الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

حياة محمود البدوى الأدبية والإحساس المبكر للأدب الجزء الأول ص39


الإحساس المبكر بعملية الأدب

* التعليم الابتدائى .
* دار الكتب المصرية .
* تعلم الموسيقى .
* نظام التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية .
* كلية الآداب بالجامعة المصرية .
* مجلة الرسول .
* الأدب الروسى .
* مؤلفات د.هـ لورنس .
* بداية العهد بأستاذه الزيات .
* ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية .

=============

التعليم الابتدائى

تعلم البدوى القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بكتاب مسجد الخطباء فى القرية التى ولد ونشأ فيها " قرية الأكراد " ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، وأقام بالمدينة ، وكانت تجربته الأولى التى يعيش فيها بعيدًا عن أسرته ..

يعود فى الأجازات المدرسية إلى القرية ويقضى الليل فى الحقول ووسط الفلاحين وهم يحرسون الأجران ، يجلس معهم ويتندرون ويفيضون بأعذب الأحاديث والسير ، ويوقدون النار فى الدريس لعمل الشاى ويجذبون سمعه بحكاياتهم الشيقة ..

كان رجال الليل بأثوابهم الداكنة ومغطين رؤوسهم وأعناقهم بالملاحف ، مسلحين بأحدث طراز من البنادق يمرون عليهم ويجلسون يشربون الشاى ويقصون عن مغامراتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب والمزارع الغنية لبعض الثراة ويحكون عن حوادثهم مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول والتجار العائدين من الأسواق ..

وفى المدرسة الابتدائية التقى البدوى بالشيخ صالح مدرس اللغة العربية والذى كان فى ذات الوقت يعطيهم حصة الدين ــ وهو كما يراه " مفكر سبق زمانه بزمان " ويعترف بفضله عليه حيث يقول عنه ..

" أول من أدين له ، لأنى أعتقد أن هذا الرجل هو أول من فتح قلبى لقراءة التراث العربى وكانت حصته من أحب الحصص إلى نفوسنا ، مع أنها كانت حصة الدين ، ولأن هذا الرجل كان بطبعه واسع الاطلاع ، فقد أخذ يحدثنا من كتاب السيرة لابن هشام عن الكثير من الوقائع التاريخية ويزيد هو عليها من براعته ومن نفسه المتفتحة وحبب إلينا الاستماع والتلهف إلى ما يأتى من الدروس .. كان يقص علينا السير .. بأسلوب أخاذ فى استفاضة وتطويل .. وكنا ننصت إليه خاشعين لطريقته فى الشرح .. وهو يبسط ذراعيه ويضمها طبقا لمقتضى الحال ، ومنه أخذنا نقرأ ونرجع فى شوق ولهفة إلى كل ما كان يشير إليه من هذه السير " ..

وجد البدوى نفسه يتجه إلى الأدب ينهل ويغترف منه بلا حدود وقد ساعده على ذلك وجود مكتبه فى البيت بعضها من التراث وبعضها من الأدب الحديث .. ويقول "كان من الطبيعى أن هذه القراءة ساعدتنى فى مواضيع الإنشاء التى كنت أكتبها فى المدرسة والخواطر التى كنت أسجلها فى كراستى الخاصة ، ومن الإعجاب الذى كنت ألقاه من جراء هذه الخواطر تكون عندى الإحساس المبكر بعملية الأدب " ..

==================

دار الكتب المصرية

بعد أن أتم البدوى تعليمه الابتدائى جاء إلى القاهرة ليكمل تعليمه الثانوى والتحق بالمدرسة السعيدية بالجيزة .. وعرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ، فكان يقرأ ويطالع كيفما أحب وشاء من كتب السيرة ومن الأدب العربى القديم .

ويقول " وبهذا التوهج والحب للكتاب والأدب إنتقلنا من مرحلة الدراسة الابتدائية .. التى كانت المنبع لحب الكتاب إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق لنتزود بالمعرفة وتتسع الآفاق فى البحث والدراسة "..

" كنت أذهب إلى دار الكتب .. لأنى أجد فى الدار مكانا هادئا للمطالعة والمذاكرة أحسن من البيت ، وكان قد أعد بها مكان جديد مريح سمى " مكتبة الطالب " يختار فيه الطالب الكتاب الذى يرغب فى مطالعته من صفوف الكتب التى حوله فى المكتبة حسب تصنيفها .. ويتناوله بيده دون الحاجة إلى كتابة استمارة وانتظار الكتاب من المخزن ، وفى سبع حالات من عشر يكون رد المخزن ــ لا يعار .. بالخارج .. به تمزيق ..

ورواية ماجدولين هى أول رواية قرأتها فى حياتى .. وأعجبت بعد قراءتها بالمنفلوطى إعجابا شديدا .. فقرأت جميع مؤلفاته .. المؤلف منها والمترجم ، وأنا أزداد إعجابا بالرجل وتعظيما له .

وكانت صورة المنفلوطى فى زيه الشرقى الجميل ووجاهته تتصدر المكتبات والصحف ، كان ملكا متوجا على عرش الأدب .

ثم وقع فى يدى كتاب الأغانى للأصفهانى بكل أجزائه ومن فرط متعتى وانبهارى بمحتوياته وأسلوبه وطريقة حكيه ، إنطلقت التهم كل أجزائه ، ثم أعود لأقرأها مرات أخرى ، وكان هذا الكتاب لا يفارقنى لفترة طويلة ، فقد أدخلنى عالما لا يقتصر على الأسلوب الأدبى وكثرة ما يحتويه من كنوز الشعر والحكمة والطرائف ولكنه يقدم لى أيضا العواطف والمشاعر والغرائز الطبيعية البشرية بكل أحوالها ومادة لا تنفذ من الحكايات والحوادث والوقائع ..

وبعد قراءة هذا الكتاب وجدت فى نفسى القدرة على التعبير القصصى ثم تزايدت العملية إتساعًا وامتدادًا مع التجارب والقراءة واتضاح معالم الاستعداد الذاتى بما يجعل العملية معقدة يصعب تحديد فواصلها ، ولكن لا يمكن أن أنسى أن كتاب الأغانى كان نقطة تحول كبيرة عندى وأنه يفضله ترسخ عندى اليقين بأننى سوف أكون كاتبا قصصيا ذات يوم ..

وقرأت ألف ليلة وليلة بالإنجليزية .. والمترجم مستشرق كبير .. وكنت أقرأ الكتاب بالعربية أولاً ثم أطويه وأبدأ بالنسخة الإنجليزية .. ووجدت نفسى بعد شهور قليلة أستغنى عن النص العربى .

وقرأت الأدب القديم والحديث .. ونوعت وسائل الاطلاع .. وساعدنى على ذلك ذهابى إلى دار الكتب يوميا .. قرأت فى دار الكتب مجلة البيان لعبد الرحمن البرقوقى وكان يكتب فيها محمد السباعى وعباس حافظ والعقاد والمازنى مقالات وترجمات عن أدب الغرب فى كل ألوان الأدب وفنونه .

ثم قرأت مؤلفات الزيات والمازنى والعقاد وتوفيق الحكيم وزكى مبارك وصادق الرافعى وطه حسين وعلى أدهم وسلامة موسى وحسين فوزى وشوقى وحافظ وطاهر لاشين وإبراهيم المصرى ويحيى حقى ومحمد تيمور ومحمود تيمور .

كما قرأت فى دار الكتب عيون الأخبار وصبح الأعشى .. والبيان والتبيين ودواوين المتنبى والبارودى وابن الرومى ومهيار .
وكانت الجلسة فى دار الكتب مريحة وتساعد على طول المكوث ونسيان المرء أوقات الطعام ..

