الاثنين، ١٨ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 50 القصة الحقيقية وراء قصة الرنين

قصة القصة
الرنين


سافرت إلى " موسكو " فى صميم الشتاء ، وفى قلبى فرحة ، وفى نفسى لهفة إلى زيارة مقر العباقرة العظام دستويفسكى .. تولستوى ..
جوركى .. تشيكوف .. جوجول .. يوشكين .. الكسندر كوبرين .. جارشن .. هؤلاء القدامى الأفذاذ .. الذين ظلوا صامدين فى وجه كل أعاصير السياسة والتحول .. ولم يستطع أن يطمس نورهم لا قوى ولا ضعيف ..
هؤلاء هم الذين علموا كتاب العالم أجمع كيف تكتب القصة والرواية ..
وما من أحد من الأفذاذ إلا ودان لهم بالفضل .. كتبوا للحياة ومن الحياة .. وعاشت قصصهم ما دامت الحياة تجرى فى شرايين الوجود ..
كانت لهفتى وفرحتى لا حد لها .. وأنا أضع قدمى فى أرض المطار .. ونسيت البرودة الشديدة .. والثلج الساقط .. والشىء الرهيب الذى يجز رقبتك كحد السيف القاطع إن لم تكن قد تلفعت وغطيت الرأس والعنق والأذنين بالصوف السميك .. نسيت هذا كله لأنه بعد ساعات قليلة سأكون فى شارع غوركى .. ومنـزل تشيكوف ..
غوركى الذى علم نفسه وخرج من مدرسته وقلب الحياة كأعظم أستاذ وأعظم معلم ..
وتشيكوف الذى زار جزيرة سخالين .. ليكون قريبا جدا من نبض الحياة .. ونبض الواقع ..
وليكون أنبغ كاتب قصة قصيرة فى هذا العالم ..
كان يكتب على مائدة صغيرة فى غرفة الكشف على المرضى ..
وفى هذه الغرفة كان ينام أيضا .. وظل بيته فى موسكو محتفظا بكل دقائقه الصغيرة وطابعه .. كأن صاحبه لا يزال حيا ويتنفس فيه ..
القلم الذى كان يكتب به روائعه كما يكتب به روشتات المرضى .. ظـل موضوعا فى مكانه من المكتب .. أى حفاظ وأية رعاية .. بالخالدين ..
نزلت فى أكبر الفنادق بالمدينة .. وأصبح فى نظرى مدينة عامرة فهو من تسعة طوابق .. وضخامته لاحد لها .. واسمه يطابق المقاطعة التى ينتمى اليها ..
ولابد من ذكر كل هذه التفاصيل .. لتكون القصة أكثر وضوحا فى ذهن القارىء ..
أخذت الدور التاسع .. ليقع نظرى فى سهولة على أنوار المدينة فى الليل .. وعلى الثلج الساقط .. وعلى الحركة فى الشارع .. حتى إذا حبسنى البرد والثلج عن الخروج من الفندق .. أجد فى هذا المنظر المتجمع ما أتنسى به ، ويخفف عنى وحدتى ..
ولكن حدث ما خفف عنى وحـدتى من حيث لا أحتسب ولا أقدر ..
ففى منتصف الليل تماما .. وكانت الساعة الكبيرة تدق .. سمعت رنين جرس التليفون فى غرفتى .. فقمت من تحت الأغطية السميكة .. واتجهت إليه ..
ـ آلو ..
ـ آلو ..
ـ من المتكلم ..؟
ـ من المتكلم ..؟
كانت المتحدثة سيدة تتكلم بالإنجليزية بلهجة أجنبية واضحة .. فى نفحة صوتها .. وتردد نفس كلامى .. ولا شىء آخر .. ولا إيضاح أكثر ..
ـ أرجوكى .. ماذا تريدين ..؟
ـ أرجوكى .. ماذا تريدين ..؟
ـ لقد أخطأت فى رقم التليفون ..
ـ لقد أخطأت فى رقم التليفون ..
ـ أرجوكى أنا مريض ..
ـ أرجوكى أنا مريض ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..
ـ ليس معى دولارات ..
ـ ليس معى دولارات ..
وكانت موسكو فى ذلك الوقت .. فقد فتحت أبوابها للجميع .. بعد إغلاق طويل .. ففكرت أن تكون واحدة من نزلاء الفندق .. أصبحت فى حاجة ملحة إلى شراء شىء تاقت إليه نفسها .. ولكنها لا تستطيع شراءه إلا بالدولار .. والبيع والشراء فى سوق الفندق الحرة بالدولار ..
وفى الليلة التالية .. وفى نفس الوقت .. سمعت رنين التليفون ..
فنهضت من الفراش .. وسمعت نفس الصوت يتحدث بالإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ويردد كلامى ..
تكرر هذا العبث أسبوعا بطوله .. وكان فى استطاعتى ألا أتحرك .. ولا أرفع السماعة .. ولكننى كنت أتصور أنها قد تفصح عن نفسها بعد كل هذا الغموض .. وينزلق من لسانها زلة تعرفها بشخصها ..
وهكذا أصبح هذا الرنين جزءا من اقامتى فى الفندق ، وطابعا من وجودى فيه ..
واتجهت إلى البحث عن هذه السيدة بين نزلاء الفندق بكل ما أملك من جهد .. وكان فى الطابق الذى أقيم فيه نزلاء .. من طاقم طيران يابانى ومن الهنود ومن الألمان ، وبعد أن سمعت صوتهن استبعدتهن تماما .. ومن السهل أن تكون من العاملات فى الفندق .. أو من مركز الاستقبال فيه .. ولكن معرفتها ستجرها إلى الفصل من الخدمة .. فما أشد النظام والصرامة فى موسكو وهما الطابع البارز لها ..
فهل جئت للسياحة والدراسة أم لقطع أرزاق الناس ..
ولكن كيف عرفت رقم تليفونى .. من السهل ذلك متى عرفت رقم الغرفة ..
تركت الأمور تجرى فى أعنتها .. وتركت التليفون يرن ..
ولكن حدث ما جعلنى أضيق من الحلقة التى كنت قد رسمتها حول المتحدثة ..
ففى كل طرقة من طرق الفندق .. عاملة تجلس إلى مكتب .. ويسلمها النزيل المفتاح .. عند خروجه ويأخذه منها عند عودته ..
وهذا النظام يعمل به فى كل طابق من الطوابق التسعة .. ولذا يكثر وجود هؤلاء العاملات وهن يتغـيرن ، فالتى فى الصباح غير التى فى المساء ..
وحدث وأنا أتسلم المفتاح فى الليل من العاملة المخصصة لطابقى .. أن وجدتها تبتسم .. وتبتسم ابتسامة خمنت أن لها معناها .. وأصبحت كلما أخذت المفتاح منها .. أرى على وجهها هذه الابتسامة ..
قد تكون هى .. أو أعطت رقم التليفون لنزيلة .. لمجرد العبث .. أو الترويح عن النفس فى وحدة الليل وبرده ..
ولكن ما جدوى هذا .. وأنا قد استبعـدت كليـة الاضرار بأى أنثى .. مهما لاقيت من عذاب وقلق ..
كانت الابتسامة الجميلة على ثغر الفتاة وهى تسلمنى المفتاح ..
وقالت برقة :
ـ انتظر دقيقة .. لك هدية ..
ـ لى أنا ..!
ـ نعم ..
وأخرجت كيسا من الورق .. فنظرت فيه فإذا بداخله " خرطوشة " سجائر .. وزجاجة فودكا .. وبعض الحلوى من الشيكولاته وغيرها ..
وقلت للعاملة بعد أن نظرت إلى هذه المحتويات :
ـ الهدية ليست لى ..!
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى لا أدخن ..
ـ ولكن الذى جاء بها .. حدد رقم الغرفة .. وهى غرفتك ..
ـ هل ذكر اسمى ..؟
ـ حدد رقم الغرفة ..
ـ حدث خطأ .. وأنا لا أقبل هدية ليست لى ..
ـ وماذا أصنع الآن ..؟!
ـ تردينها للشخص الذى أرسلها ..
ـ أنا لا أعرفه .. جاء قبلك بساعة وقال هذه للغرفة .. ومضى سريعا ..
ـ اقبليها اذن هدية منى ..
ـ كيف أقبلها وأنت ترفضها .. وأنا لا أدخن مثلك ..!!
وضحكنا ..
ولما رجعت إلى القاهرة .. ظلت الصورة حية فى ذهنى .. وكتبت قصة " الرنين " ..
ومهما يكن وقع القصة عند القارىء ولكن كانت من القصص التى أحببتها ..
====================================
*
نشرت الذكريات فى مجلة القصة ـ العدد 43 ـ يناير 1985
* نشرت قصة " الرنين " فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976 وأعيد نشرها فىكتاب " قصص من روسيا " مكتبة مصر
==================================

قصة الرنين منشورة على الرابط

ليست هناك تعليقات: