطبع ــ فعمر قمة القيم فى المخلوقات البشرية بعد الأنبياء والرسل .. ولكن خط حياتهما واحد .. عدل .. وصرامة .. ونظام .. وتقشف إلى درجة التصوف .. فى الحياة الخاصة .. ووقوف فى وجه الظلم .. واستضعاف الإنسان لأخيه الإنسان .. الفقير والضعيف عند عمر .. والعبيد فى الجنوب عند لنكولن ..
ثم موت كل منهما بالاغتيال .. خنجر هناك فى المسجد ورصاصة هنا فى المسرح ..
============
كلية الآداب بالجامعة المصرية

ونجح محمود فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وظل على عهده بالذهاب إلى دار الكتب يوميا يقيم فيها إقامة مطلقة .. "وكما يقول .. لضيق ذات اليد" فلم يكن فى استطاعته شراء كتب التراث ، مما أفاده من ناحية الأسلوب وانتقاء الألفاظ والبعد عن الألفاظ السوقية والخلخلة فى الجملة وضعف التركيب ، وتأثر بالزيات والمازنى وحدهما من بين أساتذة البلاغة فالاثنان من أصحاب أصح الأساليب العربية ، أما طه حسين فكثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده " . .

ويقول البدوى " وعلى الرغم من أننا كنا ندرس فى البكالوريا وفى كلية الآداب شكسبير ودكنز وتوماس هاردى .. وملتون وجولد سميث .. وجويس .. وغيرهم من الكتاب والشعراء الإنجليز .. ولكن قراءة الكتب المقررة غير القراءة بالاختيار .
فقد أخذت دافيد كوبرفيلد لدكنز .. وصورة دوريان جراى لاسكار وايلد .. والحلم لزولا .. كما أخذت الديكاميرون والهيمبترون ..

وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها سألنا الأستاذ ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..

سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة « بوفون » الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب ".

سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف "المنفلوطى" وعباءة "الزيات" فقلنا المنفلوطى والزيات.. والمازنى.. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ــ وطه حسين .. ؟

فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على أسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى.. والزيات.. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى.. هم بلغاء العصر فى نظرنا .. وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب ..
============

مجلــة الرســول

كان محمود دائم التردد على دار الكتب المصرية بباب الخلق للاطلاع ، ويمر على مطبعة ومجلة الرسول وهو فى طريقه إلى البيت فيرى محمد على غريب ( الذى تعرف عليه فى المكتبة الأدبية بأسيوط ) وصاحب المجلة فى عمل متصل ، فيجلس ليقرأ أو يكتب ، وكتب مقالتين بالمجلة الأولى عن الموسيقى والثانية عن الموسيقى والغناء عام 1930 ..

ويقول " لم تكن القصة هى أول شىء نشر لى ورأيته مطبوعًا .. فإن أول ما نشر لى مقالة قصيرة عن الموسيقى نشرت على عمود فى مجلة " الرسول " سنة 1930 على ما أذكر .. وصاحب المجلة هو الأستاذ محمود رمزى نظيم .. رحمه الله ، وكان يتخذ من مطبعة صغيرة فى باب الخلق مقرا ومكتبا .. ويعاونه فى تحرير المجلة من الغلاف للغلاف .. الأستاذ غريب .. ولا ثالث لهما ..

وكنت أنزل من دار الكتب وأذهب إليهما فى المجلة وأراهما فى عمل متصل ، فأجلس لأقرأ أو أكتب .. وأنا مفتون بحروف الطباعة ، وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام ..

وكتبت مقالة عن الموسيقى والغناء وتركتها على المكتب فى المجلة .. خجلت أن أقدمها لواحد منهما .. ونشر المقال فى العدد التالى ، وفرحت به كثيرا .. فرحت عندما رأيت اسمى مجموعًا لأول مرة بحروف الطبع فى ذيل المقال ..

وفى اليوم التالى لصدور المجلة دخل علينا فراش أسمر يحمل هدية للمجلة .. مسرحيات أمير الشعراء شوقى بك .. مجنون ليلى .. مصرع كليوباترا ..

وقال رمزى نظيم ضاحكا ؟
ــ هذه الهدية لك أنت ..
ــ لماذا ..؟
ــ لأنها بسبب مقالك ..
ونظرت إليه متعجبا .
ــ لم أذكر شوقى بك فى مقالى ولم أتعرض للشعر .
ــ ولكنك ذكرت موسيقيا يحبه ..
ــ وكنت قد ذكرت بالخير موسيقيا شابا من طلبة المعهد.."
==========

الأدب الروسى

ترك البدوى الدراسة بالجامعة والتحق بالعمل فى وزارة المالية بتاريخ 12/3/1932 ونقل إلى مصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس .. ويقول « كان محمد السباعى وعباس حافظ يترجمان كثيرا من روائع الأدب الروسى.. فعشقت هذا الأدب للتشابه الشديد بيننا وبينه فى الحياة وجو الريف ووصف حياة الإنسان المطحون الذى لا حول له ولا قوة ..

ثم بدأت أقرأ هذا الأدب مترجما من الروسية إلى الإنجليزية من ترجمة الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنت .. وكانت تحب الأدب الروسى وعاشت تنشره بلغتها ..

وبهرنى تشيكوف وديستويفسكى ومكسيم غوركى .. وبهرنى الأخير أكثر لعصاميته وصلابته ولأنه شق طريقه فى الحياة بأظافره .. ولكن تشيكوف كان أستاذ كل من كتب القصة القصيرة وتفرغ لها ..
===========

مؤلفات د. هـ لورنس

وحدثنى أديب فى المصلحة التى أعمل فيها عن كاتب إنجليزى من طراز جديد .. وأطلعنى على مقال نشر عنه فى جريدة كوكب الشرق ، فقرأت المقال وازددت شغفا بالكاتب ..

فقد كان كما صوره المقال نفسانيا يحلل أعماق النفس البشرية ، ويصل بتحليله إلى أغوارها البعيدة ، ولم أجد له مؤلفات فى مدينة السويس .

فلما ذهبت إلى القاهرة فى أول إجازة وجدت فى مكتبه ألمانية بشارع عماد الدين كل مؤلفات د. هـ لورنس .. فى طبعات ألمانية (الباتروس) فأخذت منها ما أستطيع دفع ثمنه . وأخذت أقرأ لورنس بنهم وتأثرت به من ناحية تصوير الجنس بعنف .
=============


بداية العهد بأستاذه الزيات

قرأ البدوى آلام فرتر للزيات وبعدها روفائيل خير أعمال لامرتين الأدبية، فأحب الرجل وأعجب به لأنه لم يتعمل فى الترجمة ولم يتصنع ، فجاءت ترجمته آية الآيات الفنية ، ولم يبدأ حياته الأدبية بالهجوم ــ مستوقفا الأنظار ــ كما فعل غيره من الأدباء ، ولم يهرج لكتبه بالطريقة الأمريكية المعروفة لكثيرين ، ولم ينشر عن نفسه ثناء ولا حمدًا ، ولم ينزل بفنه إلى مستوى العامة ، ولم يكتب ليرضى الجمهور ويتملق الناس ، وإنما عمل فى صمت وسكون وإخلاص ..

" وأنشأ الزيات مجلة الرسالة بعد رجوعه من العراق ، وأعد لها العدة عن فهم وبصيرة بما يجرى حوله ، فقد كان العالم العربى من مشرقه ومغربه فى حاجة ماسة إلى مثل هذه المجلة الأدبية ، فلما صدرت استقبلته استقبالاً عديم النظير ..

كانت توزع سبعة آلاف نسخة فى العراق وحدها ، وكنت وقتها فى مدينة السويس وأقدر الرجل وأجله كأستاذ لجيل ، فقد تحولنا إليه بعد أن شبعنا من المنفلوطى ، تحولنا إليه نتغنى بأسلوبه وبلاغته ..

ولما وقع فى يدى العدد الأول من المجلة فرحت بها وكتبت له أهنئ وأمجد عمله ولم أذكر فى الرسالة اسمى ، وظل الرجل الكريم الصفات لا يعرف صاحب هذه الرسالة إلى آخر أيامه ، ولكنها أبهجته حقا ، وشرحت قلبه لأنها صادرة من مجهول أكثر من أى شىء آخر ، فعلق عليها فى العدد الثالث من المجلة بالعبارة التالية .. وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته، ثم يحمل نفسه ووقته جهد الكتابة إليك صفحات فى تأييد وقدرة ، ثم لا يريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه . ويقول البدوى " أوصى أبناء هذا الجيل بالرجوع إليه " .
==============

ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية

كان البدوى ــ وقت صدور مجلة الرسالة ــ يقرأ الأدب باللغة الإنجليزية والأدب الروسى خاصة مترجما إلى الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت .. لأنه كما يقول " الجو الروسى التشيكوفى على وجه التحديد يصور حياة الفلاح الروسى تماما كالفلاح المصرى" فبدأ يترجم أعمالاً للأدباء الذين كتبوا عن بشر يشابهوننا ، ويقول :
" ترجمة الآداب الأجنبية علمتنى ما لم أتعلمه من أديب آخر ، لقد حفرت طريقى بنفسى ولم أعتمد على الآخرين ، فقد اتخذت منذ البداية خطى ومنهجى وشكلى فى الكتابة من أدباء الغرب الذين قرأت وترجمت لهم وعلى رأسهم جميعا تشيكوف .

وحينما صدرت مجلة الرسالة كان يقرأ قصة "الجورب الوردى" لتشيكوف وترجمها ، ودفعه حبه لأستاذه الزيات أن يرسلها إليه بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت الترجمة بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها من القصص القصيرة لتشيكوف ومكسيم جوركى .. وموبسان ..

* * *

===============================

حياة محمود البدوى الأدبية وتفتح المشاعر للكتابة الجزء الثانى ص38

تفتح المشاعر للكتابة والقدرة على التأليف

الرحلة إلى أوربا الشرقية عام 1934 ورواية الرحيل .
المقابلة مع العالم النفسى سيجموند فرويد .
المنابع الأولى للفن القصصى .
المجموعة القصصية رجل .
نقد رواية « الرحيل » والمجموعة القصصية « رجل » بأقلام الأدباء والنقاد عام 1936 .

=============================
الرحلة الأولى إلى أوربا الشرقية
عام 1934 ورواية الرحيل


زار البدوى أوربا الشرقية على نفقته الخاصة ولم يكن يفكر فى كتابة قصص عنها، ولكن أهلها أثروا فى عقله ووجدانه وتحركت مشاعره ووجد نفسه فى حالة انفعال ويزخر رأسه بمئات الأحداث الصغيرة والكبيرة ، فأخرج دفترا صغيرا من جيب سترته وسجل فيه ملاحظاته قبل أن تنمحى من ذاكرته وتضيع منه ، وحينما عاد إلى مصر استعرض فى ذهنه صور الحادثات التى مرت به فى رحلاته وشغلت جانبا من تفكيره ووقته فأخرجها على الورق فارتاح ذهنه وصفيت نفسه ..

* * *

مثال عن بعض الملاحظات التى سجلها بالدفتر الصغير عن الرحلة :

الإسكندرية ــ الوداع فى الباخرة ــ فى عرض البحر ــ الأسى وقليل من الوحشة ــ الركاب ــ الليل والموج ــ السامر على ظهر الباخرة ــ شقراوات ــ النوم ــ اليقظة واستقبال الشمس ــ غروب الشمس ــ السحاب والليل ــ الجزر ــ بيريه ــ الوصول إلى أثينا ــ محطة أثينا ــ الآثار خلال الطريق ــ اليونانى فى الحان ــ اليونانيات ــ الطلبة التشكسلوفاكيين فى الباخرة ورحلتهم إلى القطر المصرى ــ 22 قرش الواحد إلى أسوان شهران ــ الطالبات التشكسلوفاكيات الراكبات من أثينا والذاهبات إلى بلادهن ــ الأنس بالحديث معهن ــ الزواج ــ العناوين ......

* * *

الاقلاع فى عرض البحر ــ جبال ــ غروب الشمس ــ سحب جميلة ــ فتنة الطبيعة ــ الدردنيل ــ البوليس التركى ــ سحب الباخرة عند بدء مرمرة ــ الجندى التركى يرتل القرآن .
الآستانة ــ منظر عام الضواحى ــ النزول ــ الطعام ــ المعيشة ــ أيا صوفيا ــ فى الترام .
الإقلاع ــ البسفور أبدع ما صور الله .

* * *

كونستنزا
ـــــــــــــــ
الجمرك ــ العربات ــ أول حمال ــ الفنادق ــ فندق النزول ــ الخادمات ــ بلاج مامايا ــ الصور على الشاطئ ــ عيون جميلة .
فى الفندق ــ آه أنت تعب ــ النوم .

* * *

إلى بوخارست
ــــــــــــــــــــــ
الليل ــ المطر فى بوخارست ــ المدينة ــ طريق النصر ــ حديقة كارول ــ الخادمة فى الفندق ــ الغريزة الجنسية ــ المطر .
اليوم التالى ــ صحو ــ مكتبة ــ شراء كتب لأسكار وايلد ولورنس وجويس والبحث عن مجلة .... والحديث مع الآنسة ... المطاعم ــ النساء فى الشارع ــ الغرف المفروشة ــ طبع الرجال تغلب عليه الغلظة .

* * *
العودة إلى كونستنزا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى القطار ــ جاره ــ المقعد غير مريح ــ استبداله ــ تنازلى عن مقعدى لسيدة والحديث معها ــ استغلال العطف .
المراعى ــ قطعان البقر ــ القمح ــ الفلاحين فى الحقول ــ الأجران ــ كثرة العشب ــ المراعى ــ خصوبة الأرض ــ القرى فى الجبل ــ الدانوب ــ ملك الأنهار ــ غروب الشمس فى الجبل .
منظر السحب فى كونستنزا ساعة الغروب ــ المنظر من فندق بالاس ــ الفنانون يرسمون لوحًا لمنظر الغروب ــ الإنجليزيان فى المطعم ــ حديث الرومانى معهما ــ فى المطعم تأكل بعينيك وقلبك وفمك وأذنيك ــ بائعة الفاكهة والعربجى .

* * *

فى الكازينو
ـــــــــــــــــ
وصف الكازينو ــ الموسيقى ــ الروليت ــ القبعة وما تكلف من مصاريف ــ المقامرون ــ السيدة الجميلة فى المطعم ... الحديث مع القطة ــ الصور الزيتية فى الكازينو ــ صورة صيادوا الدانوب .

* * *

ويقول البدوى

" وبعد رحلة طويلة إلى أوربا الشرقية على باخرة رومانية قبل الحرب العالمية الثانية ، بدأت من الإسكندرية إلى اليونان ثم تركيا وإلى رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب ، كان العالم يعانى من الكساد ومن أزمة اقتصادية طاحنة والرخص الشديد يعم الآفاق .. وعلى الظهر " الدك " بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا .. ولكن لم أنم على الظهر فقد استأجرت قمرة بحار فى السفينة بجنيهين طوال الرحلة .. وكنت أنزل إلى القاع وأختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم إلى نار السفينة، ( كانت السفن وقتها تتحرك آلاتها بالفحم ) ويقصون حياتهم فى البحار والموانى ..

وعدت من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، ووجدت فى نفسى القدرة على التأليف وانقطعت عن الترجمة ، فكتبت رواية قصيرة باسم "الرحيل" "وهى قصة شاب على ظهر مركب يبحر من الإسكندرية إلى البسفور ، يحكى فيها انطباعاته عن البلاد التى زارها" . وطبعتها فى عام 1935 على نفقتى الخاصة ، وعلى ورق " رومان " أغلى أنواع الورق فى مطبعة الرحمانية بالخرنفش ، ولم يتجاوز طبع القصة الجنيهات العشرة ، وبعد هذا أخذ ذهنى يفكر .. ويشغل بتأليف القصص "

و" أحب بطبعى الريفى السماحة والنخوة والكرم والشهامة التى ألاقيها من الغريب ، وهذه النخوة وجدتها فى أوربا الشرقية ، عندما زرتها وأنا شاب فى الخامسة والعشرين ، وهى السن التى بدأت فيها الكتابة والنشر ، وأنا هنا لا أتحدث عن الأدب الإبداعى ، ولكنى أتحدث عن أدب الحياة ، عن الناس العاديين الذين يعملون فى معترك الحياة ، إن اللحظة التى شاهدت فيها موظفة فى محطة السكة الحديد شابين يرتعشان بالخارج من البرد والثلوج تتساقط عليهما ، فخرجت من مكانها الدافئ ، وأدخلتهما فى غرفة الانتظار بالمحطة المخصصة لكبار الزوار .. هذه اللحظة فيها لمسة إنسانية من الموظفة ، وفيها شهامة يبقى أثرها فى النفس ، كما أنها دليل على الروح الإنسانية الشجاعة فى أعماقها التى جعلتها لا تخضع للقوانين " ..

* * *

ويقول نعمان عاشور تحت عنوان محمود البدوى فى الميزان المنشور بمجلة التحرير فى 3/3/1959 :
" واصطدم بعقبة النشر ولكنه قاوم ولم ييأس ، وكانت أمنيته فى ذلك الوقت أن تدخل القصة المصرية إلى كل بيت وإلى كل جيب وأن يكون ذلك عن طريق إصدار مسلسلة للقصة تصدر كل شهر ويكتبها القصاصون المصريون ، واختار لهذه المسلسلة عنوانا هو "مكتبه الجيب" فكان أول من استخدم عبارة الجيب فى صحافتنا وأدبنا " .

==================

المقابلة مع العالم النفسى الشهير سيجموند فرويد بالنمسا عام 1934

تسبب كثرة تنقل محمود البدوى من مسكن إلى آخر فى ضياع الكثير من الأوراق والمستندات بعد قيامه برحلته عام 1934 . وسأكتفى بنقل بعض ما قيل بالصحف والمجلات عن مقابلته للعالم النفسى الشهير سيجموند فرويد .

نشر بمجلة الهدف عدد مايو 1960 مقالة لأبو خالد عن كتاب " غرفة على السطح " وجاء فى نهاية المقال .. بقى أن تعرف أن محمود البدوى هو الكاتب العربى الوحيد الذى التقى بالعالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد" فى النمسا عام 1936 والتصق به فترة غير قصيرة ، وتعدد بينهما اللقاء والمكاتبات ــ ولعل هذا يلقى ضوءا على اهتمام البدوى والدوافع والحوافز الجنسية عند أبطال قصصه ، لأنه يؤمن إيمانا راسخا بمذهب " فرويد " فى التحليل النفسى ، ويرجع انفعالات البشر دائما إلى أصلها العضوى ، والبدوى حريص على أن يطبق مبادئ فرويد التحليلية على أشخاص قصصه وتصرفاتهم ، وينهج فى ذلك نهجا علميا دقيقا بقصد الدراسة والتنوير لا الإثارة والتشويق ..

* * *

نشرت مجلة الأدب فى عدد يوليو 1961 مقالة للأستاذ ماهر شفيق فريد وهى عن نقد مجموعة غرفة على السطح ، وفى بداية المقال قال :
"وجال فى أوربا حيث التقى بعميد مدرسة التحليل النفسى سيجموند فرويد وتأثر به فى إلقاء الأضواء العلمية على السلوك العاطفى لأبطال قصصه ، وجال فى ربوع آسيا فكان لذلك أثر واضح فى كتاباته ، وعندما قفل راجعا إلى مصر كانت دوامة الحرب العالمية الثانية ( 1939 ــ 1945) تعصف بالملايين وتقوض القيم الإنسانية فى النفوس ، ومن هذه الأجواء استوحى مجموعته الأخيرة " غرفة على السطح " .

* * *

وفى مقال بقلم فوزى سليمان بصحيفة المساء 22 نوفمبر 1962 تحت عنوان " كاتب الجنس الذى يؤمن بالخير فى الإنسان " قال :
" هذا الكاتب الإنسان الذى يؤمن بالخير فى الإنسان وبالحياة ، عندما ذهب إلى أوربا فى الثلاثينيات من هذا القرن ــ تعرف على سيجموند فرويد من أعماله وتتلمذ عليه وتعرف على فلسفته عن قرب ، وأدرك العناصر الإنسانية فى هذه الفلسفة ، ومن خلال طاقاته الأدبية " .

* * *

وكتب عاشور عليش مقالة بصحيفة المساء 30 مايو 1963 تحت عنوان " مع كاتب القصة الذى تحققت أمنيته هذا الأسبوع " .. قال :
"هذه الوحدة التى استشعرها محمود فى القاهرة فى أول عهده بالشباب ، هى التى دفعته إلى الائتناس بالناس ، وصداقتهم ، مهما اختلفت مشاربهم وألوانهم ، ويلتمس لهم الأعذار فى ضعفهم وتصرفاتهم .. وهى التى أغرته بدراستهم ودراسة مشاكلهم ، وفهمهم نفسيا واجتماعيا . هذه الدراسة النفسية والولوع بكل ما يكشف النفس الإنسانية ، هو الذى دفع بمحمود البدوى إلى لقاء العالم النفسى الشهير دكتور فرويد فى فيينا بالنمسا عام 1934 ويكون بذلك محمود البدوى أول عربى يجتمع بالعالم النفسى الشهير ويناقشه فى مؤلفاته ونظرياته . ومن هنا يتضح أن رحلات البدوى إلى الخارج لم تكن للسياحة أو الزيارة فقط وإنما للمعرفة والدراسة ، ولذا يلح محمود البدوى على كل أديب وخاصة على كتاب القصة ، أن يسافروا إلى الخارج " .

* * *

وكتب الأستاذ شكرى القاضى بصحيفة الجمهورية 24 فبراير 1986 تحت عنوان "فارس القصة القصيرة يودع الحياة عبر مظاهرة صحفية :
" تفرد فى المزج بين الرومانسية والواقعية فى قصصه التى تأثر فى تحليل شخصياتها بالعالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد " خاصة بعد أن التقى به أثناء رحلاته فى أوربا " .

===============

المنابع الأولى للفن القصصى

يقول البدوى
" حبى للقصة القصيرة وراءه باعث رئيسى ، هو ولعى بالإيجاز والاختزال اللذين أجدهما فى طبيعة القصة القصيرة ، ويحضرنى هنا أسماء كثير من الباحثين الغربيين الذين شهدوا للقصة العربية فى قرونها الهجرية ــ الإسلامية ــ بالرقى، لا لشىء إلا لأنها تحتوى من البلاغة التى هى التركيز والتكثيف الشىء الكثير.. إنهم يؤكدون أن القصة القصيرة إنما هى فن العرب لا الغرب ، فالعرب بطبيعتهم رحالون من مكان إلى آخر ، وبين هذا المكان وذاك يرددون حكاياتهم الموجزة ، فالحياة العربية ، لطبيعتها البدوية ، لم تكن تمكنهم من سرد القصة الطويلة أو التمهل عند تفصيلاتها ، ومن هنا ، أستطيع القول إن تعريف القصة القصيرة العربية عند العرب كما هى الآن لا تزيد على ربع ساعة فقط .

وهذا الوقت الوجيز هو الذى يمنح القصة حلاوتها المميزة .. وهو ما جعلنى أعود للأدب العربى وأحاول أن أغترف من المنابع الأولى للفن القصصى .. وبالتحديد من القرآن الكريم ..
لنتوقف قليلا عند هذه النقطة لأهميتها ..

انظر إلى عظمة الإيجاز القرآنى وهو يقول :
" ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم " .
إنها عبارة بليغة تعبر عن نفسها بنفسها ، وتحمل معانى كثيرة قل أن يستطيع التعبير الطويل أن يعبر عنها ، اقرأ هذا الحكم " إلا أن يسجن أو عذاب أليم "

ثم أنظر إلى مثل آخر :
" يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين " انظر إلى دلالة المعنى الذى تطلقه امرأة ، ومع هذا ، فإن الرسالة تصل بشكل فيه بلاغة وصدق ويحوطه التقدير والإجلال .

إننى أستطيع الخروج من كل آية بقصة قصيرة يمكن أن تتوافر فيها شرط ( لحظة التنوير ) كما يقال لنا الآن فى التعبير عن القصة القصيرة .. إن القرآن الكريم به أول قصة قصيرة .

وعلى هذا النحو ، فإننى أستطيع بلفظ أو أكثر من لفظ ( منحوت ) الوصول إلى أدق المعانى وأكثرها تعبيرا ودلالة .

غير أننى لا يمكن أن أغبن الغربيين حقهم فى الفن الإبداعى للقصة القصيرة ، فإننى لا يمكن قط أن أنسى براعة " تشيكوف " وهو يروى القصة فتصل إلى درجة بعيدة من الإعجاز ، لا لشىء ، إلا لأنها تحتوى على التركيز والمعنى فى جلسة صغيرة ..

==================

المجموعة القصصية " رجل "

بعد رحلة البدوى إلى أوربا الشرقية ، وجد فى نفسه القدرة على التأليف وانقطع عن الترجمة ، فنشر قصة " الرحيل " ، وكان يكتب قبله محمود تيمور وأحمد خيرى سعيد ويحيى حقى ، ولكنه اتخذ منذ البداية خطه ومنهجه وشكله فى الكتابة عن أدباء الغرب الذين قرأ وترجم لهم وعلى رأسهم جميعا تشيكوف ، وتعلم منها ما لم يتعلمه من أديب آخر .

ويقول :
" بدون شك أنا تأثرت بالشكل والأشخاص والإيقاع عند تشيكوف فأنا أعتبره أعظم كاتب للقصة القصيرة .. وهو الذى أعطى لى الشكل الذى أعيش فيه حاليا ولن تجد جيلاً محددًا أنتمى إليه ، فلم أتأثر بأحد قبلى .. لقد حفرت طريقى بنفسى ولم أعتمد على الآخرين .

وأخذ ذهنه يفكر ويشغل بتأليف القصص القصيرة .. ويقول:
" أخذت القصة القصيرة ، لأنى بطبعى أحب التركيز وأستطيع أن أضع فيها الفكرة التى أضعها فى القصة الطويلة ، وهى تحتاج للقارئ الشديد الذكاء اللماح الذى أكتب له ، وقد أكون أخذتها لأنى أحب التخصص ، ولكثرة ما قرأت لتشيكوف .. أو لأن نفسى قصير .. أو لأنه ليس عندى من الصبر ما يساعدنى على كتابة القصة الطويلة ..

* * *

جمع البدوى القصص التى كتبها والمسماة باسم " رجل .. الأعمى .. النجم البعيد .. فى الظلام " بين دفتى كتاب وطبعها على حسابه بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش عام 1936 .

================

نقد رواية " الرحيل " والمجموعة القصصية " رجل "

حينما صدرت الرواية الوحيدة " الرحيل " عام 1935 والمجموعة القصصية " رجل " عام 1936 .. تناولتهما الصحف والمجلات بالنقد والدراسة والتقييم، رغم أن مؤلفهما يعد كاتبا صغير الحجم ــ فى ذلك الوقت ــ بجوار عمالقة الأدب الذين يشغلون الساحة الأدبية فى تلك الفترة .

* * *

حينما صدرت الرحيل ، كتب على دياب بجريدة السياسة اليومية :
" أول ما يمتدح فى القصة ولعلها آخرها ــ فالأمر سيان ــ هو أسلوبها الفخم الرائع ، الذى جمع بين بديع الأدب القديم وبلاغته وفصاحته ، وجزالة الجديد وبساطته وتعابيره ، وقد أدخل الكاتب فى قصته ألفاظا وتعابير غريبة ــ ولكنها مستحبة غير نابية ــ فسما بذلك بأسلوب القصة وجعلها شيئا جديدا فى القصص المصرى الحديث وأساليبها .

أما ما يستحق النقد من القصة فهو تفككها وعدم ارتباط أجزائها كل بالآخر وهذا ما يبعدها عن تعريف القصة اللفظى وهو ــ الاستطراد والمتابعة ــ ولعل هذا ناشئ من مراجعة موضوع القصة أثناء الطبع وحذف ما لا يجيز القانون والعرف والآداب العامة نشره منها " .

* * *

وكتبت صحيفة الأهرام فى 18/12/1935 :
" عنوان قصة لطيفة دبجتها براعة حضرة الأستاذ محمود البدوى ، وتدور حوادثها على رحلة شاب مصرى إلى إسطنبول وما وقع له من الوقائع الغرامية فى أثنائها ووصف بعض الأماكن التى زارها .

* * *

وكتبت جريدة الصباح فى 21/2/1936 عن المجموعة القصصية " رجل " :
"لقد قرأناها كلها لأن شيئا فيها كان يدفعنا إلى قراءتها ، ذلك هو الصدق الذى نبحث عنه فى كل شىء ، فطابع الصدق فى هذه القصص كان يعيننا على تذوقها والاستمتاع بما فيها ، ولعل هذا الطابع الذى نحبه ونسعى إليه كان ظاهرا جدا وواضحا كل الوضوح ، فى قصة " الأعمى " فهذه الصورة الريفية الإنسانية لا يمكن أن تكون منتزعة من الخيال ، فإذا كانت كذلك فإن صاحبها لبارع جدا وأنه لصاحب بصيرة نفاذه إلى الحقيقة دون أن يراها ، وثمة شىء آخر تتسم به هذه القصص ذلك هو أدب المؤلف ، أو بعبارة أخرى عدم ميله إلى ما هو مستقبح ، ولأفسر ذلك فأقول أنه تحاشى أن ينصر الرذيلة، بل عاملها بمنتهى الهوادة حتى انتزع منها روحها ، وفى قصة الأعمى ترك الرذيلة تؤدى مهمتها لكنه عاقب أصحابها عقابا نفسيا رائعا .. وفى القصص الأخرى كبح جماحها وجعلها تنسحب من الميدان .

وبعد .. فقد لا ينقص هذه القصص إلا قليل من المراجعة ليصبح أسلوبها يستحق ما يحمله من فكر صادق ورأى صائب وأدب رصين .

* * *

قالت الجريدة السورية اللبنانية 17 أيلول 1936 عن هذين الكتابين :
"مكتوبه بأسلوب سهل بليغ وفيها تحليل لشتيت من الخوالج النفسية ، أما حوادثها فتسترعى انتباه المطالع لتناسقها وارتباطها ووصفها البيئة المصرية ، وقد أعجبتنا بصفة خاصة قصة الأعمى ، فهى والحق من أروع القصص القصيرة التى طالعناها .

والكتابان جميلا الطبع وهما حلقتان من سلسلة كتب يعدها حضرة المؤلف تحت عنوان "مكتبة الجيب" فبينما نثنى على أدبه نتمنى أن يصدر فى القريب بقية المؤلفات التى أعلن عنها ، فإن الأدب العربى بحاجة إلى مثل هذه الجهود المنتجة " .

* * *

وكتبت مجلة الشباب فى 10/6/1936 :
"قصص تبلغ فى بعض الأحيان مبلغا غير يسير من الإجادة والاقتراب من الكمال الفنى ، أما الكتيب الأول فقد أسماه مؤلفه الأديب محمود البدوى "الرحيل" وهو كذلك قصة جميلة محبوكة ضمنها مؤلفها الشاب خطرات نفسه ولواعج صدره ، وجمع إلى هذا جمالاً فى أسلوبه ، ودقة فيما يرسمه من التصاوير حتى لتعد بعض صفحاتها مثالاً طيبا لجهود الأدباء الشبان ..

..... وعندنا أن مثل هذه الجهود المبارك عليها فى الأدب التى يبذلها بعض الأدباء الشبان كالأديب البدوى هى التى يصح أن تتوجه إليها عناية القارئين وتشجيعهم ، فهى تبشر بمستقبل بسام فى الأدب وفى القصة .

* * *

وكتب هلال شتا فى جريدة السياسة الأسبوعية 1/6/1936 عن المجموعة القصصية " رجل " :
" أول ما فتننى من الكتاب أنه ــ كسابقه ــ يدفع بالقصة المصرية إلى الأمام دفعا ويرتفع بها شيئا فشيئا إلى حيث يجب أن تكون ، ذلك أن فن القصة فى مصر لم تمض على ولادته إلا بضع سنوات ، ولم يجد من يتعهده من الكتاب ويقف عليه جهوده وفنه اللهم إلا طائفة قليلة لا تعدو أصابع اليد الواحدة عدًا .. يتزعمها المازنى وهيكل وتيمور وطه وأبو حديد والحكيم .. ، فقد نزع البدوى إلى القصة النفسانية التحليلية وفتن بالأدب الواقعى ومحاكاة الطبيعة فى البساطة التى تفيض على أحداثها ثم فتن بالعنف كذلك ومحاكاة النفس البشرية فى فورانها وانفعالاتها .. الكتاب فى مصر والشرق قد اصطلحوا منذ عهد بعيد على أن يبدأوا كتاباتهم " بسم الله الرحمن الرحيم " وخلو الكتاب من هذه السنة الطيبة يحملنا على سوء الظن بالمؤلف وإن كان فى قصته " الأعمى " يدافع عن التشريع الإسلامى فى الجريمة الجنسية دفاعًا فنيا مجيدًا .

وأخيرا نرجو للمؤلف والشبان الذين يكتبون فن القصة بمثل توفيقه نجاحًا وذيوعًا ورقيا مطردًا .

* * *

وكتبت مجلة المصور فى 12/6/1936 :
"أصدرت مكتبة الجيب كتابها الثانى " رجل " وهو مجموعة من القصص المصرية كتبها الأديب محمود البدوى بأسلوب تحليلى رشيق ، واستقى موضوعاتها من صميم الحياة ، فصور الحب والبغض والصفاء والغيرة والسعادة والشقاء تصويرا حسنا ، ولا شك أن هذا الكتاب يعتبر خطوة موفقه فى عالم القصة المصرية .

* * *

وكتب الأديب محمد شوكت التونى المحامى فى جريدة المقطم 23 يونيه 1936 وقال عن هذين الكتابين :
" باكورتان مباركتان انبثق عنهما ربيع الشباب عن عمر هذا المؤلف الأديب ، وثمرتان طيبتان هما القطف الأول من جنى دراسته فى الكتب والحياة ..

لو أنه كان من ذوى الجاه المادى الكبير أو من أصحاب المناصب الحكومية العالية ، أو من ذوى النفوذ فى دور الصحف ووجد من يحرق البخور بين يديه ويغرس له أوراق الورد بين أنهر الصحف والمجلات ويطلق له أناشيد المديح وأهازيج الثناء لكان لكتابيه اليوم شأن أى شأن .

ولكنه شاب مغمور هادئ ينتج كى يرضى رغبته الفنية سواء صاح حوله الصائحون أم أحس بأنه يعمل فى وسط قبور يخيم عليها جلال الصمت ووحشة السكون .

" محمود البدوى كمؤلف يعتبر ظاهرة نفسية تستحق الدراسة فقد خرج من وسط أغرم أفراده بالكتابه القصصية ، فمنذ ثلاثين عاما أخرج شاب اسمه إسماعيل عبد المنعم هو اليوم كهل أو شيخ منزو فى إحدى وظائف وزارة المعارف ــ عدة كتب قصصية كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه " على مسرح التمثيل " ولخص موليير وألف قصصا مصرية منها " على سفح الجبل " و" عقد اللآلئ " وغيرهما ، وهذا الشاب منذ ثلاثين عاما هو خال الشاب المؤلف الحديث ، كما أن له خالاً آخر اتخذ المحاماة وتفرغ لها وانزوى عن الاشتغال بالأدب جهرا وإن كان يتعاطاه كمدمن الرحيق سرا ، كان له شغف بالأدب القصصى منذ أكثر من عشرة أعوام ، أخرج فيها عددًا كبيرا من القصص المصرية ، ومنها كتاب سماه " فى ظلال الدموع " وروايات مسرحية أخرى .

وله أقارب آخرون كل ميلهم منصب على الأدب القصصى ، ومع أن " البدوى " لم ينشأ بينهم نشأة جوار ومخالطة ، فقد نما النبت فى أعماقه دون وعى منه واشتعلت الجمرة واتقد لهيبها دون أن يوقدها بإرادته .

وتلك ظاهرة إن دلت على شىء فإنما تدل على أن هذا الوسط قصصى بطبيعته ، يرسل القصة وحى فنه الغريزى وسجية نفسه وفيض خياله لا يتعملها ولا يتصنعها .

هذا الطراز من الكتابة جديد فى مصر ، ولقد أراد بعض الكتاب المصريين الذين لم ينضج فيهم الذوق الفنى ولم يسعفهم الإلهام المواتى أن يقلدوا بعض هؤلاء الكتاب فشطوا وسيطرت عليهم العواطف المكبوتة وبرزت غريزتهم الجنسية فجاءت كتاباتهم عبارة عن تحريض وإثارة للغريزة الجنسية ، وسموا هذا النوع من الكتابة " أدبا مكشوفا " فكان جهلا مكشوفا .

أما الإنتاج الجديد الذى نحن بصدده وهو أدب القصصى الناشئ محمود البدوى فأدب تحليلى سام فى فنه ، عال فى خياله ، مهذب اللفظ ، مغطى المعنى بطبقات من الذوق .

أما قصته الثالثة " الأعمى " فقطعة بديعة جدا من الأدب لو أنها ترجمت إلى الأدب الروسى لحسبته من روائع إنتاج " تشيكوف " .

" فإنى أنصح الأديب البدوى بكثرة الإنتاج ومراسلة الصحف حتى يسخو تعبيره وتصقل عبارته ، ولو أن ذلك لا يمنع كون أسلوبه من أرقى الأساليب العربية فى إنتاج الشباب "

* * *

وكتبت مجلة الهلال فى عددها الصادر فى الأول من يولية 1936 :
" صاحب هذين الكتابين له ولع كبير بالقصة دفعه إلى إصدار هاتين القصتين .

والقصة الأولى " الرحيل " وصف حياة شاب عاشق بأسلوب مؤثر ، أما القصة الثانية أو الكتاب الثانى " رجل " فهو يحوى أربع قصص صغيرة ، الأولى قصة " رجل " التى اختار أن يعنون الكتاب باسمها ، والثانية " النجم البعيد " والثالثة " الأعمى " والرابعة " فى الظلام " .

وقد أجاد المؤلف فى تأليف هذه القصص ، ووفق فى محاولاته الأولية ، ونال من النجاح فى بدايته ما يبشر بأنه إذا استمر على العناية بهذا الفن فسوف يصل إلى درجة مرفوعة من الإجادة والإبداع .

* * *

وكتب محمد على غريب فى مجلة الرسالة 6/7/1936 :
" القصة المصرية عندنا ما تزال فى مهدها اليوم ، وأكبر الظن أنها سوف تبقى فى لفافات الطفولة إلى مدى طويل ، وأن يفقد الأدب العربى عندنا هذه الثروة الضخمة التى انحصرت فى القصة ومنحت الآداب الغربية ما لها اليوم من تفوق ونجاح " .

" لست أثنى على صديقى لأن بينى وبينه هذه الصلة ، فإن من الخير لى وله أن أجاهره بالرأى الصريح ولو كان فيه ما يؤلمه ، فإننى أعرف فيه حسن تقبله للنقد ، ولم تصلح الصداقة يوما ما رشوة بين صديقين يحب كلاهما صاحبه ويخلص له ، فالواقع أن هذين الكتابين اللذين أخرجهما الأستاذ البدوى لقراء العربية من خير المحاولات المفيدة الناجحة فى سبيل بعث القصة المصرية ووجودها ".

واستطرد غريب قائلا عن رواية " الرحيل " :
إنه يرسم صورة من نفسه ، ونفسه ترسف فى أغلال قوية وتحاول الخروج منها ، فإذا عجزت عن المحاولة ترنمت بالإيمان ، وإذا نجحت فى التنفيس عن كرباتها فرحت بهذه الأضواء الباهرة التى يجد فيها حياته كلها وجميع أمانيه " .
ويقول عن قصة " الأعمى " :
" إنها صورة صادقة من أبلغ ما كتب الأدباء المصريون ، وقد امتزج فيها الفن بالواقع ، فترى أمامك مزيجا منها يلزمك أن تعاود قراءتها " .

* * *

وكتب عبد المعطى المسيرى فى جريدة السياسة الأسبوعية 20 يوليه 1936 :
" اختلفت آراء المستشرقين فى الأدب العربى الحديث كما اختلفت أحكام قادة الأدب وشيوخه على إنتاج الشباب ، فمن المستشرقين من يرى أن الأدب العربى لن تكون له مكانة بين الآداب الأخرى إلا إذا استقام له حظ وافر من الفن القصصى ".

" إن المطبعة تغمرنا بالكثير من القصص الركيك ، وأن تهريج الصحف قد شوه جمال نهضتنا الأدبية ولكنا بين الفترة والفترة نستخلص من هذه الوفرة قصة تنسينا الألم وتبعث فينا الرجاء والأمل .

بعد هذه المقدمة نستطيع أن نمضى فى دراسة قصة " الأعمى " للأستاذ البدوى وقد اخترناها بالذات لإعجاب النقاد والقراء بها . يعيش قارئ هذه القصة فى جو خاص هيأه المؤلف فحشد له تجاريبه فجاء محكم التمثيل متماسك الأطراف تصافحه الأطياف ، كأن المؤلف يعنيه بالذات ، فهذه آلامه وآماله وتلك مطامحه وغاياته " .

" إن غاية ما أعبر به عن هذه القصة أنها نموذج للقصة المصرية الحديثة ، إنها القصة المثالية التى يجب أن يطالعها بإمعان كل من تحدثه نفسه بكتابة القصة ، كما أن صاحبها قدوة للشباب الطامحين " .

* * *

وكتب أ . ع . أ . ى فى الصاعقة الأسبوعية 8/8/1936 :
"لا غرو فالأستاذ البدوى جدير بأن يكون مبتدعًا ومجددًا فى فن القصة ، فلقد قرأنا للأستاذ كتابه " الرحيل " الذى كان من خير ما أنتج الشباب فى ميدان الثقافة والأدب .

وسوف يراه الأدباء وعشاق القصة فى كتابه "رجل" أديبا بارعا" وقصصيا قديرا على أن يخلع على القصة نسجا من الجمال وقوة من البراعة ، فلا تكاد تنتهى من قراءة إحدى قصصه حتى تشعر بميل شديد وقوة نزاعة إلى مراجعتها مرة ومرات .

فنهنئ المؤلف على هذا المجهود المشكور ، ونتمنى له النجاح المطرد فى ميادين الثقافة والأدب ".

* * *

وكتب على كامل بمجلة الجامعة 23/7/1937 :
" لا ريب أن الفترة التى تعبرها مصر فى معتركها الأدبى الحالى على أعظم جانب من الأهمية والخطورة ، وهى لذلك أجدر من غيرها وأحق بالانتباه والتيقظ ، فنحن الآن نتجه تدريجيا نحو خلق أدبى قومى صميم بعد أن مكثنا عشرات السنين فى الترجمة والنقل . وهذا الأدب القومى الجديد الذى تحتل القصة الصف الأول منه لا يعتمد على ماض وتراث سابقين "

" إن القارئ يشعر خلال السطور بشخصية المؤلف بارزة جلية ، وهى الصفة الأولى التى يجب أن يمتاز بها العمل الفنى سواء أكان قصصا أو شعرا أو موسيقى أو تصويرا أو غير ذلك ، كذلك كان المؤلف فى كتابيه دقيق التعبير ، بارع الوصف . ففى قصة " الرحيل " مثلا نراه يصف لنا إحساسات الشاب محمود وهو إلى جانب الفتاة التى أحبها ، فيجيد الوصف راسما العواطف المتضاربة التى تتنازع كلا من الفتى والفتاة بطريقه أرى أنه وفق فيها كثيرا .

وفى قصة " الأعمى " من كتابه الثانى " رجل " تراه يصف لنا شخصية الأعمى بطريقة تطغى فيها النزعة العلمية الحديثة فى معالجة القصة فى أوربا ، وهو ما يبشر المؤلف بمستقبل قصصى قد يحسد عليه إذا عرفنا أن هذه المميزات قد حصل عليها فى أول أعماله الأدبية " .

* * *

وسأكتفى بهذا القدر مما نشرته الصحف والمجلات عن رواية الرحيل ، والمجموعة القصصية رجل فى الثلاثينات من القرن العشرين ، وهدفى من وراء السرد السابق أن أبين مدى ما كانت عليه العناية الجدية بالنقد والتشجيع على جميع المستويات للثقافة والأدب ، وما لاقته أعمال البدوى الأدبية الأولى من احتفاء وتكريم .
================================

حياة محمود البدوى الأدبية وحصاد السنين الجزء الخامس ص35 *

حصاد السنين

* القصة القصيرة .
* المرأة والصداقة والحب .
* الرد على النقاد .
* الأدب والسياسة .
* البعد عن السياسة .
* التقاليد السائدة فى حياتنا الأدبية والنقدية .
* ثقافة الأمس وأديب اليوم .
* سرقة قصة زوجتى والكلب .
* اهداء الكتب للنقاد
================

القصة القصيرة

القصة القصيرة فى نظر البدوى .. "ملمح إنسانى يجتمع فيها روح الجذب والكفاية الذاتية ، تقرأها وتكتفى بها كما تكتفى برواية طويلة .

إن القصة القصيرة إذا كتبتها بروحانية وجاذبية وخلقت منها شيئا حيا يتحرك ، فإنها تغنى عن الرواية " .
" القصة يجب أن يكون فيها روح ، ويجب أن تكون لحظة التنوير فيها واضحة ، ويجب أن تتمتع القصة بخاصية التركيز ، وأن يبتعد كاتبها عن الاستطراد أو الإسهاب وكثرة الوصف ، ويجب ألا أقرأ القصة الجديدة فلا أكاد أميز بينها وبين المقالة .

والقصة القصيرة الناضجة هى التى تجذبك من سطورها الثلاثة الأولى ، وهى التى تعيد قراءتها مرة ومرات من غير ملل ، فنحن الآن نقرأ تشيكوف للمرة الألف ولا نكاد نمل منه .

والمبادئ والمواصفات التى يدعو إليها أساتذة الأدب فى الجامعات يجب ألا تسيطر على ذهن الفنان وهو يكتب ، فأنا أكتب القصة بعفوية وأكتب بواقعية .

وهناك أستاذ جامعى وضع للقصة القصيرة 18 قاعدة ولكنه للأسف الشديد لم يكتب قصة قصيرة واحدة ناجحة لأن القاعدة كانت فى رأسه وهو يكتب "

" أستطيع أن أقول إن القصة القصيرة التى كتبتها على إيجازها كان يمكن أن أكتبها فى ثلاثة فصول بدلاً من عدة صفحات ، فبدلاً من أن أسترسل فى محاسن المرأة ، على سبيل المثال ، فأسهب فى شعرها وقدها وهيئتها إلى غير ذلك ، أستطيع أن أرمى السهم مباشرة فأقول إنها "جميلة" وهو ما أستطيع أن أقوله حين أسهب فى تفاصيل الجو فأختصر بأنه "بارد" وحسب .. وأستطيع ببقية تفصيلات القصة أن أمزج قدرًا كبيرًا من الدلالة التى تشير إلى الجو أو تؤكد درجته .. "

والشخصية المصرية فى قصصى لم تتغير قط .. وهى دلالة طيبة على الطيبة ، إلى درجة البلاهة أحيانا ثم التمسك بالقيم .
وفى كل قصصى أسعى إلى الحقيقة والجمال .. وأكره القبح فى كل مظاهره .. القبح فى الشكل .. القبح فى الخلق .. القبح فى الطباع .. وليست هناك مبالغة أن كل أنثى فى قصصى فهى جميلة أولاً .. ولا أكون مغرورًا إذا قلت لك أننى أحببت القصة القصيرة وطورتها .. وأنا أركز على الشخص الواحد لأبرز للقارئ جميع طباعه، وليكون أسهل عند القارئ للفهم . ولا أنكر عنصر التشويق فى قصصى وبعض الأحيان الإثارة .

وأظن أن من يقرأ لى أول قصة كتبتها فى حياتى كمن يقرأ لى الآن آخر قصة .. فأنا أعالج فى قصصى صنفا معينا من البشر .. أكتب عن الناس المظلومين فى الحياة .. دائما أكتب عن هؤلاء الناس .. ولا أكتب قط من فراغ وإنما أكتب من الواقع وعن الناس الذين عاشرتهم وعشت معهم ، وأشعر بعد كتابة القصة براحة نفسانية لا حد لها ".

" لا أكتب القصة للفلسفة ولا لأنشر مذهبا اجتماعيا معينا ، إنما أكتب بوحى السليقة والإحساس بالقيم الأخلاقية متمكن منى لأقصى حد ، وليس معنى هذا أننى واعظ أو أرتقى المنابر ، أبدا ، إنما معناه أنى أصور الناس بخيرهم وشرهم ".

" وما أعبر عنه فى القصة الطويلة بالتطويل والإفاضة ، أستطيع أن أعبر عنه فى القصة القصيرة بتركيز وإيجاز .. والقصة القصيرة لمحة خاطفة من الحياة ، وقلقى عليها وإنفعالى بها يجعلانى أحرص على تسجيلها على التو .. خشية أن تفلت من دائرة تفكيرى إلى الأبد ، فكل يوم أحيا وأعايش صورة جديدة .."

" لا أسطر القصة على الورق إلا بعد أن تكون قد نضجت تماما فى رأسى واكتملت بكل حوادثها وشخصياتها ، وأجد مشقة فى اختيار الأسماء .. والاسم عندى يجب أن يكون مطابقا للشخصية ، فلا أسمى مثلا قاطع طريق مختار .. أو رؤوف .. أو لطفى ".

" أعتبر أن ما يكتبه الأديب فى القصة القصيرة يمكن أن يكون كافيا وضامنا لرواية طويلة من ألف صفحة" والرواية الوحيدة التى كتبتها وهى "الرحيل" تناولت رحلة بحرية لى بين عدة دول ولم أكرر التجربة ، فإنى لا أستريح إلى الرواية كشكل فنى " . " وكل ما أستطيع أن أقدمه من أفكار قدمته فى القصة القصيرة وهى تغنينى عن كتابة الرواية .

" لم أدرس إطلاقا قواعد القصة القصيرة على يد أحد ، ولكن قرأت فيها ، وترجمت لأساتذة القصة القصيرة فى الغرب ، وترجمت لتشيكوف وموباسان وجوركى فى السنوات الأولى من صدور مجلة الرسالة ، ومن هؤلاء الأساتذة تعلمت الشكل (الفورم) ثم أنى بطبعى أميل إلى الواقع ولا أكتب من فراغ بل من صميم الواقع ".

" لا بد من وجود الهيكل العظمى .. فأنا أكتب عن المدن التى عشت فيها وزرتها .. ولابد من الصدق ، لأن الصدق هو الشىء الوحيد الذى يعيش .."

" اخترت هذا الطريق لنفسى .. رغم ما فيه من متاعب ومشقة .. لا أحب أن أغيره .. أشعر بعد كتابة القصة براحة وجدانية لا مثيل لها .. رغم ما لاقيته فى حياتى من صعاب ومشقة بسبب الأدب والتفرغ للقصة .. فأشعر فى أعماق نفسى بالرضا والقناعة .. لم أفكر إطلاقا وأنا أكتب لا فى خلود ولا فى ذكرى ولا فى أى شىء من أحلام اليقظة .. لكن أعتبر أننى حققت بجهدى المتواضع شيئا .. لا بد أن يعيش ما عاش الأدب فى محيطنا العربى .. والشىء الذى يسعدنى أكثر .. أنه رغم أن كل وسائل الإعلام أغفلتنى عن عمد وقصد .. وكل النقاد الذين تخصصوا فى هذا النوع من النقد .. رغم أنهم أغفلونى عن عمد .. وأن بعض المحررين فى الصفحة عندما كان يرد اسمى على لسان غيرى كقصاص كانوا يحذفونه .. رغم كل هذا فإنى وكما قلت حققت لنفسى ما سيعيش ما عاش الأدب فى الساحة العربية .. ليس كل الكتب .. ولكن القليل من هذه الكتب يكفينى .. كما يكفى ديستوفيسكى أنه كتب الجريمة والعقاب ، وتشيكوف أنه كتب بستان الكرز .. والجاحظ أنه كتب البخلاء ، وابن المقفع أنه كتب كليلة ودمنة ، والأصفهانى أنه كتب الأغانى .. كل هذه الكتب فيها الصدق والحياة .. وبالحياة والصدق عاشت .
==============

المرأة والصداقة والحب

يقول البدوى :
" أعتقد أنه لا يوجد بين الرجل والمرأة شىء اسمه الصداقة أبدًا .. وإنما يوجد حب .. والحب ليس معناه الصداقة أبدًا .. الحب بين الرجل والمرأة هو الأنانية والسيطرة . أنا شخصيا أعرف أنى أحب عندما أكتب قصة جيدة .. وأتغلب فى حياتى على كل ما يعترضنى من عراقيل وأصبح لا أعبأ بالتوافه وأشعر بالمودة والأخوة نحو الآخرين ، وأشعر كأنى أحلق فى السماء وأحب الخير للإنسانية جمعاء ، وأشعر فى لحظة بأنى أحب .. الواقع أنه قد أصبحت فى حياتى امرأة واحدة .. وهذه المرأة هى التى تدور حولها معظم قصصى .. أما من هى هذه المرأة .. فهذا سرى .. ويجوز أن تكون زوجتى .. وقد تكون امرأة أخرى ".

" الحب الحقيقى لا يمكن أن يتجه إلا لشخص معين ، والذى ينتقل من امرأة إلى أخرى هو شخص يلهو ، ولا يمكن أن يكون الحب متمكنا من أعماقه .. فالحب لا بد له من زمن لكى ينمو كأى شىء فى الحياة .

"لم يشاهد جيلنا المرأة إلا متأخرًا .. ذلك أنها لم تخرج إلى الشارع والحياة العامة إلا فى وقت قريب نسبيا .

فى بداية التجارب القصصية التى كتبتها كانت المرأة ضمن الحريم ، ولا تخرج إلا بالبرقع .. ويقتصر الاتصال على بنت الجيران .

أما الآن فإن المرأة توجد زميلة فى العمل ، وطالبة فى الجامعة ، ومرافقة فى القطار أو على الباخرة ، ويمكن أن توجد وحدها فى هذه الجولات .

هذا التطور منح الكتاب دسامة فى التجارب ، إذ كيف كان يمكن للكتّاب أن يكتبوا والنصف الآخر من المجتمع لم يدخل معه فى أى تجربة ".

" عندما فكر الناقد الفنان محمد قطب مع بعض من زملائه فى نادى القصة فى إخراج عدد من المجلة من مؤلفاتى .. توقف الصديق محمد قطب عند قصة القطار الأزرق طويلا ــ وكانت القصة نشرت فى العدد الأول من مجلة الثقافة ــ وربط محمد قطب بدهاء وبصيرة بينها وبين قصة الغجرى فى كتاب " الظرف المغلق " وكل واحدة منهما تكمل الأخرى وهما عن شخص واحد وبطل واحد ..

وأراد محمد قطب أن يجعل من القصتين صورة من حياتى .. ولقد ضحكت وسررت جدا لأن القصة أصبحت من الصدق والواقعية إلى الحد الذى يتصور كل من قرأها أنها حدثت فعلاً .. وهذا منتهى التوفيق للكاتب.. ومنتهى الإجادة الفنية.."

ونفس المشاعر أجدها عند الناقد المتخصص علاء الدين الوحيد .. وهذا الصديق يبذل جهدا صادقا فى البحث عن كتبى والكتابة عنها .. ولكنه يقف عند وقفة واحدة ويلف ويدور .. المرأة .. ويتصور أن كل امرأة فى القصة ، وكل أنثى هى واحدة ممن عرفت وعاشرت ..

وهذا التصور مرجعه بالطبع إلى الصدق فى التعبير .. وأنا لا أكتب من فراغ .. ولكن لو كنت أعرف كل هؤلاء النسوة .. فكيف أكتب ومتى أكتب ..؟

إن الأديب الحق يشعر دومًا بالحرمان ، ولو عاشر .. وعاش مع نساء هذا الكوكب .. ومن الحرمان ومن منبع الحرمان يكتب الأديب .. ولو ارتوى ما كتب قط .. لو ارتوى ما كتب سطرا واحدًا .. تلك هى الحقيقة " .

" ولا يوجد حب من أول نظرة أبدًا ، فالحب لا بد له من زمن لكى ينمو كأى شىء فى الحياة " .
=============

محمود البدوى والرد على النقاد
الذين قالوا عنه "كاتب الجنس"


قال محمود البدوى ردًا على الذين قالوا عنه إنه يكتب فى الجنس .. "إنهم يقولون إننى أكتب عن الجنس ، هتفت هاتوا لى قصة جنسية واحدة ، لم أجد من يجيب ــ إننى لا أكتب عن الجنس ــ ولكن فى ذهنى المرأة تتحرك مع الرجل مع صراع الحياة ، فإذا زلت ، فهى تزل من قوة قهرية أكبر منها جعلتها تضطر إلى هذا . المرأة ليس من رغبتها الدعارة، إنما هو الاضطرار" . و"قصصى تردد دائما أنها تبحث عن الرجل الذى لا تجد فيه صفات زوجها " .

" فالمرأة والرجل يتحركان مع بعضهما ، فلم أتعمد الإثارة ، ولم أكتب عن الجنس كشىء مفرد ، إنه شىء طبيعى فى الحياة " .

" إننى أصور شيئا موجودًا فى حياتنا ، وموجود بقوة وعنف وهو شىء عميق وبعيد الأغوار ، وقد تظهر أشياء كثيرة فى سلوك الإنسان من الغضب والانفعال وفى أعماقها الجنس وفى ظاهرها لا يبدو الجنس ".

و" أظنك تلاحظ أنى لم أصف أبدًا جسم المرأة بالتفصيل الذى يثير ، كما أنى لا أصورها عارية إطلاقا " .
" الجنس تكمله للظروف المحيطة به .. جذوره أعمق مما تتصورون فى النفس البشرية " .

" ظواهره خفية ، قد تلاحظ أشياء تبدو من الوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن الجنس ، ولكنك إذا تعمقتها وبحثت وراءها ، تجد أن الجنس هو الباعث الأول لها ، وأعتقد أن الجنس أسبق من غريزة الجوع ، وأكثر تأثيرا فى النفس، وفى كثير من القصص العالمية حين يطرح على المرأة اختيار الطعام أو الجنس ، لا تتردد فى ممارسة الجنس أولاً .
ولقد بعث فرويد ثورة عظيمة منذ أوضح نظريته إلى الآن ، وقد تأثر به مئات من الكتاب فى العالم ، كما أنه ألقى ضوءًا جديدًا على التراث الأدبى كله "

" لقد عالجت مئات الحالات الإنسانية الصارخة التى لم يلتفت إليها أحد .. والجنس عميق الجذور فى حياتنا ، وأنا لم أقصده لمجرد الجنس فقط .. وإنما أحاول أن أصل إلى أعماقه ، وهناك فرق بين رجل يضع يده على كاهل فرس جميلة .. وبين امرأة تفعل نفس الشىء " .

" عوامل السقوط فى قصصى لها مبرراتها ، والإنسان عندما يسقط فالواقع تعمى بصيرته وتجتمع عوامل القدر والظروف والحياة بطبيعتها تحب النقاء والطهارة ، والمرأة فى قصة "الباب الآخر " عندما رأت شابا فى الشباك المجاور وكانت تعرفه من قبل تصور لها فزعها ، ونتيجة الإحساس بالدنس ، أوجد عندها واجسا جعلها تعتقد أنه سيفضحها . وقد يكون الشاب لا يفكر فى هذا إطلاقا وما فكر فيه ، ثم الفزع من الدنس أيضا جعلها تعتقد أنها إذا استجابت لهذا الشاب أسكتته ، وهذا طبعا عبارة عن أعصاب مخلخلة ، أو تصور عصابى ممزق جعلها تتصور هذا ، والغرض الأسمى من كل شىء أن الحياة طاهرة ونقية ، وعندما ندنسها لابد أن ندفع الثمن ".
=============
الأدب والسياسة
يقول البدوى ...
"العالم يحترم الأديب الذى يكتب عن الإنسان .. الأديب الذى ليس له مذهب سياسى ، لأن الأدب الموجه يموت بسرعة .. إن الأديب الحقيقى .. "رسول" فى أعماقه .. رسالته تكاد تتساوى مع رسالة الأنبياء " و" عليه أن يبحث عن الحقيقة ويجلوها للناس .. وينشر الخير والجمال والحب .. ويدافع عن المظلوم والمحروم والبائس وكل من تقسو عليه الحياة... ".

" وأستطيع القول إن الأديب والمثقف بالتبعية ، لا يجب أن ينتمى لحزب ما قط ، وإذا قدر له أن ينتمى ، فيجب أن يجعل جدارًا سميكا بين إبداعه الحر ونشرات حزبه السياسى ، وألا يجب أن تتدخل السياسة فى الإبداع فتوجهه وجهة رسمية وإلا أصبح ما يكتب فى حكم ( الدعاية ) . وعلى سبيل المثال ، لقد عشت فترة موسولينى ، وتابعت الكتابات التى أيدته أو عارضته أو حتى من وقفت موقفا محايدا ، الآن أستطيع أن أقول لك .. إن جميع من كتب عن موسولينى أوله سقط ، إن شبح الزعيم السياسى يحرق معه كل مؤيديه .. الأديب لابد أن يدافع عن فكرة ، لكن الدفاع عن فكرة إنسانية شىء والدفاع عن إيديولوجية حزبية ــ مهما كانت ــ شىء آخر ..

يجب أن يكون إخلاصنا للفن أولا .. فلنترك موسولينى ولنتحدث عن أديب يحاول أن يكتب ضمن شخصياته عن شخصية اليهودى ، إننا إذا حاولنا إبراز هذا اليهودى بشكل منفر ، يمكن أن يحدث أثرا معاكسا فى القارئ فيفعل العكس .. وهنا ، فيجب أن أفرق دائما بين كتابة الأدب الهادف وكتابة الدعاية الموجهة .

" إن كل كتب الدعاية التى كتبت عن الألمان ، انتهت بعد سقوط الألمان ، كما أن كتب الدعاية التى كتبت عن الحرب العالمية الثانية بواسطة الإنجليز أو الفرنسيين انتهت بعد انتهاء الحرب ".

" فالسياسة شىء والأدب شىء ، إن هيمنجواى تطوع فى الحرب الأهلية بجسمه ونفسه ، فهل رجع وكتب ضد من حارب معهم .. أبدا فهو تطوع ليرى الحرب كفنان ، فلا هو أسبانى ولا أى علاقة له بالأسبان ، فقط ليرى الحرب ويزاولها بأظافره ..
وافترض معى أننى ضابط بالجيش أيام نكسة 67 وعائد من موقع ما فى الصحراء، فشاهدت إسرائيليا فى النزع الأخير ينزف دمه ــ هل أطعنه بالسونكى أم أطلب له الإسعاف ؟ ( موجها السؤال لمحاورة الأستاذ علاء عريبى ) .

أنا كنت عسكرى "بعكوك" وخدمت بعد كامب ديفيد ، فلا أعرف .

ضاحكا .. الإسعاف طبعا فالمذهب لا يدخل فى الكتابة أبدًا ، فأنا بعدت عن السياسة لأنها تفسد الأدب " .

" لا أحب السياسة ، أنا شخص حساس ومرهف الحس ، وإن دخلت فى دوامة السياسة سيتعطل عملى وإنتاجى ، ولا مفر أمام الفنان من الابتعاد عن العمل السياسى بكل صورة من صوره".
============

البعد عن السياسة

نأى البدوى بنفسه عن السياسة ويقول :
" هناك فرق كبير بين الوطنية والسياسة ، فحب الوطن فى لحمى ودمى وعظامى أما السياسة فقد كرهتها وكرهت مشتقات الكلمة ولعنتها كما لعنها وكرهها الإمام محمد عبده " .

" أنا بطبعى وتكوينى الخلقى لا أحب السياسة ولا الأحزاب وأكرهها كره الأعمى للحفر فى الطريق .. ولا يمكن لإنسان يحب العزلة ليقرأ ويكتب أن يشترك مع الجماهير فى ضجيجها وصخبها .. على أى صورة من الصور .. وحب الوطن ومن خدمه بإخلاص وأمانة من رجالنا الأفذاذ عبر التاريخ كله .. سيظل محل الاحترام والتقديس ما دامت الحياة ..

وأبطالى مصريون خلص .. وما أشرت فى أية قصة من قصصى إلى شخصية وفدية أو سعدية أو خلافهما .. فالذى يجابه الاستعمار ويحاربه أيام الاستعمار الإنجليزى هو مصرى خالص المصرية " .

ومن الحوادث التى شاهدها البدوى وقالها بذكرياته فى مجلة الثقافة عدد مارس 1980 "كان محمد على غريب هجاءً من طراز نادر .. كما كان السبب فى غلق الكثير من الصحف والمجلات أيام صدقى باشا والوفد .. وقد جر معه المرحوم هلال .. الذى كان موظفا فى مجلس الأمة .. وكان يكتب معه المقالات السياسية ويوقعها باسم مستعار ..

وكانت هذه المجلات تصادر جميعها .. ولا تعيش أكثر من أسبوع .. الصاعقة .. الضحى .. وغيرهما كثير .. وفى مجلة من هذه المجلات كتب "جبان خسيس" .. تحت رسم للرسام رخا .. سبا قذرًا فى صدقى باشا .. وظهر العدد وفيه هذه السبة الوقحة وسجن بسببها رخا خمس سنوات ..

وإلى اليوم لا يعرف رخا .. ولا صاحب المجلة .. ولا المحررون فيها .. ولا عمال الطباعة .. من الذى كتب هذه السبة اللعينة ..

وما أصاب رخا .. أصاب المرحوم هلال ولكن بطريقة أخرى .. أخف من السجن .. فقد مر السكرتير العام للمجلس الذى يعمل فيه هلال ( والمجلس وقتها وفدى والحكومة وفدية ) .. مر فى صباح يوم على مكتب هلال ( بعد وشاية من زميل ) فوجده يكتب بداية لمقال سياسى عنوانه " تحت اللواء " .. فالتقط المقال بخفة الثعلب .. ونقل هلال من مجلس الأمة .. إلى كاتب قيودات فى أرشيف مديرية الجيزة .. وقد لاقى المسكين العذاب الأكبر من جراء هذا النقل .. وقد استغرقته فحولته عن الأدب مع أنه بدأ بداية طيبة وكان يمكن أن يكون له شأن لو استمر فى طريقه الأول ..

وتحت اللواء يعنى تحت العلم المصرى .. ولا أدرى الذى كتب فى سياق المقال ، وكان السبب فى العقاب .

ولم تكن هذه الحوادث درسًا ملموسًا لى لأبتعد عن السياسة وعن الكتابة فى هذه المجلات" .
=============
ثقافة الأمس وأديب اليوم

يقول البدوى :" الثقافة التى كانت موجودة فى الثلاثينيات والأربعينات كانت ثقافة مزدهرة .. وهى السبب فى وجود المنفلوطى والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد لطفى السيد .. وهذه الثقافة كانت مزدهرة نتيجة العناية الجدية المطلقة بالكتاب " .

و" أديب الأمس ولظروف الحياة المادية نفسها فى ذلك الوقت .. كان روحيا مخلصا للأدب .. وروحه متشربه لحبه إلى درجة التضحية " . ولقد عاصرت الأدب الزاهر الذى كانت تسوده روح التضحية خصوصا عند مصطفى صادق الرافعى ، المازنى ، العقاد ، أحمد أمين ، الزيات.. أنا شخصيا وجدت الزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و" طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة .. وروح التضحية برزت واضحة فى لجنة التأليف والترجمة والنشر .. كانوا فى حارة " الهدارة " فى عابدين .. فى بناء متهالك .. يخرجون ويطبعون مجلة الثقافة متكاملة طباعة وفنا أدبيا ، ويأتيهم نظير هذا العمل أى ربح مادى يوزع عليهم .. بل كانت التضحية متضامنة .. وروح حب الأدب للأدب كان متغلغلا فى كل نفس تكتب فى هذه المجلة .

كانت هناك مجلة للشيخ " البرقوقى " اسمها " الأديب " هذا الرجل كان يخرج المجلة وحده على نفقته الخاصة .. وكانت من أبرز وأحسن المجلات فى ذلك الوقت .. جمعت "المازنى والعقاد وصادق الرافعى وزكى مبارك" وهذا الشخص يعبر بشخصه ومجلته عن التضحية الكبرى التى لا مثيل لها للأدب البحت الخالص ".

" كان العصر كله عصر أدب خالص يتغلغل فى النفوس ويملك الأفئدة .. ويسيطر على المشاعر .. ففى هذا العصر الذهبى للأدب كان من المحامين والقضاة والأطباء والموظفين ، من يملك ناصية البلاغة فى خطبة ومذكراته ومقالاته ، وكانوا يضمنون كتاباتهم وكلامهم الآيات القرآنية وخطب بلغاء العرب .. كسحبان .. والحجاج .. وزيادة ..

ومنهم من كان يعرف من كتب التراث ما لا يعرفه الدارسون لها الآن .. والمتخصصون فى هذا الباب ..

" أما جيل اليوم من الأدباء .. لا يقرأون مثل من ذكرنا من الأدباء السالفين .. فتسعة أعشارهم لا يعرفون أدب التراث .. ولم يفتحوا فى حياتهم سطرا " للأغانى " للأصفهانى أو "صبح الأعشى" أو " عيون الأخبار " أو حتى "كليلة ودمنة" أو " الأمالى " ولا يمكن أن يخرج أديب ممسكا بالقلم ما لم يقرأ بعض هذه الكتب .. والقراءة الأدبية معدومة .. قل منهم من يجيد الإنجليزية والفرنسية لضعف هذه اللغات فى المدارس والجامعات بعد خروج الإنجليز من التدريس والفرنسيين والألمان .. وهم يقرأون لبعض وتجد صورة تكرار واضحة بوضوح مطلق .. يكررون بعضهم البعض .. ولكنى لا أنكر أنه يوجد منهم من طور الرواية والقصة .. ودرس بجهده الشخصى الكثير من الأدب العالمى واطلع عليه .. حبهم الطاغى للشهرة يجعلهم لا يتأنون فى كتاباتهم .. وليس عندهم الصبر للمداومة وتحمل المشقة التى يعانيها الفنان .. ويجرون بسرعة رهيبة إلى الحوادث الجارية فى الصحف .. كسقوط العمارات المشيدة حديثا .. والغش فى المواد الغذائية .. ومثل هذا أزمة المساكن وأزمة الطعام .

ومثل هذه الأشياء لا تعيش إلا فى جوها .. أقصد القصص .. وعاش "شكسبير" ومازلنا نقرأ له وسنظل نقرأ له .. لأنه عالج الموضوعات الإنسانية البحتة .. الحب .. الكراهية .. الخيانة وطبع المرأة فى كل العصور .. فهذه الأشياء خالدة ، فتظل تقرأ عنها وتقرأ لكاتبها .. ومثله عاش " ديستويفسكى " لأنه عالج الموضوعات الإنسانية البحتة .. عالج " الجريمة والعقاب " إلى درجة أنه قال "إن المجرم يعود إلى مكان الجريمة" وقد أصبحت هذه نظرية علمية فى علم الإجرام ، وعالجها الإيطالى " لامبروزو " بعده بخمسين سنة .. فالأديب الشفاف يتنبأ دائمًا .

" الثورة أحيطت بنفر قوى جدا من المنتفعين .. والمنتفع دائما يحب أن يتحرك فى الظلام .. فأول شىء يقومه .. هو الشخص المتنور والمتعلم الذى يأتيه هذا من الثقافة .

هو يعيش فى الظلام ليتضخم ويزداد انتفاعه .. والشعارات التى يرفعها تدخل فى عقول الجهلاء والبلهاء .. عمر ما كان المثقف يقبل هذه الشعارات ويهضمها .. فهى موجة طبيعية لطمس النور من عقول الناس .. ليقبل هزيمة 1967 ونسميها له نكسة .. هذه هزيمة .. هزيمة .. والجيش لم يحارب .. والتفكك وسوء الإدارة كانا واضحين لكل من له دراية بفنون الحرب .. فكيف تقول هذا نكسة ؟ وكيف يتقبل ذلك إلا من كان مطموس العقل ..

فموجة حب الأدب أيام الاستعمار الإنجليزى لم يستطيعوا مقاومتها ، كانت أكبر وأقوى منهم وصراع الفكر رهيب .
الفرق واضح جدا ، لم يستطع الاستعمار بكل جبروته أن يطمس روح الأدب وفنونه من أذهان الشعب .. لأن هذا كان فى صميم القلب .. أما المنتفعون والإنتهازيون للثورة استطاعوا ذلك ".

" إذا حلمنا بأحلام اليقظة ، وأصبح يوجد فى كل بيت مكتبة بالنسبة إلى مصر والعالم العربى ، وإذا حلمنا بأحلام اليقظة وأصبحت القصائد تنشر فى الصفحات الأولى من الجرائد ، مثلما كانت قصائد شوقى تنشر فى الصفحة الأولى من جريدة " البلاغ " وتدفع بتوزيع النسخ المطبوعة كلها من الجريدة فى مدى ربع ساعة ، وإذا حلمنا بأحلام اليقظة وأصبح لمقالات الكتاب من الفعالية ما كان لمقالات سلامة موسى وإبراهيم عبد القادر المازنى وزكى مبارك من دوى أدبى ، عندئذ يمكن أن نطمئن إلى الجو الأدبى ".
============

التقاليد السائدة فى حياتنا الأدبية والنقدية

كانت الثقافة الموجودة فى الثلاثينات والأربعينات ثقافة مزدهرة ، وكانت العناية الجدية بالنقد ..

ويقول البدوى
" عندما يكتب توفيق الحكيم " أهل الكهف .. يكتب عنه " طه حسين " و" مصطفى عبد الرازق " و" العقاد " و" المازنى " و" زكى مبارك " .. وكان فى جريدة البلاغ مخصص للنقد " المازنى " وفى " كوكب الشرق " زكى مبارك .. وكان فى " الأهرام " أحيانا ينقد الشعر أنطون الجميل نفسه .

كما كانت السبب فى وجود المنفلوطى والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد لطفى السيد .. وهذه الثقافة كانت مزدهرة نتيجة العناية الجدية المطلقة بالكتاب " .

" كما أن أديب الأمس ولظروف الحياة المادية نفسها فى ذلك الوقت .. كان روحيا ومخلصا للأدب .. وروحه متشربة لحبه إلى درجة التضحية .. " أنا شخصيا وجدت الزيات كان يعطى لكبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و" طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة ".

ويقول البدوى :
" بمنتهى الصراحة أقول أن النقد الذى ينشر فى صحفنا ومجلاتنا هو مجاملات شخصية لا أكثر ولا أقل ، ونادرًا ما يقوم شخص ويتحمس لنقد عمل نقدًا موضوعيا ".

" الكل يعيش حالة من الكسل الجسمانى والعقلى وينتظر أن تصل الأعمال إليهم ".

" الناقد المثالى الذى يتمتع بروح المحبة للعمل الذى يتصدى له ، والذى يبتعد عن أهوائه الشخصية وروح المجاملة " .

" ومن التقاليد السيئة أن الناقد يكتب عن الأديب وهو غاضب عليه ، فهذا ليس نقدًا موضوعيا ، ومن هذه الأمثلة كتابات طه حسين النقدية عن الدكتور زكى مبارك والمنفلوطى فهى تدل على كراهية شديدة للأديبين ، وظل طه حسين يطارد زكى مبارك فى رزقه حتى فصله من الجامعة ، وكتب عن المنفلوطى هراء ، وهناك أيضا كراهية العقاد للرافعى والذى نتج عنه كتاب "على السفود" للرافعى مع أنهما كانا اسمين كبيرين فى عالم الأدب .. ومثل ثالث هو هجوم المازنى والعقاد الشخصى على شوقى ، ومع ذلك ظل شوقى أعظم شاعر فى العربية بعد المتنبى ، فى حين لم يصبح العقاد شاعرا كبيرا لأن شعره محدود والمازنى هو الآخر طلق الشعر فى حياته .

وسأعطيك مثالا مختلفا من الخارج ، فقد كتب الناقد روبرت شوردر عن أوسكار وايلد كتابا رائعا رد فيه الاعتبار لوايلد ورد فى هذا الكتاب على ما اتهم به وايلد من انحراف خلقى .. وهى الاتهامات التى حطمت أوسكار وايلد وأودعته السجن ، فلازمه شوردر بعد السجن 15 سنة وعرفه عن قرب فى الوقت الذى كان الجمهور يضرب وايلد بالبيض .. يجب أن نتعلم ألا يكتب الناقد عن أديب ما وهو غاضب عليه .

" الشللية أفسدت الأدب عندما دخلت فيه ، ولقد عانيت من هذه الشللية لأننى لا أنتمى إلى شلة ، فأنا أكتب منذ سنة 1931 وعندما يكتب النقاد والدارسون عن تاريخ القصة القصيرة يحذفون اسمى ، أنا لا أهدى كتبى للنقاد أو المشرفين على الصفحات والمجلات الأدبية وبطبيعتى لا أميل إلى المجاملات والعلاقات الاجتماعية ، لقد رشحت لجائزة الدولة التقديرية فى الآداب ثمانى مرات ولم أفز بها . وكلما يقابلنى توفيق الحكيم يقول لى أنت الوحيد الذى أعطيت ولم تأخذ شيئا ، إننى لم أتعب فى نشر قصصى إطلاقا لأنى لا أعطى قصصى إلا لأديب ، والحمد لله فجميع كتبى نفدت وأبحث عنها الآن فلا أجدها " .

ويكفينى حب القراء لى ، وقد تعلمت من الزيات الصبر والإخلاص فى العمل وإتقانه .. وأكبر دليل على هذا أننى استطعت أن أستمر أكتب لنصف قرن رغم أن أحدا من النقاد لم يتناول كتبى فيما عدا الدكتور النساج وعلاء الدين وحيد .. وبعض المحبين من الصحفيين ، وأخيرا قدمنى الدكتور نبيل راغب عندما عرضت قصتى "القرية الآمنة" فى التليفزيون بشكل أنسانى كل الجحود القديم الذى شعرت به على مدى السنوات ، وقد قرأ الدكتور نبيل راغب كتبى وفهم روحى وفنى فى الكتابة بشكل رائع ".

" وأنصفنى من النقاد الدكتور سيد حامد النساج والدكتور عبد الحميد يونس والدكتور غالى شكرى والناقد فؤاد دوارة ".
===========
سرقة قصة
زوجتى والكلب

قال محمود البدوى بذكرياته التى نشرت بمجلة الثقافة " العدد 49 ــ أكتوبر 1977" تحت عنوان "ذكرياتى فى الأدب والحياة " :

" أثناء عملى فى مدينة السويس شاهدت رجلاً كهلاً يجلس على حافة القناة فى بورتوفيق وبجانبه كلبه .. وهو فى جلسته هذه لا يغير مكانه ، ولا نظرته إلى السفن العابرة ..
وحدثت حادثة فى منارة من منائر "مصلحة الموانى والمنائر" إذ تعارك ملاحظان فى تلك المنارة حتى سالت منهما الدماء ، وسافرت الباخرة " عايدة " ( ضربت فى الحرب العالمية الثانية ) لإحضارهما ..

وسمعت بالحادثة وأنا أعمل فى المصلحة .. فأخذ ذهنى يعمل بسرعة .. وتذكرت صورة الرجل العجوز الذى أشاهده كل صباح وأنا ذاهب وراجع من المكتب .. وتكونت قصة " رجل على الطريق " التى سرقت وتغير اسمها وأصبحت فيلما.."
سألت ابنه الأديب عن هذا الموضوع فأخبرتنى بأن هذه الواقعة تعود حوادثها إلى بداية عام 1971 حينما رن جرس التليفون بالبيت وأخبر المتحدث والدها بأن قصة فيلم "زوجتى والكلب" المعروض فى السينما هى قصة "رجل على الطريق" فذهب إلى السينما وشاهد الفيلم .

تبين للبدوى أنه يوجد تشابه وتماثل بين الفكرتين وبين الشخصيات ، فالتشابه كامل بين مكان الحوادث ( موقع الفنار فى القصة بالسويس وفى الفيلم الإسكندرية ) وما ورد فى الفيلم من وصف رجال الفنار المنقطعين عن زوجاتهم وما ينتابهم من ملل وضيق مأخوذ بوضوح من القصة .

وكذلك التشابه فى الشخصيات الرئيسية الثلاث ، شخصية الزوج الذى ترك زوجته الحسناء منفردة ، وشخصية هذه الزوجة التى تعانى من بعد زوجها عنها والزميل الذى يحمل رسالة إلى زوجة زميله فى المدينة وما ترتب عليه من قيام صراع وشك قاتلين فى نفس الزوج .

وقد ركزت القصة على وجود كلب مع الرجل الذى خان زميله ثم قتله وعاش فى عذاب من الندم وتبكيت الضمير ، وبعد خروجه من السجن قطع ما بينه وبين الناس ولم يعد يطيق إلا حيوانا أليفا وفيا لكى يعيش معه . هذه اللمحة الفنية أثرت على ناقل القصة بحيث جعلها عنوان الفيلم .

وخشى مخرج الفيلم سعيد مرزوق من افتضاح أمره فلم يقل إن القصة من تأليفه ولكن عبر عن صلته بالقصة بعبارة فكرة وسيناريو سعيد مرزوق .

* * *
جاءت إلىّ زوجتى بجريدتين ( الأخبار الصادرة فى 10/12/1971 والجمهورية الصادرة فى 29/7/ 1975) ومجلة " الكواكب " العدد 1791 الصادرة فى 26 نوفمبر 1985 .

فى جريدة الأخبار وتحت عنوان " المخرج يرد على الاتهام .. ويدافع عن نفسه .. لم أسرق قصة زوجتى والكلب .. واسألوا " عطيل " سعيد مرزوق مخرج فيلم " زوجتى والكلب " يرد على الاتهام الذى وجهه إليه محمود البدوى بأنه أخذ قصة " رجل على الطريق " المنشورة منذ سنوات وأخرجها للسينما باسم " زوجتى والكلب " بعد أن وضع عليها اسمه باعتباره المؤلف .

إن المخرج يرد عن نفسه الاتهام ، ويقول :
" أنا لم آخذ فكرة الفيلم من البدوى ، وإنما من عطيل بطل مسرحية شكسبير الشهيرة ، فالفيلم كله يدور حول شكوك زوج فى زوجته ، تتحول إلى جحيم يحطم حياته ، لأنه أولاً يعيش بحكم عمله فى فنار بعيدا عن زوجته الصبية الفاتنة ، وثانيا لأن له ماض من المغامرات مع نساء متزوجات .. وها هو الماضى يصبح عبئا ثقيلا على حاضره ، يطارده ويجعله يشك فى زوجته ويتوهم أنها تخونه مع شاب مراهق يعمل مساعدًا له ، وكان قد أرسله برسالة إلى زوجته ..

ويواصل المخرج دفاعه عن نفسه :
" بدأت فكرة الفيلم فى ذهنى ، على أساس أن يكون بطلها رجلاً يعمل فى الصحراء بعيدا عن زوجته .. ويتعذب بالشك ، وعندما عرضت الفكرة على المصور السينمائى عبد العزيز فهمى ، اقترح على أن أغير مكان عمل البطل إلى فنار منعزل على شاطئ البحر ، وفعلا ذهبت معه إلى فنار شدوان على شاطئ البحر الأحمر وكان ذلك منذ حوالى عامين وهناك أردت أن أعيش الفكرة بنفسى وأن أطابقها بالواقع من خلال الحياة اليومية لهؤلاء الناس الذين يعملون فى الفنار ، وحتى هذه اللحظة كانت فكرتى أن يكون البطل شخصا واحدا تعذب بالشك لأن شخصية عطيل كانت فى ذهنى ، ولكن عندما سافرت إلى شدوان استرعى انتباهى شاب عزب يستغرق فى أحلامه .. وبعدها قررت أن أجعل للفيلم شخصين رئيسيين : الرجل المتزوج وغريمه الشاب العزب .

وأيضا وجدت رجلاً يعمل فى هذا الفنار ومعه رسالة ، ينتظر أن يبعث بها إلى زوجته مع أحد زملائه ، عندما يسافر عائدا إلى القاهرة .

كان هذا بالنسبة لى شيئا مثيرا ، فقد كنت أعيش الواقع بتفاصيله كلها ، ولم أكن أحتاج إلى أكثر من ذلك ، فذهبت إلى الغردقة وأمضيت فيها 4 أيام، انتهيت خلالها من كتابه سيناريو فيلم " زوجتى والكلب " وأحب أن أؤكد أننى لم أتقاض مليما واحدًا من مؤسسة السينما باعتبارى مؤلفا لقصة الفيلم ، فأنا لم أكتب قصة ، ولا أدعى لنفسى أننى كاتب قصة ، بل إن الفكرة التى دارت فى رأسى ، تحولت على الورق مباشرة إلى سيناريو وحوار .

لماذا يوجه إلىَّ الاتهام إذن ، إننى لا ألوم الأديب محمود البدوى لأنه وجه لى هذا الاتهام ، فلو كنت مكانه لشعرت بالضيق لأن " بعض " ملامح قصته قد تلتقى مع بعض ملامح الفيلم .. ولكن ضيقه سوف ينتهى لو قرأ دفاعى وسوف يرى معى أن فكرة الفيلم شىء وقصته شىء آخر .

* * *

والبدوى يواصل الاتهام .. كتب مأمون غريب :
الأديب محمود البدوى يواصل اتهامه بأن قصة الفيلم مسروقة من قصته أنه يطلب هذه المرة من نقاد السينما أن يقولوا كلمتهم ، فى قضية السطو على قصته ليس لأنها قضية فردية ، ولكن لأنها قضية عامة تمس حق الأديب والمؤلف .

وقد أرسل إلى " الملحق الأدبى والفنى " هذه الرسالة :
" قرأت بعض ما كتبه النقاد عن فيلم " زوجتى والكلب " ويؤسفنى ويحز فى نفسى أن واحدا منهم لم يشر إلى قصتى "رجل على الطريق" المنشورة فى كتاب "العربة الأخيرة" طباعة "مكتبة مصر سنة 1948" ، والتى أعيد نشرها فى سلسلة الكتاب الذهبى عام 1961 . وهذا الإغفال يجعلنى على يقين إن الكتابة عن الأفلام المصرية ، أصبحت مجرد دعاية ، وأن بعض الذين يكتبون عن الأفلام لا علاقة لهم بجو الأدب وفنونه ، ومع أن صديقا من النقاد أخبرنى أنه نبه عند تقديم الفيلم فى العرض الخاص ، إن هذه القصة هى قصة محمود البدوى ، وأنه أول من كتب عن الفنار وجوه وملاحظيه باللغة العربية .." ولكنهم جميعا تناسوا هذا لسبب لا أعرفه" ، "ومما يؤلمنى أكثر من أى شىء آخر أن المنتج المنفذ للفيلم هو الصديق المصور السينمائى عبد العزيز فهمى وأن المخرج أيضا ــ وأنا أحبه ــ متفتح يجيد عمله وفنه " .

" ولا أدرى من الذى أوحى إليهم جميعا بقصتى فجعلوها على هذه الصورة " .

إنتهت رسالة محمود البدوى ، ويبقى سؤاله يتردد : أين هى كلمة النقاد ..؟

وفى جريدة الجمهورية بعددها الصادر 29/7/1975 تحت عنوان "1000 جنيه تعويض لمحمود البدوى" يقول الخبر :
" القصاص محمود البدوى حكم إبتدائيا لصالحه فى القضية التى أقامها ضد مؤسسة السينما والمخرج سعيد مرزوق الذى زعم لنفسه قصة "زوجتى والكلب" ثبت للمحكمة من تقرير الخبير ، ومن مشاهدة الفيلم ، إن الرواية المعروضة مأخوذة نصا وروحا بكامل إحداثها من قصة "رجل على الطريق" التى نشرها محمود البدوى فى مجموعته القصصية التى تحمل اسم "العربة الأخيرة" حكم للبدوى بتعويض 1000 جنيه " .

وفى حوار أجراه عزت معوض بمجلة الكواكب ونشر بالعدد 1791 فى 26 نوفمبر 1985 .

قال البدوى ..
" اسم القصة الحقيقى .. " رجل على الطريق " .. وبداية معرفتى بالواقعة أنا لى صديق عزيز هو الأستاذ "عاشور عليش" نسيب المصور الكبير "عبد العزيز فهمى" .. وعاشور عليش صديق قديم يقرأ كل كتبى وقصصى .. فواضح أنه أعطى الكتاب الذى فيه القصة للأستاذ عبد العزيز فهمى .. وعبد العزيز فهمى كان يتعامل مع "سعيد مرزوق" ويحبه .. أنا أضمن أنه حكى له القصة ، وأراد هذا أن يخرجها ويغير الاسم ويغير بعض الأشياء القليلة التى لا تغير صلب القصة .

رأيت هذا الفيلم فى سينما " مترو " .. وسمعت إشاعات من كل الناس إن هذه القصة مسروقة من " رجل على الطريق" .. فأخذت محاميا قريبا لى اسمه "شوكت التونى" وذهبنا إلى سينما مترو وشاهدنا الفيلم .. وقال لى إن القصة هى قصتك مائة فى المائة " .

ورفع الأستاذ شوكت التونى دعوى على مؤسسة السينما وعلى المخرج.. حكم القاضى لى بتعويض "ألف جنيه" .. كنت أتمنى أن يكون هذا الحكم على مؤسسة السينما .. لكن الحكم جاء على الأستاذ "سعيد مرزوق" وحده.. شعرت بالقرف ولم أنفذ الحكم .. والدعوى كانت برقم 70987 لسنة 1972 كلى شمال دائرة "2" محكمة شمال القاهرة الابتدائية والحكم صدر بالجلسة المدنية فى المحكمة فى يوم الاثنين الموافق 17/2/1975 .. وأنا قرفت بمجرد عدم الحكم على المؤسسة وهى المسئولة الأولى مائة فى المائة .. لأنها هى التى صرفت عليها وطلعتها .. فكان الأجدر بها فى ذلك الوقت أن تعيد إلى كافة حقوقى المادية والأدبية بمنطق الأخلاق والنزاهة .. وأما عن صمت النقاد .. وربما نقاد الجامعات لا يجدون فى قصصى المنهج الذى فى دماغهم سواء الرومانسية .. أو الواقعية .. أو البينوية .. كل هذه المذاهب لا تدور فى رأسى وأنا أكتب القصة " .
===========
إهداء الكتب للنقاد

كان البدوى لا يهدى كتبه للنقاد أو المشرفين على الصفحات والمجلات الأدبية ، لأنه بطبيعته لا يميل إلى المجاملات والعلاقات الاجتماعية ولا يهديها لغير أديب ، فإنه كما يقول :
" فإن جسمه وروحه لا يتحملان رد فعل فيه رفض من أى إنسان " ، كما أنه لا يعطى قصصه لنشرها فى المجلات والصحف إلا لمن يطلب منه .

ويقول .. " كانت لى طريقة غريبة فى الاختيار ، فأنا لا أتقدم قط إلى شخص ثقيل الدم ولا مغرور ".

وهذا هو السبب فى أنه طبع كتب :
(1) الرحيل .. عام 1935 بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش .
(2) رجل .. عام 1936 بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش .
(3) فندق الدانوب .. مطبعة النهار بالقاهرة عام 1941 . وبمكتبة مصر ومطبعتها عام 1945 .
(4) الذئاب الجائعة .. بمكتبة مصر ومطبعتها عام 1944 .
(5) العربة الأخيرة .. بمكتبة مصر ومطبعتها عام 1948 .
(6) حدث ذات ليلة .. دار مصر للطباعة عام 1953 ، طبعها على حسابه ومن قوته اليومى .
===============================

حياة محمود البدوى الأدبية وجوائز الدولة الجزء السادس ص34*

جوائز الدولة المصرية


*
ميدالية الإنتاج الفنى والأدبى عام 1957 .
* جائزة الجدارة .
* جائزة الدولة التقديرية عام 1986 .
ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى
.
====================

ميدالية الإنتاج الفنى والأدبى عام 1957

لما اشتعلت نيران الحرب عام 1956 وابتدأت الغارات واشترك معظم الرجال فى المعركة وأغلقت المدارس ، كان البدوى مشغولاً بوطنه الذى تحوم فوقه طائرات الأعداء وبالناس الذين أحبهم والذين فوجئوا بالعدوان الوحشى فهبوا جميعا لملاقاته ، وأخذ ذهنه يعمل وقت الغارات والظلام والقنابل ، ولم يدع دقيقة واحدة تمر دون عمل ، إشترك بقلمه وكتب القصص المستوحاة من المعركة ، كتب القصص التى تظهر المعدن الأصيل للشعب المصرى ونضال وشجاعة الرجال ضد الغزو الأجنبى ، ونشرت القصص بالصحف اليومية أثناء المعركة ، وهى :

(1) فى الجبهة ـ ص. الشعب ـ العدد 156 فى 8/11/1956 .
(2) تحت النيران ـ ص. الشعب ـ العدد 163 فى 15/11/1956 .
(3) الماس ـ ص. الشعب ـ العدد 171 فى 23/11/1956 .
(4) رصاصة ـ ص. الشعب ـ العدد 185 فى 7/12/1956 .
(5) عند البحيرة ـ م. الجيل ـ العدد 295 فى 10/12/1956 .
(6) النور ـ ص. الشعب ـ العدد 191 فى 13/12/1956 .
(7) اللوحة ـ ص. الشعب ـ العدد 198 فى 20/12/1956 .
(8) الجريح ـ ص. الشعب ـ العدد 203 فى 25/12/1956 .
وقد كرمته الدولة ونال ميدالية الإنتاج الفنى والأدبى من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عن قصة الماس .

==============
جائزة الدولة للجدارة فى الفنون عام
1978

ورد فى صحف صباح يوم 8/10/1978 خبر عن الذين يكرمهم الرئيس السادات الليلة فى عيد الفن بمنحهم جائزة الجدارة وقدرها ألف جنيه ، ولم يكن من بين المكرمين غير أديب واحد هو كاتب القصة القصيرة محمود البدوى .

فوجئ البدوى باسمه مكتوبا ، ولم يصدق الخبر ، ولم يقل شيئا لزوجته وابنتيه ، وكان هادئا كطبيعته ، وإنهالت المكالمات التليفونية من أصدقائه وأقاربه طول النهار تهنئة بالحصول عليها ، وكان يقول لهم لم يأتنى خبر عنها .

فى الساعة الرابعة من مساء اليوم جاءه مندوب من رئاسة الجمهورية ليسلمه الدعوة لحضور حفل التكريم ، وعندئذ صدق الخبر ، ويرجع السبب فى ذلك إلى أنه كثيرا ما نشرت صحف الصباح فى السنوات الماضية ، اسمه ، وأنه تم ترشيحه لنيل جائزة الدولة التقديرية فى الآداب ، ولم يتحقق الخبر .

ذهب البدوى إلى الحفل بمسرح سيد درويش بالهرم وهو فرح بهذا التكريم .. ودخل الحفل وهو شاعر بدم الشباب يكاد يتفجر من شرايينه ، وحينما نودى على اسمه ليتسلم الجائزة .. يقول عاشور عليش . " فى ثوان انفكت عقدة لسانه ، لم يمارس الخطابة ولو مرة فى حياته ، لم يقابل مسئولاً واحدًا ، فجأة وجد نفسه وجها لوجه أمام السادات ، يده تصافح يد رئيس الجمهورية بطل الحرب والسلام ، والعيون تتلاقى ..
وخرجت الكلمات من فم محمود .. بل من قلبه " أشكرك يا سيادة الرئيس على هذا التكريم ، ليس لأنه من رئيس دولة فحسب ، بل لأنه أولاً من قلب أديب .. ومن إحساس أديب.." وابتسم قلب السادات .

ويضيف عاشور عليش فى مقاله " شىء ما كان يؤرقنى .. سؤال يلح ويلح .. هل سيذهب محمود إلى الحفل ومعه حقيبته الصغيرة التى لا يفارقها أبدا .. أم تراه سيتخلى عنها .. الحقيقة أننى كنت متعاطفا مع الحقيبة .. فهى عمر محمود كله .. والحمد لله لم تظهر الحقيبة ، وإن كان محمود قد تركها عند الباب لحين خروجه ".

وغادر البدوى الحفل ، وقبل وصوله إلى البيت ، أرسل برقية إلى الدكتور رشاد رشدى يقول فيها.

"الدكتور رشاد رشدى رئيس أكاديمية الفنون
تحية مباركة من عند الله .. وبعد :

إن اختيارك للأدباء والفنانين الذين أفنوا حياتهم فى خدمة الأدب والفن وعملوا لخير الإنسان ، وليست لهم صلات شخصية بك هو فى الواقع تكريم لك وتنزيه للجائزة عن الغرض ، كما أنه عمل يبلغ الذروة فى الإخلاص للفن .

رعاك الله ووفقك إلى الحق دوما
والسلام
محمود البدوى
***
وأبرزت الصحف اليومية فى اليوم التالى 9/10/1978 والمجلات الأسبوعية صورة للرئيس السادات وهو يسلم الجوائز للمكرمين .

ويقول البدوى :
" أخذت بكل سرور وبكل فخر جائزة الجدارة عام 1978 من أكاديمية الفنون ، ومن الغريب أننى حتى الآن ــ لا أعرف غفيرا ولا وزيرا فى هذا البلد ، وعندما قرأت الخبر فى الجرائد لم أصدقه ، لأننى ليس لى أية اتصالات " .
* * *
أقوال الصحف والمجلات

يقول محمد جبريل ــ مقدمة مجموعة قصصية لمحمود البدوى ــ ط المجلس الأعلى للثفافة 2000.
" ولأن الرجل طال إهماله ، فلم يحصل على جائزة تشجيعية ولا تقديرية ، فقد اخترع الرئيس الراحل أنور السادات ــ لا يحضرنى تعبير آخر ــ جائزة له سماها جائزة الجدارة ، وهى جائزة لم تتكرر فى عام تال بما يشى أنها خصصت للبدوى ولسواه من الرواد الذين عبرهم تقدير الدولة ولم ينصفهم.
***
وفى جريدة الجمهورية :
" لقد عاش هذا الفنان الأصيل لتواضعه واحتواه إبداعه الفنى لكل شواغل حياته عزوفا عن هموم السياسة وزيف العلاقات والشلل .. متعبدا فى محراب فنه ، حتى أخطأت السينما روائعه الفنية ، كما أخطأته جوائز التقدير السابقة .. كما أخطأت قدرته الفنية أيضا خريطة حياتنا النقدية ، وفرمانات التقييم .. حتى جاءته جائزة التقدير والجدارة بلا صراعات شلة محاسيب ، هذا هو الفنان الصادق الذى تشرفت به جائزته والذى بتواضعه الكريم أعطى للجائزة نفسها وساما اسمه ، الإنصاف الكريم "
***
وفى صحيفة المساء :
" محمود البدوى صديقى الكريم .. المتواضع دائما .. المؤثر لحياة الظل .. الكاره لحياة البريق .. رائد القصة القصيرة بعد تيمور .. محمود البدوى.. أنا سعيد لحصوله على جائزة الجدارة .. شكرا للقلب الكبير الذى تذكره مكرمة تكريما عوض له ما فات من جحود ونسيان" .
ص. الجمهورية:
" أنه شىء غريب حقا أن تتصفح المجلات والجرائد والكتب فلا تجد سوى بعض المقالات عن بعض المجموعات للبدوى ، وبالطبع فهذا التجاهل لا ينقص من قيمة أعمال البدوى وتأثيره فى الحياة الأدبية واعتزاز القراء بإنتاجه ، ولكنه يبقى سؤال للنقاد ، وقد جاء تكريمه بالأمس ، تقديرا لفنه وما قدمه ليزيل عنه آلام المرارة والوحدة " .
***
م. أكتوبر :
" شعرت بسعادة غامرة وأنا أشاهد رئيس مصر محمد أنور السادات يشد على يده بحرارة بادية ، ثم يسلمه وثيقة جائزة الجدارة فى ليلة عيد الفن بمسرح سيد درويش .. تقديرا من الرئيس ومن الدولة لأديب أخلص لفنه .. وظل يواصل مسيرته الأدبية فى صمت مترهب .. غير متهافت على الشهرة الإعلامية وإغرائها الجاذب ، ورغم ابتعاد البدوى عن مناطق الضوء بصورة تكاد تكون متعمدة .. فإن دوره الهام فى تأصيل القصة القصيرة فى أدبنا لا يمكن إنكاره أو إغفاله " .
***
م. الثقافة :
" يجب أن يطلق عليه " راهب القصة القصيرة " لأنه كرس حياته كلها فى كتابة القصة القصيرة ، ولم يتوقف عن الإنتاج أبدا رغم أن النقاد كثيرا ما تجاهلوا أعماله لأنه ليس من أصحاب الشلل ، وهو يؤثر العزلة والبعد عن الأضواء ، لقد كرمه الرئيس محمد أنور السادات فى عيد الفن والأدب بمنحة جائزة الجدارة ويعتبر هذا التكريم تكريما للأصالة والعدالة "

" من نجوم هذا العام الذين منحوا شهادة الجدارة أديب واحد هو كاتب القصة القصيرة الأستاذ محمود البدوى ، اسمحوا لى أن أحدثكم عنه ــ عنه هو ــ لا عن فنه ، فما من واحد أحب القصة القصيرة فى مصر ، وفى العالم العربى ولم يلتق بمحمود البدوى .

فمنذ عام 1933 والبدوى يكتب القصة القصيرة ، واهبا لها عمره وحياته ، وكفاحه وإصراره ، وتجاربه ودمه ، حتى أصبح فن القصة القصيرة لا يذكر إلا واسم محمود البدوى فى مقدمة نجومه ، لم ييأس أبدًا ، لم يتحول أبدًا إلى فن غيره ، إيمانه بالقصة القصيرة وهو هو إيمانه بها منذ بدأ يعشق الأدب ، ويشرف بلقب " الأديب " .

وكان من الغريب والمذهل ــ بعد كل هذا ــ أن يعيش محمود البدوى بعيدا عن الأضواء ، حتى أدركته عناية الله ، واستحق عن جدارة تكريم رئيس الدولة ، وحفاوة الشعب كله" .
***
م. آخر ساعة :
" إن محمود البدوى فنان وأديب .. وأملى وقد كرمته الدولة .. ألا ينزوى بعيدا عن الأضواء ، فالحركة الأدبية ما تزال فى حاجة ماسة إلى قلمه .. وإن كان هو قد تخطى دور الشباب .. فقلمه ما زال شابا " .
***
ص. الوطن العمانية :
" وأخيرا ومتأخرا ، نال محمود البدوى جائزة الجدارة .
ولعلى أتصوره على البعد ــ وقد تبددت غلالات الحزن من نفسه ، لابد من أن سنوات التجاهل الطويلة كانت خطأ من الآخرين ، وليست تهوينا من قيمة فنه الرائع المتميز .."
* * *

جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1986
ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى

منح البدوى فى العام الذى توفى فيه (عام 1986) على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب ..

يقول يوسف الشارونى
" تنبه المسئولون عن الثقافة فى تلك الفترة إلى حصاد محمود البدوى ، فرشحوه بعد وفاته لجائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام وفاته ، أى أن وفاته هى التى أيقظت الضمير الأدبى من تجاهله لهذا الأديب كما حدث بعد ذلك مع إحسان عبد القدوس عام 1989 ويوسف إدريس عام 1990 وغيرهم ، ومن حسن حظ هؤلاء أنهم كانوا على فراش موتهم خلال الأشهر الثلاثة التى يتم فيها الترشيح لجائزة الدولة التقديرية ــ أكتوبر ونوفمبر وديسمبر من كل عام ــ لأنه لا ترشيح لمتوفى ، لكن يمكن منح الجائزة لمن توفى بعد ترشيحه عند الاقتراع على الفائز بها" .

وفى احتفال المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية فى المركز الثقافى يوم 29 يونيه 1991 تم توزيع جوائز الدولة ( التقديرية والتشجيعية ) على الفائزين بها ، وذهبت زوجة البدوى إلى الحفل ، ووزع على الفائزين بالجائزة التقديرية أروابا زرقاء وعلى الفائزين بالجائزة التشجيعية أروابا حمراء .

وحينما نودى على اسم المرحوم محمود البدوى صفق الحاضرون طويلا ، وصعدت الزوجة إلى المنصة وتسلمت من الرئيس محمد حسنى مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى وميدالية .

ووزع على الحاضرين الكتاب التذكارى الذى يتضمن تاريخا شاملا للجائزة منذ إنشائها سنة 1958 بعنوان " احتفالا بجوائز الدولة التقديرية والتشجيعية للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية " مصر تكرم أبناءها المبدعين .. 1958 ــ 1989" .
وورد تحت اسمه بالصفحتين رقمى 101 و102 الآتى

المرحوم الأستاذ محمود البدوى
حائز على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1986
ولد فى 4 ديسمبر 1908 .

أوجه النشاط :
ــ أصدر عشرين مجموعة قصص قصيرة .
ــ عضو مجلس إدارة نادى القصة .
ــ عضو دائم بلجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة .
ــ عضو شعبة الأدب بالمجالس القومية المتخصصة وعضو لجنة القصة بها .
ــ مارس الإبداع فى القصة القصيرة من عام 1935 حتى كاد يصبح المتخصص الوحيد فيها .

أهم ما يميز قصصه القصيرة

ــ عبرت قصصه القصيرة عن الواقع المصرى تعبيرا صادقا من خلال رؤيته غير المتحيزة أو المتعصبة التى تشوبها التطلعات وتفسدها الأهواء والمطامع فقد تناول الواقع تناولا عاطفيا شاعريا .
ــ لا يركز فى قصصه على أحداث لها خصوصيتها ولا على صور لها طرافتها . وقد اختار معظم أحداث قصصه من الريف المصرى فى إقليم الصعيد بتقاليده وأخلاقيات الناس فيه والعلاقات السائدة بينهم .
ــ كان دائم المقارنة بين حياة الفلاح المصرى وبين حياة الفلاح فى كل بلد يزورها كرحلاته إلى اليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج وروسيا.
ــ أول كاتب قصة عبر عن حياة عمال التراحيل ومعاناتهم من أجل الحصول على لقمة العيش .
ــ صور جانبا من الحياة فى اللوكاندات والبنسيونات ، وهو لون من الحياة لم يشاهده المصريون ولم يقرأوا عنه كثيرا فقد وجد مجالا خصبا لتصوير قطاع من الحياة المستترة والغريبة على مجتمعنا وما يدور فيها بعيدا عن أعين العاديين من الناس وبخاصة الطبقات الكادحة التى لا تعلم عن هذه الأماكن شيئا .
ــ فى بعض قصصه نزوع نحو النقد الاجتماعى ونقد الواقع بواسطة اختيار بعض الأحداث الجزئية التى تكشف عن عيوب أو قصور .
ــ يساير فى قصصه القصيرة المجتمع فى تطوره فلا يقف جامدا عند حد تصور الماضى وإنما هو يصور المجتمع الجديد فى قصصه ويكشف عن مدى إحساسه بما حدث فيه من تحول ، ويلاحظ هذا فى قصصه التى كتبها بعد عام 1956 وهو يركز على القيم الجديدة والعلاقات الجديدة .
ــ التزم بالقالب الفنى للقصة القصيرة .
ــ ترجمت قصصه إلى اللغات الألمانية والمجرية والفرنسية والروسية ، كما أن المستشرق المجرى جرمانوس أعد دراسة عن كُتاب القصة المصرية وتناول فيها أدب محمود البدوى .
ــ توفى فى 13فبراير 1986 .
================================