وقد سهل علينا الاطلاع فى ذلك الوقت أن الدار كانت منتظمة ، وكانت تخرج الكتب للقراء بروحها وقلبها ..

ولكثرة ترددى أصبحت لى علاقة صداقة مع الملاحظين فى القاعة ، وكانوا يسهلون لى الحصول على الكتب ، كما إن قاعة المطالعة فى دار الكتب كانت مليئة بالمجلدات التى تسهل للإنسان القراءة دون كتابة الاستمارة وانتظار ورود الكتاب .

وكثيرا ما يقع المرء على جمال يفوق الوصف جاء مصادفة فى المقعد القريب أو البعيد .. جاءت زائرة تطلع أو مستشرقة تدرس وتطلع على المخطوطات ، وأنا أعشق الجمال وأحب أن أراه فى الطبيعة وفى الإنسان .

وفى دار الكتب تعلمت من الحكمة المسطرة بالخط الفارسى على الجدران .. كل كتاب تقرأ تستفد .. فكنت أقرأ كل كتاب يقع فى يدى ولو جاء خطئا من مخزن الدار .
كما تعلمت " وخير جليس فى الزمان كتاب "

أما الآداب الأجنبية فقد قرأت تشيكوف بهوس وتأثرت به جدًا ، وتأثرت أيضا بديستويفسكى وهو كاتب ليس له مثيل من ناحية الغوص فى أعمق أعماق النفس البشرية ، كما أعجبت جدا بمكسيم جوركى ككاتب عظيم خلق نفسه بيديه وعاش الحياة بطولها وعرضها .

أدب هؤلاء الثلاثة فيه الصدق والواقعية ويتعدى كل الحدود التى يفرضها النقاد ، وإليهم يرجع الفضل فى حرصى على إضاءة الشخصية الإنسانية من داخلها وليس من ظاهرها السطحى ، وذلك عن طريق الاهتمام بالانفعالات النفسية وتأثير الظواهر الخارجية على الأعماق .

تعقيب على قراءات محمود البدوى بدار الكتب :

احتفظ محمود البدوى بخمس دفاتر صغيرة فى مكتبه ، ولم تمتد إليهم يد عابث ، خلال تنقلاته من مسكن إلى آخر منذ جاء إلى القاهرة ، كتب على واحد منه عام 1929 والثانى عام 1943 والباقى بدون تاريخ ..

كتب فى ثلاث منهم عناوين الكتب التى قرأها فى الدار باللغتين العربية والإنجليزية وهى عن تاريخ الأدب وعن الرواية والقصة والفلسفة والتاريخ والطب والاجتماع ، والدفتران الآخران أحدهما كتب فيه مفردات لغوية وعنونه بعنوان "لغة" ، والثانى عنونه باسم « مختارات شعرية » وكتب فيه الكثير من أشعار المتنبى وابن الرومى والبحترى والمعرى .
===============

تعلم الموسيقى

حينما نزح البدوى من الريف إلى القاهرة لم يكن له أهل فيها ، فأقام فى كثير من البنسيونات والغرف المفروشة وأحس بالفراغ ولم يستطع صحبة أهل المدن ونفر منهم ، فكان يرى السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف الطريق ، وكان يفكر فى الحياة التى يعيشها هؤلاء الفلاحون وفى ليل الريف وظلامه ، وقارنها بحياة الناس فى المدينة ويشعر بالضيق الشديد، ويجد لذته فى القراءة والاستماع إلى الموسيقى ، وحبه وعشقه لها تعلمها على يد رجل موسيقى من أصل تركى . وجاءت فرصته فى أن يتعلمها مع زملاء المدرسة « بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية » . كان المعهد فى حاجة إلى معونة سخية من وزارة المعارف .. فرأى أن يضم لفصوله الدراسية، بعض طلبة المدارس الثانوية الأميرية .. ليعزز طلب المعونة " .

وعن هذه الفترة يقول البدوى .. « كان أمير الشعراء شوقى بك .. يزور الفصول يوميا .. ويقف على باب الفصل صامتا دقيقة واحدة وفى فمه السيجار .. وندر ما كان ينطق أو يوجه إلينا سؤالاً .. ثم يذهب سريعا كما جاء ..
وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة .. اخترت الكمنجة كآلة .. وكان هذا من سوء اختيارى لأن دراستها صعبة .. وكنت أستعد للبكالوريا بكل جهودى فأهملت الموسيقى .. وانقطعت عن المعهد » .
================

التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية

يقول البدوى : " فى حصة الهندسة بمدرسة السعيدية دخل المعاون ووزع علينا مسرحيات شوقى .. ومثل هذا كان موجودًا فى كل المدارس من الابتدائية والثانوية والجامعات .. كان كل به مكتبة ضخمة تضم كل الكتب والمراجع العلمية والأدبية ..

والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام .

وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ويستعمل لفظة غليظ فى إسراف.. وتبسم الشيخ شتا.. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن "عذاب غليظ" فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ ..

وكان الشيخ طموم يجعلنا .. نكثر من قراءة كليلة ودمنة حتى إننا من كثرة معاودتنا له حفظناه .. وما من كاتب فى الدنيا فى بلاغة ابن المقفع ..

وفى البكالوريا .. كانت مقررة علينا مسرحية بالإنجليزية .. نحب حياة " إبراهام لنكولن " وقد وجدنا فيها ما حببنا إلى الرجل بصفاته العظيمة .. وأخذت أقارنه "بعمر ابن الخطاب" والقياس مع الفارق بالطبع ــ فعمر قمة القيم فى المخلوقات البشرية بعد الأنبياء والرسل .. ولكن خط حياتهما واحد .. عدل .. وصرامة .. ونظام .. وتقشف إلى درجة التصوف .. فى الحياة الخاصة .. ووقوف فى وجه الظلم .. واستضعاف الإنسان لأخيه الإنسان .. الفقير والضعيف عند عمر .. والعبيد فى الجنوب عند لنكولن ..
ثم موت كل منهما بالاغتيال .. خنجر هناك فى المسجد ورصاصة هنا فى المسرح ..
============
كلية الآداب بالجامعة المصرية

ونجح محمود فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وظل على عهده بالذهاب إلى دار الكتب يوميا يقيم فيها إقامة مطلقة .. "وكما يقول .. لضيق ذات اليد" فلم يكن فى استطاعته شراء كتب التراث ، مما أفاده من ناحية الأسلوب وانتقاء الألفاظ والبعد عن الألفاظ السوقية والخلخلة فى الجملة وضعف التركيب ، وتأثر بالزيات والمازنى وحدهما من بين أساتذة البلاغة فالاثنان من أصحاب أصح الأساليب العربية ، أما طه حسين فكثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده " . .

ويقول البدوى " وعلى الرغم من أننا كنا ندرس فى البكالوريا وفى كلية الآداب شكسبير ودكنز وتوماس هاردى .. وملتون وجولد سميث .. وجويس .. وغيرهم من الكتاب والشعراء الإنجليز .. ولكن قراءة الكتب المقررة غير القراءة بالاختيار .
فقد أخذت دافيد كوبرفيلد لدكنز .. وصورة دوريان جراى لاسكار وايلد .. والحلم لزولا .. كما أخذت الديكاميرون والهيمبترون ..

وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها سألنا الأستاذ ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..

سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة « بوفون » الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب ".

سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف "المنفلوطى" وعباءة "الزيات" فقلنا المنفلوطى والزيات.. والمازنى.. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ــ وطه حسين .. ؟

فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على أسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى.. والزيات.. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى.. هم بلغاء العصر فى نظرنا .. وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب ..
============

مجلــة الرســول

كان محمود دائم التردد على دار الكتب المصرية بباب الخلق للاطلاع ، ويمر على مطبعة ومجلة الرسول وهو فى طريقه إلى البيت فيرى محمد على غريب ( الذى تعرف عليه فى المكتبة الأدبية بأسيوط ) وصاحب المجلة فى عمل متصل ، فيجلس ليقرأ أو يكتب ، وكتب مقالتين بالمجلة الأولى عن الموسيقى والثانية عن الموسيقى والغناء عام 1930 ..

ويقول " لم تكن القصة هى أول شىء نشر لى ورأيته مطبوعًا .. فإن أول ما نشر لى مقالة قصيرة عن الموسيقى نشرت على عمود فى مجلة " الرسول " سنة 1930 على ما أذكر .. وصاحب المجلة هو الأستاذ محمود رمزى نظيم .. رحمه الله ، وكان يتخذ من مطبعة صغيرة فى باب الخلق مقرا ومكتبا .. ويعاونه فى تحرير المجلة من الغلاف للغلاف .. الأستاذ غريب .. ولا ثالث لهما ..

وكنت أنزل من دار الكتب وأذهب إليهما فى المجلة وأراهما فى عمل متصل ، فأجلس لأقرأ أو أكتب .. وأنا مفتون بحروف الطباعة ، وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام ..

وكتبت مقالة عن الموسيقى والغناء وتركتها على المكتب فى المجلة .. خجلت أن أقدمها لواحد منهما .. ونشر المقال فى العدد التالى ، وفرحت به كثيرا .. فرحت عندما رأيت اسمى مجموعًا لأول مرة بحروف الطبع فى ذيل المقال ..

وفى اليوم التالى لصدور المجلة دخل علينا فراش أسمر يحمل هدية للمجلة .. مسرحيات أمير الشعراء شوقى بك .. مجنون ليلى .. مصرع كليوباترا ..

وقال رمزى نظيم ضاحكا ؟
ــ هذه الهدية لك أنت ..
ــ لماذا ..؟
ــ لأنها بسبب مقالك ..
ونظرت إليه متعجبا .
ــ لم أذكر شوقى بك فى مقالى ولم أتعرض للشعر .
ــ ولكنك ذكرت موسيقيا يحبه ..
ــ وكنت قد ذكرت بالخير موسيقيا شابا من طلبة المعهد.."
==========

الأدب الروسى

ترك البدوى الدراسة بالجامعة والتحق بالعمل فى وزارة المالية بتاريخ 12/3/1932 ونقل إلى مصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس .. ويقول « كان محمد السباعى وعباس حافظ يترجمان كثيرا من روائع الأدب الروسى.. فعشقت هذا الأدب للتشابه الشديد بيننا وبينه فى الحياة وجو الريف ووصف حياة الإنسان المطحون الذى لا حول له ولا قوة ..

ثم بدأت أقرأ هذا الأدب مترجما من الروسية إلى الإنجليزية من ترجمة الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنت .. وكانت تحب الأدب الروسى وعاشت تنشره بلغتها ..

وبهرنى تشيكوف وديستويفسكى ومكسيم غوركى .. وبهرنى الأخير أكثر لعصاميته وصلابته ولأنه شق طريقه فى الحياة بأظافره .. ولكن تشيكوف كان أستاذ كل من كتب القصة القصيرة وتفرغ لها ..
===========

مؤلفات د. هـ لورنس

وحدثنى أديب فى المصلحة التى أعمل فيها عن كاتب إنجليزى من طراز جديد .. وأطلعنى على مقال نشر عنه فى جريدة كوكب الشرق ، فقرأت المقال وازددت شغفا بالكاتب ..

فقد كان كما صوره المقال نفسانيا يحلل أعماق النفس البشرية ، ويصل بتحليله إلى أغوارها البعيدة ، ولم أجد له مؤلفات فى مدينة السويس .

فلما ذهبت إلى القاهرة فى أول إجازة وجدت فى مكتبه ألمانية بشارع عماد الدين كل مؤلفات د. هـ لورنس .. فى طبعات ألمانية (الباتروس) فأخذت منها ما أستطيع دفع ثمنه . وأخذت أقرأ لورنس بنهم وتأثرت به من ناحية تصوير الجنس بعنف .
=============


بداية العهد بأستاذه الزيات

قرأ البدوى آلام فرتر للزيات وبعدها روفائيل خير أعمال لامرتين الأدبية، فأحب الرجل وأعجب به لأنه لم يتعمل فى الترجمة ولم يتصنع ، فجاءت ترجمته آية الآيات الفنية ، ولم يبدأ حياته الأدبية بالهجوم ــ مستوقفا الأنظار ــ كما فعل غيره من الأدباء ، ولم يهرج لكتبه بالطريقة الأمريكية المعروفة لكثيرين ، ولم ينشر عن نفسه ثناء ولا حمدًا ، ولم ينزل بفنه إلى مستوى العامة ، ولم يكتب ليرضى الجمهور ويتملق الناس ، وإنما عمل فى صمت وسكون وإخلاص ..

" وأنشأ الزيات مجلة الرسالة بعد رجوعه من العراق ، وأعد لها العدة عن فهم وبصيرة بما يجرى حوله ، فقد كان العالم العربى من مشرقه ومغربه فى حاجة ماسة إلى مثل هذه المجلة الأدبية ، فلما صدرت استقبلته استقبالاً عديم النظير ..

كانت توزع سبعة آلاف نسخة فى العراق وحدها ، وكنت وقتها فى مدينة السويس وأقدر الرجل وأجله كأستاذ لجيل ، فقد تحولنا إليه بعد أن شبعنا من المنفلوطى ، تحولنا إليه نتغنى بأسلوبه وبلاغته ..

ولما وقع فى يدى العدد الأول من المجلة فرحت بها وكتبت له أهنئ وأمجد عمله ولم أذكر فى الرسالة اسمى ، وظل الرجل الكريم الصفات لا يعرف صاحب هذه الرسالة إلى آخر أيامه ، ولكنها أبهجته حقا ، وشرحت قلبه لأنها صادرة من مجهول أكثر من أى شىء آخر ، فعلق عليها فى العدد الثالث من المجلة بالعبارة التالية .. وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته، ثم يحمل نفسه ووقته جهد الكتابة إليك صفحات فى تأييد وقدرة ، ثم لا يريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه . ويقول البدوى " أوصى أبناء هذا الجيل بالرجوع إليه " .
==============

ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية

كان البدوى ــ وقت صدور مجلة الرسالة ــ يقرأ الأدب باللغة الإنجليزية والأدب الروسى خاصة مترجما إلى الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت .. لأنه كما يقول " الجو الروسى التشيكوفى على وجه التحديد يصور حياة الفلاح الروسى تماما كالفلاح المصرى" فبدأ يترجم أعمالاً للأدباء الذين كتبوا عن بشر يشابهوننا ، ويقول :
" ترجمة الآداب الأجنبية علمتنى ما لم أتعلمه من أديب آخر ، لقد حفرت طريقى بنفسى ولم أعتمد على الآخرين ، فقد اتخذت منذ البداية خطى ومنهجى وشكلى فى الكتابة من أدباء الغرب الذين قرأت وترجمت لهم وعلى رأسهم جميعا تشيكوف .

وحينما صدرت مجلة الرسالة كان يقرأ قصة "الجورب الوردى" لتشيكوف وترجمها ، ودفعه حبه لأستاذه الزيات أن يرسلها إليه بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت الترجمة بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها من القصص القصيرة لتشيكوف ومكسيم جوركى .. وموبسان ..

* * *

===============================

ليست هناك تعليقات: