الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

البنات فى الأدب العربى ص28



فهرس بالقصص المنشورة
هاجر *
الملهمة *
الغزال *
الجواد الجري
ح *
ــــــــــــــــــــــــــ
هـاجـــر

قصة محمود البدوى

هجرتني " هاجر " بعـــد عشرة طويلة دامـــت ثمانيـة أعوام ، خرجت في الصباح الباكر ولم تعد ، ولقد بحثت عنها فى كل مكان اعتادت الذهاب إليه فلم أعثر لها على أثر !
لقد تربت " هاجر " في بيتى ، جئت بها من الريف وهى طفلة فى السابعة من عمرهـــا ، لتخــــدم عـــندى ، ولكنى لم أعاملــها قـط كخــادم ، لأنهـا كانت يتيــمة وفقـــيرة ، وكانت جميلة ضاحكة كالشمس .
وكـانت " هاجر " في طفولتــها الأولى لا تكـذب قــط .. كانت مثال الصدق والإخلاص .. كانت تروى لى الأخبار فى صراحـة وبراءة ، وكنت إذا سألتها عن شىء ، وظهر أنها لا تعرفه ..

كانت تجيب مسرعة : ـ لا أعرف .. . لم تكن تكذب قط . وكانت أبدا ضاحكة طروبا .. تملأ البيت سرورا وبهجة .
***
ثم مضت الأعوام وكبرت " هاجر " .. تغيّر جسـمها ، وبرز نهـداها ، واكتنـز صدرهــا ، ولمعت عينــاها ببريق الأنوثة وسحرها ، ورق صوتها ، وزاد عذوبة وفتـنة .
وطال مع هذا صمتها وتغيرت طباعها ، فكنت كثيرا ما أراها مطرقة واجمة لسبب ولغير ما سبب .
وابتدأت تكذب ، وتدور بالكلام ! وتنظر كثيرا فى المرآة ، وتطيل النظر ! .
ودخــلت مرة البيت ، فوجدتها واقفــة تتشـاجر مع بائع الخبز ، وكان غلاما وسيما فى السابعة عشرة من عمره .. ثم طردته وامتنعت عن أخذ الخبز منه شهرين كاملين .. ثم عادت وأخذته منه !
ولما سألتها : ـ لماذا رجعت إلى بائع الخبز ؟ قالت بهدوء : ـ حسن .. ؟ . ـ آه .. حسن .. ! . ـ إنه مسكين ..! .
وعادت إلى سهومها وصمتها . ولقد عجبت لهذا التغير المفاجئ الذى طرأ على " هاجر " .
***
وسمعتها مرة ، وأنا صاعد على سلم البيت تبكي وتعول .. ثم رأيتـها تضرب الخـــادم الصغير الذي معـها في البيت ، لأنه أخذ الخبز من " حسن " .

ولما سألتها عن ذلك ، قالت وهي تنشنج :
ـ إنه ابن كلب .. ولقد طردته .. ولا يمكن أن نأخذ منه الخبز مرة أخرى .. إنه غشاش لص ..! . فصمت ، ولم أقل شيئا .
***
وذات يوم خرجت " هاجر " ولم تعـد .. لقـد هربت مع " حسن " بائع الخبز ..!
=================================
نشرت القصة بمجموعة العربة الأخيرة لمحمود البدوى عام 1948
=================================









الملهمـة

قصة محمود البدوى

كان إبراهيم عبد المجيد يكتب القصة القصيرة فى المجلات والصحف منذ سنوات .

وكان يصور حياة الفقراء والبؤساء ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، أبلغ تصوير .

كان يكتب بكثرة ويعمل ليل نهار ، ومع ذلك لم يجد لما يكتبه صدى ، ولا أثرا فى نفس أحد من القراء ، كانت كتاباته تذهب مع الريح . لم يتحدث عنه ناقد ، ولم تكتب عنه صحيفة ، ولم تصله رسالة من انسان تشجعه على مواصلة جهوده . . ! !

ومع هذا ، فإن إبراهيم لم ينقطع عن الكتابة والنشر ، ذلك أنه كان يجد سلوته الوحيدة وناصره ومشجعه على المضى فى طريقه .. من جارته الحسناء ! وكانت أرمل فى الثلاثين من عمرها ، غضة الأهاب ، ريانة العود ذات عينين سوداوين ناعستين وأنف دقيق وخد مورد وبشرة ناصعة البياض .

كان يراها من شرفته تقلب بيدها الرخصة المجلات المصورة التى كان يكتب فيها ، وكان يراها وهى تقلب المجلة ، وتبتسم تلك الابتسامة الفاتنة ويتصور أنها تقرأ قصته ، وتبتسم لفكاهاته ، ثم يراها مرة أخرى حزينة واجمة ، فيتصور أنها تأثرت من إحـدى قصصه المحزنة ! كان يرى كلامه مطبوعا على جبينها ، وكان يفسر كل حركة تصدر منها بأنها إيحاء من قصصه !

وكان يتصور أنها تتبع حركاته وسكناته ، فترقبه وهو خارج من المنـزل ، وتستقبله وهو عائد إلى بيته من وراء سجف النافذة . ولهذا كان يميد من الزهو ويشعر بارتياح شديد ونشاط لاحد له وكان يكتب .. ويكتب .. غير عابىء بما يحيط به من انكار وجحود ، كان يكفيه أن هذه السيدة الجميلة تقرأ له وتعجب به .

كان يكفيه هذا ، وكان يكتب لها وحدها ، وكان يشعر بها تغمر جوانب نفسه بنور قوى ، كانت تدفعه إلى العمل والجهاد وإن لم يتحدث إليها قط ، كان يكتفى منها بهذه الابتسامة المشرقة من بعيد .

ومضت الأيام وهو يواصل عمله بنشاط ، وصورة جارته الحسناء لاتبرح مخيلته أبدا .

وفى ليلة من الليالى كان جالسا إلى مكتبه يكتب كعادته ، فسمع جرس الباب الخارجى يدق ، فنهض وتوجه إلى الباب ، فألفى خادم جارته الحسناء فسر لهذا جدا ، واستقبل الخادم مرحبا !

وقال له الخادم :
ـ تسمح بقلم حبر ...

وطار من الفرح ، فقد حسب أن السيدة تطلب القلم لتكتب له رسالة تشجيع !

وأسرع إلى مكتبه ، وعاد بالقلم ، وقبل أن يعطيه للخادم ، سأله فى لهفة :
ـ لمن .. لسيدتك ؟
ـ لا .. لسيدى الصغير .. ستى لاتعرف القراءة ! !

وسقط القلم من يد القصصى النابغ ، من هول الصدمة ولم يكتب بعدها حرفا .. !
=================================
نشرت القصة بالمجموعة القصصية " العربة الأخيرة " سنة 1948 لمحمود البدوى
=================================











الغــــــزال

قصة محمود البدوى

أخذت ريح الخريف تهب خفيفة ندية ، تداعب غصون الاشجار الصغيرة التى تحيط بالمحطة ، وترفع أطراف الفساتين الحريرية لكواعب من الحسان تناثرن كالورود الجميلة على رصيف محطة « سيدى جابر » فى انتظار القطار ..

وتأخر القطار عن ميعاده مدة طويلة ، فظهر القلق على وجوه الركاب ، وكانت « سميرة » أشدهم قلقا لأنها تتعجل السفر إلى القاهرة .. فقد افزعتها البرقية التى أنبأتها بمرض والدتها ، ومزقت أعصابها ، حتى وإن لم تشر إلى خطورة المرض ، ولكن مجرد ورودها فيه الكفاية لاضطرابها ..

وكان « خليل » يود أن يرافق زوجته لولا أنه يقوم فى هذه الليلة بنوبة عمل ليس فى أمكانه التخلف عنها .. ولم يجد أمامه الوقت الكافى لأن يعتذر أو يأتى بالبديل ..

وقبل وصول القطار لمحت « سميرة » صديقتها « ثريا » واقفة مع سيدة أكبر منها سنا على نفس الرصيف .. فأسرعت كل منهما تسلم على الاخرى فى حرارة وشوق ..

وكانت « ثريا » تودع خالتها المسافرة إلى القاهرة أيضا .. فانشرحت « سميرة » لأنها وجدت رفيقة لها فى السفر .. والتقت بصديقتها القديمة « ثريا » مصادفة على المحطة بعد انقطاع طويل الأمد ..

ووقفن يتبادلن التحية ويتحدثن عن تعب السفر وتأخر القطارات حتى وهى قادمة من « المخزن » مع أن موسم الصيف قد انتهى وحركة السفر أصبحت خفيفة ..

وأخيرا دخل القطار الكئيب المحطة وصعد إليه المسافرون .. وبعد أن تحرك وصفر .. شعر خليل أنه هو وثريا وحدهما على الرصيف الطويل .. وقد خلت المحطة من المودعين جميعا ..

وابتسما بعد أن أحسا بالموقف .. ولكنهما مع ذلك ظلا فى مكانهما على الرصيف صامتين دون أدنى حركة ..

وأخيرا فتح خليل فمه وقال بصوت خافت وهو يشير بيده :
ـ تفضلى ..
وخرجا من المحطة ..

وكانت الشمس مصفرة ، وضوؤها الغارب ينعكس فى نعومة على زجاج النوافذ .. والهواء الرقيق يداعب وجه « ثريا » الوردى فيفتح ثغرها قليلا ويحرك خصلات شعرها بمثل الرقة التى فيها ..

وسألها خليل بعد أن جاوزا الميدان ، وعيناه إلى أهداب عينيها وقد بدأت تطرف من شعاع الشمس ..
ــ إلى أين يا ثريا هانم .. ؟ بيتكم فى « جليم » .. ؟
ــ أبدا .. فى مصطفى باشا ..
ــ اتسمحين لى بأن أوصلك .. ؟
ــ أين ركنت العربة .. ؟
ــ سنركب تاكسى ..
ــ لا .. شكرا .. أنا ذاهبة إلى محطة « الرمل » اشترى شيئا لماما ..
ــ وأنا أيضا ذاهب إلى هناك ..
ــ اذن هيا ..
وأشار إلى تاكسى ..

فاعترضت بسرعة :
ــ لا موجب له .. سنركب الترام .. كما اعتدنا ..

وركبا ترام « النصر » ووجد مكانا خاليا فى الدرجة الأولى فأجلسها فيه ، ووقف بجانبها يتأملها فى صمت ..

كانت ترتدى فستانا بنيا من قطعة واحدة ، يحتضن قوامها الرشيق ، ويبرز فى جلستها المستقيمة جمال ساقيها ، وامتلاء فخذيها ورقة خصرها واستدارة كتفيها ..

وكان وجهها الطويل أبيض خالص البياض ، فى نعومة كأنه ما وقعت عليه الشمس ولا غطس فى ماء البحر ..

وكان ظل ابتسامة يزحف على وجهها بين لحظة وأخرى ، ويكسر فى فتحة عينيها المتألقتين فى سواد ممزوج بالاخضرار الخفيف ، الذى يذهب ويجىء ، كلما تفتحت النفس ، وجاشت العاطفة ..

كان ظل هذه الابتسامة يغطى وجهها كله ، وهى تراه لا يتحمس للجلوس كلما خلا مقعد فى طرف العربة بعيدا عن مكانها ..

وظل يتباطأ وهو جامد فى موقفه ، فيتيح الفرصة لغيره ليشغل المقعد فى لهفة جعلته يضحك ..

لقد أصبح الناس يتصارعون على أتفه الأشياء طرا فى الحياة .. وبرزت عيونهم وأنانيتهم من اللهفة على هذه الصغائر .. فلا أحد يبدى حركة فيها تأدب ، ولا يقوم رجل لسيدة .. ولا شاب لشيخ ..

لقد طحنتهم الحياة فى دوامتها .. فبرزت أنانيتهم ، وظهر جشعهم .. وكل ما فى نفوسهم من صغار ..

وظل « خليل » فى مكانه واقفا ، وهذه الخواطر تدور فى رأسه .. وتكاد يده اليمنى تلمس كتف « ثريا » وتشعر بنعومة بشرتها تحت الثوب المخملى ..

وأخذ يتأملها فى سكون ويملأ عينيه من كل ما فيها من حسن .. وكأنه يلامس بيده جبينها وعينيها وخديها وشفتيها .. ولم تكن فى تقديره .. أكبر من زوجته إلا بسنتين على الأكثر ، ما دامتا كانتا زميلتين فى نفس الكلية ، وتخرجتا فى عام واحد ..

وسمع صوتها وهو يسبح فى أحلامه :
ــ أجلس هناك مقعد .. قبل أن يأخذوه ..
وضحكت ..
ــ لقد وصلنا الشاطبى ..
ــ أمامنا .. محطات كثيرة .. أجلس ..
فطاوعها وجلس ..

وكانت اشعة الشمس قد سقطت من النافذة القريبة على عينيها ، فأغمضتهما .. وأبعدت وجهها بحركة خفيفة ، وأزاحت خصلة شعرها وامتلأ وجهها بالسكون ..

ومن خلال هزة للترام تحركت فيها أكتاف الركاب ، أشرق وجهها فى ابتسامة عذبة .. وظلت الابتسامة ترف حتى دخل الترام محطة الرمل ..

***

وعلى الرغم من أنه قرأ فى عينيها الائتناس بصحبته ، ولكنه سلم عليها فى شارع « سعد زغلول » وافترقا ليتركها على حريتها .. ولأنه لم يكن يستريح أبدا إلى مرافقة النساء فى جولة تسويق .. فقد كان يعانى الكرب من ترددهن أمام الأشياء المعروضة ..

ومع أن صحبته « لثريا » كانت لمدة وجيزة فإنه أحس بالراحة لها .. وبالانتعاش والحيوية .. فمن خلال فترة لم تتعد رحلة الترام من محطة « سيدى جابر » إلى محطة الرمل .. أحس بدم جديد يتدفق فى شرايينه كما أحس بالبهجة ..

فقد كانت حياته مع زوجته فى السنتين الأخيرتين يشوبها النكد والملل .. وكان كل منهما قد أخذ يحس بالفراغ وبموات العواطف .. وكلما حاول خليل أن يحرك هذا الجمود ، ويبعث الحياة والحرارة فى الجو المحيط بهما .. أخفق فى عذاب ..

فقد كانت زوجته مشغولة دائما بزيارة أقاربها العديدين ومجاملتهم فى الجنائز والافراح .. وإهمال شئونه .. وحاجات بيتها .. فلم يأسف كثيرا على سفرها وان أسف على مرض والدتها ..

ولذلك أحس فى رفقته القصيرة « لثريا » بهزة فى نفسه .. تفتحت لها مشاعره .. وجال جولة فى المدينة ثم رجع واتخذ طريق البحر وجلس من وراء الزجاج فى « كافيه دى لابيه » على الكورنيش ..

وكان الجو صحوا ممتعا .. والبحر يرقص موجه ، والمصابيح الكابية الضوء ، قد أخذت تتلألأ فى المنازل والشوارع ..

وعادت صورة « ثريا » إلى ذهنه .. عادت وهو معها فى الترام وفى الشارع .. فى جلستها الناعمة .. وفى وقفته المتأنية .. وفى السلام عليها سريعا ثم فراقها ..

وأخذ يلوم نفسه لأنه تركها هكذا ولم يرافقها فى جولاتها إلى النهاية ، ولم يعرف عنوانها ولا محل عملها .. ولا اشتم من حديثها مدى علاقتها بزوجته ..

ثم خفف من حدة اللوم .. لما استقر رأيه أخيرا على أن ما فعله فى أول لقاء هو عين الصواب ..

ومع كل التبريرات التى استراح إليها ، وهو جالس فى المقهى ، فإنه عندما ذهب إلى بيته وأحس بالوحدة ، رجع يلوم نفسه أشد اللوم على خجله وسوء تصرفه ..

***

وكانت « سميرة » قد حدثت خليل وهى مسافرة ، بأنها سترجع فى مدة لا تتجاوز الأسبوع .. وتتصل به فى الصباح فى مقر عمله فى الشركة أو فى المساء عند بعض أقاربه الذين فى بيتهم تليفون .. ان تعذر الاتصال فى مقر العمل ..

فلما لم تفعل ذلك حادثها تليفونيا فعلم أن والدتها فى حالة خطرة .. وكانت تتحدث وهى تشرق بعبراتها .. فسافر فى الصباح التالى ليعود المريضة .. ورجع وحده إلى الإسكندرية بعد أن لمس الحالة عن قرب ..

***

وللمرة الأولى فى حياته الزوجية التى بلغت خمس سنوات .. بدأ يعيش وحيدا فى البيت ينظفه بيده ويأكل فى الخارج لأنه لم يكن فى بيتهم خادم .. وكان يضيق ذرعا بإعداد أبسط أنواع الطعام ..

فأخذ يقضى الفراغ فى الجلوس على المقاهى وارتياد الملاهى .. وأكثر من التردد على السينما .. حتى لم تكن تفوته رواية واحدة ..

وفى أمسية من أمسيات الخميس شاهد « ثريا » جالسة أمامه فى الشرفة بسينما « راديو » ومعها رفيقة فى مثل سنها ..

ولم يحادثها أو يجعلها تشعر بوجوده إلى أن انتهى عرض الفيلم .. وظل بعيدا عنها وهى تهبط السلم إلى ردهة السينما وهو يغالب عواطفه ..

وكما يحدث فى مثل هذه المواقف ، بسبب لا يدرك تعليله أحد على الأطلاق استدارت « ثريا » وبصرت به عن قرب وفاض وجهها بالسرور ، وانتحت جانبا تنتظر لتفسح المجال لطابور الخارجين .. ولما رأى ذلك منها أسرع إليها مرحبا .. وقدمت له صديقتها فى عبارة فيها ذكاء ولباقة ، وخرجوا ثلاثتهم إلى الشارع ..

***

وكان الجو جميلا ويغرى بالتنزه .. والمدينة تسبح فى الأنوار الزرقاء الخفيفة ..

وساروا على أقدامهم متمهلين مختارين الشوارع الجانبية التى تقل فيها الحركة فى مثل هذه الساعة ..

ثم اتجهوا إلى محطة الرمل .. وهناك أكلوا أكلة خفيفة وتحدثوا فى مرح .. وكانت « ثريا » منطلقة ، ووجنتاها تتوردان ، كلما سمعت نكته لا تستطيع أن تطلق الضحكة المدوية لها فى مكان عام .. أما صاحبتها فكانت تكتفى بالبسمة العريضة دون أن تعلق بحرف ..
وركبوا جميعا ترام الرمل إلى بيوتهم ..

وكان يتحتم على « خليل » فى هذا الليل وفى جو الحرب والغارات أن يرافق « ثريا » إلى منزلها بعد أن نزلت صديقتها فى محطة الابراهيمية ..

وعرف أنها تقيم فى الجانب الشرقى من حى مصطفى باشا .. فسارا الهوينى بعد أن نزلا من الترام وتخطيا طريق الحرية ..

وكان يشعر بالنشوة ، ويود أن يمتد الطريق الضيق الذى أخذ يلتوى فى صعود ، إلى ما لا نهاية ويصبح كبيت جحا يدوران فيه ولا يخرجان منه أبدا ..

ولم يشعر من فرط انتعاشه بلسعة البرد الخفيفة التى أخذت تسرى فى الجو ..

وكانت هى لا تزال ترتدى ملابس الصيف .. فأشفق عليها من البرودة .. ولكنها كانت منتعشة مثله ودافئة ..

وأحس بكل مشاعره وجوارح قلبه بأنها مستريحة إلى صحبته .. وأبدت أسفها على غياب « سميرة » ومرض والدتها فى نغمة حزينة صادقة ..

وبلغا البيت ، وكان من طابقين فى صف من الفيلات المبنية على طراز متقابل فى الشكل والارتفاع .. وفى حى هادىء يبعد جدا عن حركة الترام والاتوبيس ..
وصعد معها حتى الطابق الثانى الذى تسكنه ..

وكانت تود أن تجعله يدخل ويسلم على والدتها .. ولكنه اعتذر ..

وعندما خرج إلى الطريق مرة أخرى ، أحس ببهجة جعلته يسرع فى سيره وهو يواجه رياح الليل القوية المحملة بهواء البحر ..

***

وفى صباح السبت جاءته برقية بوفاة المريضة .. وعزاه زملاؤه فى الشركة وسهلوا له الحصول على الإجازة سريعا ليحضر الدفن .. فهى أم زوجته ولابد من أن يسير فى الجنازة ..

واستقبلته زوجته بالثوب الأسود والعينين المتورمتين من البكاء ..

ومكث فى القاهرة ثلاث ليال .. نام فيها وحيدا فى غرفة خصصت له .. ولم تجرؤ زوجته أمام أخواتها وقريباتها على النوم فى فراشه .. وأمهن ميته .. وغاظه ذلك وفجر كراهيته لكل هذه التقاليد البالية ..

وكانت تقرأ فى عينيه الاشتياق والرغبة .. ولكنها جبنت وبعدت وتركته فى عذاب ..

***

ورجع إلى الإسكندرية وحده وترك زوجته تسوى أمور الميراث مع أخواتها وتحضر الخميس مع أهلها تزور فيه المقبرة .. ثم الخميس الذى بعده .. وقبل ذلك لا تستطيع ترك الأسرة ..

ووافقها خليل على رغبتها ووعدها بأن يحضر أول « خميس » .. ويعود بها فى الخميس التالى إلى الإسكندرية ..

***

ورجع إلى الإسكندرية فى قطار الليل .. وفى الصباح اتصلت به « ثريا » وهو فى مكتبه تعزيه .. ولم يدر كيف عرفت تليفونه .. ثم خمن أنها عرفته من زوجته .. وكان بينهما الحديث ..

وحدثته أنها اتصلت بزوجته تليفونيا لتعتذر لها عن سبب عدم سفرها للقاهرة لتعزى لأنها لا تستطيع ترك أمها وحدها .. وأنها اتفقت مع سميرة أن ترسل له الخادمة .. لتنظف له البيت من حين إلى حين .. لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك . وسميرة لا تحب أن تدخل الأرجل الغريبة الشقة .. فى مدة غيابها عن البيت .. وسترسل له الشغالة اليوم فى الساعة الخامسة ..
وحاول أن يثنيها عن عزمها فلم يستطع ..

وجاءت الشغالة فعلا ونظفت الشقة .. ورفضت أن تتناول منه أى هبة ..

وأصبحت تجىء كل يومين وأعطاها المفتاح لتجىء فى الوقت الذى تختاره ويكون موافقا لها .. وسهلت له الكثير من أمور الطعام التى كان يشكو ويتضايق منها .. وكان يود أن يسألها عن « ثريا » ليعرف القليل عنها .. ولكن لسانه لم يطاوعه أن يستقصى ذلك من خادم ..

وعندما كانت خادمة « ثريا » تروح وتجىء فى بيته وتدخل من غرفة إلى غرفة ..

كان يتصور أن سيدتها معها .. وأنه يسمع صوتها ، وهى تناديها وتطلب منها فعل هذا الشىء وترك ذاك .. وأنه يسمع وقع اقدامها الخفيفة فى الصالة..

وعجب لكل هذه التخيلات ولم يجد فى نفسه التعليل لها .. فأنه لم يفكر مطلقا فى أن يوجد أية علاقة بينه وبين « ثريا » أكثر من التعارف الذى حدث فى المحطة .. وأكثر من اللقاء العابر الذى حدث بعد ذلك فى السينما ..

وظلت « ثريا » فى كل هذه الحالات بالنسبة له صديقة لزوجته أو زميلة لها فى الدراسة على الأكثر ..

ولكن لماذا كل هذا التفكير فيها ؟ ألأنها وحيدة فى الإسكندرية مثله .. ؟ وغير متزوجة كما تصور .. ؟

***

وحدث ذات مرة وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء .. أن ترك نفسه مع سير الترام ونزل فى محطة مصطفى باشا ..

وسار فى طريق الحرية مقبلا ومدبرا أكثر من ثلث الساعة .. ثم اتجه وهو مسلوب الإرادة إلى الحى الذى فيه بيتها ..

ومضى إلى الشارع متماسكا أولا متحكما فى أعصابه ، ثم بدأ يشعر بالاضطراب .. وبتغير ضربات قلبه .. ودارت فى رأسه الخواطر وأحلام أشبه بأحلام المراهقين .. ثم أحس بالعرق يتفصد على جبينه .. وألفى من الحماقة وهو يقترب من البيت أن يطرق بابها ..

ما الذى ستقوله هى أو تقوله أمها لو واجهها فى مثل هذه الساعة .. ؟ وبأى علة سيتعلل .. ؟

وارتد فى الشارع الملتوى الصامت القليل الضوء ، وهو يشعر بجلجلة فى رأسه .. وان رءوسًا قبيحة أطلت من النوافذ ، وأصبحت تضحك عليه بصوت مدو ..

وعندما رجع إلى بيته ونام فى فراشه ، أحس بأتعس ليلة قضاها فى حياته..

***

وفى عصر يوم جاءت خادمة « ثريا » لتنظف البيت .. وجدته جالسا فى الصالة فحدثته قبل أن تأخذ أنفاسها من صعود السلم أن ستها « ثريا » كانت راكبة الترام معها ..

ونزلت فى الإبراهيمية لتذهب إلى مكتب التلغراف القريب من هناك ولما سألها « خليل » عن السبب .. عرف أنها ذاهبة لترسل برقية لاخيها الدكتور فى السويس الذى لم يتصل بهم منذ الغارة على السويس ..

ولم يكن « خليل » يعرف قط أن لها أخا طبيبا وهو الآن فى مستشفى السويس .. كما حدثته الخادمة ، وأنه كان دائم الاتصال بأمه وأخته ويجىء فى الشهر مرة ومرتين ، ولكنه منذ الغارة العنيفة التى حدثت منذ أربعة أيام على مدينتى السويس وحى الأربعين لم يتصل بهما ولذلك اضطربتا وقضيا الليل فى بكاء ..

وتأثر « خليل » لما سمعه من الخادمة ووجد من واجبه كرجل أن يرتدى ملابسه على التو ويخرج ليتصل بهما تليفونيا ويطمئنهما ..

ولما تناول السماعة كان صوت « ثريا » .. غير طبيعى رغم أنها حاولت أن تكتم حزنها لما سمعت صوته .. وبعد حديث قصير عن اخيها .. ومحاولة اطمئنانها .. استأذنها فى زيارتهما فى البيت ليطمئن والدتها .. فرحبت بالزيارة ..
ووضع السماعة وهو يشعر براحة كبرى ..

***

ولما دخل البيت استقبلته « ثريا » مرحبة .. ولكن البكاء كان لا يزال أثره فى عينيها ..

وجاءت الأم وهى سيدة نحيلة فوق الخمسين وكانت ترتدى ثوبا أسود وعلى وجهها الاكتئاب وسلمت عليه بيد ناعمة .. وعيناها الخضراوان تحدقان فيه جيدا ، كأنها تقارن بين الصورة التى كونتها عنه من حديثها مع ثريا ، وبين الحقيقة التى أمامها ..

وبدت فى فستانها الأسود عصرية مع وقار سنها ، فقد كانت مقصوصة الشعر متأنقة الزى فى انسجام رائع والحذاء فى لون الفستان .. والزينة خفيفة ولكنها بادية على الشفتين الحمراوين والخدين الاسيلين ...

وكانت عيناها لازالتا تتألقان بالبريق والسواد المائل إلى الاخضرار .. والعدسة الفاحصة فى استرخاء ، يطل منها الحنان كله ..

وقد رأى أنها كانت جميلة فى شبابها بل فتنة بين النساء ..

وكان البيت منسقا نظيفا .. وأثاثه يدل على ذوق عصرى .. ولم يكن يصل إلى حد الفخامة .. ولكنه كان من طراز عصرى جميل بالغ حد الروعة فى التنسيق ..

سر جدًا لأنه دخل بيتا مصريا هادئا لم يسمع فيه جلبة الأطفال وصياحهم .. ولا الفوضى التى تطالعه كلما زار بيت حماته فى القاهرة ..

وشرب القهوة وأخذ بكل الوسائل يطمئن الأم .. ولكنها لم تطمئن ..

قال لها « خليل » بلهجة قاطعة :
ــ إذن سأسافر إلى السويس .. غدا صباحا .. واجعلك تطمئنين ..

وقالت ثريا ...
ــ وسأسافر معك ...

وقالت الأم ...
ــ سنسافر نحن الثلاثة ..

وقالت ثريا ...
ــ لا داعى لتعبك يا ماما ..
ــ أبدأ .. لابد أن أراه .. هناك ...

وسألت ثريا فى رقة .. وكان قد فاتها شىء لم تلاحظه أولا ...
ــ وكيف تترك عملك .. ؟ ربما لا يسمحون لك بأجازة .. ؟
ــ سأسافر مهما كانت الظروف ..

فردت الأم :
ــ وتتعب نفسك معنا .. با ابنى .. ربنا يخليك ..
ــ هذا .. أقل واجب ...

واتفقوا على اللقاء فى الصباح فى محطة سيدى جابر .. ليأخذوا أول قطار .. ديزل الساعة السادسة صباحا ..

***

وفى الصباح رأى « ثريا » واقفة وحدها خارج المحطة تنتظره باسمة .. وسر جدا وأدرك أن أمها عدلت عن السفر ..

ولما اقترب منها وضغط على يدها انفجرت ضاحكة ..
ــ ما الذى جرى ... ؟
ــ إبراهيم جاء بالليل .. ونائم فى البيت الآن ...
تقصد أخاها الطبيب ...

فقال خليل بمرح :
ــ الحمد للّه ...
واستطردت ثريا :
ــ وجئت مبكرة قبلك حتى لا تقطع التذاكر ..
ــ هكذا قبل الشمس ...
ــ لم أذق للنوم طعما ...
ــ طبعا .. من الفرح ...
ــ الواقع أنا فرحانة .. ومتضايقة .. فرحانة لقدومه ولنطمئن .. ومتضايقة لأنى كنت أود أن أسافر معك ..

ونظرت إليه بعينيها المتألقتين فى ضوء الصباح الرمادى ..

فأمسك بيدها ودار فى الميدان الفسيح وهو شاعر بقلبه يخفق لأول مرة فى وجيب متصل وبأن جسمه قد خف حتى يكاد يطير ..

وبدأت الشمس تغمر المكان فى هذه اللحظة ..

***

وعند محطة الترام سألها :
ــ أراجعة إلى البيت .. ؟
ــ طبعا .. فأمامى ساعتان على البنك ..
ــ البنك فى محطة الرمل .. ؟
ــ فى شارع شريف ...
ــ جميل .. وأنا قريب للبنك فى شارع سيزوستريس ...
ــ حقا ... ما أجمل هذا ...
ولما جاء الترام .. ركب معها ...

فقالت بدلال .. وعيناها تتطلعان إليه :
ــ لماذا التعب ... اذهب إلى عملك ...
ــ أمامى ساعتان ...
ــ روح .. واكمل نومك ...
ــ أشعر براحة أكثر .. وأنا معك ..

واحمر وجهها قليلا ، وبدت فى عينيها رقة ساحرة .. وحنان دافق .. ونكست رأسها .. لتخفى كل الانفعالات التى تبدو على وجه العذراء وهى تسمع كلمات الاطراء الخفيفة ..

ولما نزل من الترام فى محطة مصطفى باشا .. رافقها حتى اقتربا من باب بيتها ..

وكان الصباح جميلا مشرقا ، وخيوط الشمس الذهبية اخذت اشعتها تسطع على زجاج النوافذ .. والشوارع بدت خالية من المارة ، ومن حركة السيارات الثقيلة .. فتجعل المرء يحس بالراحة ، وهو يتنفس ، ويشعر بكيانه ووجوده كإنسان يميل بالفطرة إلى السكون ..

ولما أمسك يدها مسلما وعاد وحيدا فى الشارع الأسفلت الضيق المائل إلى الالتواء والممعن فى السكون .. لم يكن فى الطريق الخالى أحد سواه ..

وكان لا يزال فى كيانه الإحساس بوجودها إلى جانبه .. وقع خطواتها الخفيفة .. ونغمة صوتها الناعمة .. وضحكاتها التى لها رنين الفضة .. واللفتة الجانبية وهى تتطلع إلى وجهه كلما أسمعها كلاما تود أن تملأ به جوانح قلبها . وترى حركة الشفتين وهما تنطقان به .. وكانت تلك هى عادتها المحببة إلى نفسه ..

***

وفى صباح اليوم التالى بعد وصوله إلى المكتب مباشرة سمع صوتها فى التليفون .. وحملت إليه شكر والدتها على ما كان قد اعتزمه من السفر واهتمامه بأمر أخيها ..

وسألها عنه فقالت له بأنه خرج مع والدتها لتسوق بعض الحاجات قبل سفره ..
وسأل « خليل » عن موعد خروجها من البنك ..

وتقابلا فى الساعة الثانية والربع عند حلوانى منعزل فى شارع شريف .. ومكثا عدة دقائق لم يشعرا فيها بالزمن ولا بالوجوه التى حولهما ..

وقال لها :
ــ أننى لم أشعر قط بالوحشة لسفر سميرة بسببك ..
ــ ولكنها وحشتنى .. لقد طال غيابها .. متى ستسافر لتعود بها ..
ــ ربما جاءت وحدها .. يوم الخميس .. لقد تعبت من السفر .. ومن المجاملات فى الجنائز ..
ــ ولكنها والدتها ..
ــ أعرف هذا .. ولكن ما الذى يفعله الندب والبكاء واللطم .. والخميس.. والأربعين . هل يرد ميتا .. ؟ أن حياتها كلها جنائز وقد ضقت ذرعا بهذا ..
ــ أن أخى إبراهيم مثلك تماما .. يكره هذه التقاليد .. ولكنها زوجتك .. والأحسن أن تذهب إليها .. وتمسح دموعها .. وتعود معك ..
ــ أهذه رغبتك .. ؟
ــ طبعا ..
ــ سأنفذها أذن ارضاء لك ..
وضحكت ..

وافترقا على لقاء فى مساء الاثنين .. بعد سفر أخيها إلى السويس ، لأنها تلازمه فى أجازته القصيرة وتنافس والدتها فى خدمته وتطويقه بالحنان ..

***

وقد التقيا فى كازينو « ماى فير » وجاءت مع غروب الشمس فى جوف البحر .. وكأنها شمس أخرى تطل على الكون .. أو كأنها القمر الذى يطلع بعد غروب الشمس .. ولم تكن الليلة مقمرة .. ولكن قمرها كان يشع على البحر الهائج والجمال المحيط ..

وجلسا وراء النافذة الزجاجية العريضة متقابلين ، وعيونهما تحدق واللسانان اخرسان ..

وشعر فى هذه اللحظة بأنه أحبها .. وأنها تبادله الحب دون أن تنطق بكلمة ..

كانت عيونهما تتحدث ، وشفاههما وكل جوارحهما تنطق .. وكأنهما كانا فى عناق متصل ثم انفصلا وراحا فى دوامة الخدر الذى يبلد الحواس بعد هذه القبلة .. ثم استفاقا وأحسا بكل ما حولهما بالبحر.. والليل .. والعشاق القليلين الجالسين مثلهما فى سكون يتهامسون ..

وأخذا يتحدثان الأحاديث المألوفة عن الجو .. والحرب والعمل .. ثم أخذت « ثريا » تحدثه عن خصوصيات حياتها بلسان منطلق .. أحس معه بثقتها المطلقة فيه ..

حدثته بأنها تزوجت منذ أربع سنوات ، وهى لا تزال تدرس فى الجامعة .. من قريب لها .. رحل إلى الخارج ليكمل دراسته ، ولم تستطع هى السفر معه فى وقتها لأنها كانت فى مرحلة البكالوريوس ..

وبعد سفره بعام واحد ، فى اللحظة التى انهت هى فيها دراستها الجامعية .. واستعدت للسفر .. جاءها نعيه .. وعاد إليها فى صندوق ..

وانتابها حزن قاتل .. فهى تزوجته فى نظر الناس ولكنها لم تتزوجه فى الحقيقة .. ولم تحس بالسعادة الزوجية ساعة واحدة ..

وكانت ملامح وجهها جامدة ، وهى تقص عليه هذا ، وأدرك أنها بكت كثيرا حتى جفت دموعها ..
وأمسك بيدها فصمتت ..

وجاشت ذكرياتها الحزينة دفعة واحدة .. فرأى « خليل » أن يغير مجرى الحديث .. وأن يخرجا من المحل ويتمشا على البحر .. فقد أحس بحاجته إلى الحركة وحاجتها بعد هذه الذكرى الحزينة ..

وعلى البحر اختار الطريق الهابط .. وسارا متشابكين بالأيدى على ضوء المصابيح الخافتة ، وعن يسارهما السور العالى يقيهما من العيون وعن يمينهما البحر الذى تحولت زرقته إلى اللون الأحمر القانى كلما علا موجه وصمت ..

وكانت الريح الباردة المحملة بأنفاس البحر ورائحة الطحلب .. تمر على وجهيهما وتحرك شعرها .. وتسدله على عينيها .. فمد خليل يده فى رقة وأزاحه عن جبينها .. فتهلل وجهها .. وكانت هذه اللمسة الناعمة ، وهذه اللفتة الضاحكة من عينيها تحتم عليه أن يختمها بقبلة .. ولكنه لم يفعل ..

ولا يدرى أكان ذلك جبنا منه أم زيادة أحترام لها وهما فى طريق عام .. مهما كان هذا الطريق خاليا وشاحب الضوء ..

ولما بلغ التقاطع .. كان يرغب فى أن ينحرف إلى اليسار ويسير فى الشارع الواسع المؤدى إلى سيدى جابر .. ولكن « ثريا » رأت أن يواصلا السير على الكورنيش حتى كليوباترا ..

وكان الليل الحالم يلفهما .. والبحر كأن موجاته تغنى لهما وحدهما أعذب الألحان ..

واخترقا حى كليوباترا إلى شريط الترام .. الحى الذى كان صخابا فى الصيف ويعج بالمصيفين وبالحركة الدافقة يموت الآن فى الخريف .. وفى الساعة التاسعة ليلا ..

وعلى الباب وهى تدق الجرس على والدتها تركها .. لم يشأ أن يتركها وحدها فى الليل شبرا واحدا .. أحس بأنه مكلف بحمايتها وابعادها من كل شر ..

***

وفى الساعة الثالثة من اليوم التالى دخلا السينما .. وقالت لوالدتها انها ستواصل العمل فى البنك لتنجز أوراقا متأخرة ..

وكانت عواطفها لا تزال مشتعلة اشتعال أبطال الفيلم ..

وجلسا متلاصقين يحسان بحرارة جسميهما ، وحرارة انفاسهما وضربات قلبيهما ..

وكان يود أن يميل عليها بقبلة .. ولكن منعه الجوار وازدحام البلكون ، والعيون التى وراءهما وبجانبهما .. وقد كره الجمهور .. لأول مرة .. وكرهه بعنف ..

وبعد السينما شربا الشاى فى « باستوريدس » ثم ركبا الترام إلى البيت ..

***

وفى عصر يوم من أيام الاثنين وكان قد تغدى خارج البيت .. أحس وهو داخل بحركة فى المطبخ ، فأدرك أن خادمة ثريا تقوم ببعض أعمالها .. كالعادة .. فتركها فى عملها .. ودخل غرفته ليستريح ..

وبعد أن خلع بدلته.. وارتدى بيجامته .. مشى إلى دورة المياه ليغسل وجهه .. وفى الردهة الضيقة بصر " بثريا" بلحمها ودمها خارجة من المطبخ .. ففتح فمه دهشا .. وتبادرت إلى ذهنه بأنها جاءت ترافق الخادمة .. عناية به وببيته ..

ولكنها نحت عنه هذا الخاطر بقولها :
ــ سنية سافرت تزور والدتها فى كوم حمادة منذ يومين .. ولازم البيت يتنظف .. فجئت أنا ..
وكان يود أن يقبل فمها الذى نطق بهذه الألفاظ ..
ــ شكرا .. هذا كثير .. اشعر بخجل لا حد له ..
ــ لا داعى لهذا كله .. هل تغديت .. ؟
ــ أجل .. وأنت .. ؟
ــ نعم تغديت .. وسأصنع لك قهوة ..

وعادت إلى المطبخ .. وأدرك أنه يلبس البيجامة أمامها وهذا لا يليق .. وفكر أن يخلعها .. ويعود إلى لبس البدلة ..

وجاءت بصينية القهوة .. ووضعتها فى الصالة فى اللحظة التى رأته يخلع سترة البيجامة ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سألبس البدلة ..
ــ ولماذا التعب .. ؟ خذ راحتك ..
ــ لا .. هذا .. لا يليق ..

ورأته مصرا .. ومشت إليه وأمسكت سترة البيجامة قبل أن يخلعها .. ولامست يده ذراعها .. فأمسك بها ليمنعها من منعه .. ووجدها ملاصقة به بكل جمالها وكل ما فى جسمها اللدن من فتنة .. فشدها إليه .. وأخذ يقبلها فى شفتيها وعينيها ونحرها بعنف .. ونسيت نفسها لحظات .. وأخذت تبادله القبلات بحرارة .. واستراحت مغلقة عينيها .. فأخذ فى رقة يفك أزرار ثوبها، وهى واقفة ، فأمسكت بيده ، وفتحت عينيها فى توسل ..

وحاول أن يعانقها بعنف وأن يجرها إلى الفراش .. فوجدها تقاومه بشدة ..

وسألها والعرق يتفصد على جبينه :
ــ هل تفكرين فى سميرة .. يا ثريا .. كصديقة لك .. ؟
ــ أبدا .. ما فكرت فى هذا .. وأنما أفكر فى شىء آخر .. رهيب ..
ــ ماذا .. ؟
ــ أفكر فى أخى .. إبراهيم ..

وأستغرب .. وسألها :
ــ وما علاقته بالمسألة .. ؟
ــ لو فعلت ما ترغب فيه .. سيموت .. أن حياته مقرونة بطهرى ..
ــ وكيف تشغلين رأسك بهذه الأفكار .. ؟
ــ أنها مسيطرة على تماما .. وهى أحاسيس صادقة .. وقد جربتها ..
ــ جربتها .. ؟ !
ــ أجل .. عندما كان توفيق فى الخارج .. وقد عاد بعدها فى صندوق ..

وغشيهما الضباب .. فتركها وأخذ يروح ويجىء فى الصالة .. وهو فى أشد حالات العذاب ، وهى جالسة منكسة الرأس صامتة .. وفى عينيها دموع لم تحبسها هذه المرة ..

================================
نشرت القصة بمجلة المصور فى 7/7/1972 وأعيد نشرها بمجموعة " عودة الابن الضال " وبمجموعة قصص من الإسكندرية من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002

=================================




الجواد الجريح

قصة محمود البدوى

كان الأسطى عبد الصبور يسير بعربته الأنيقة فى شارع الكورنيش ، وفى منطقة الشاطبى يفكر فى راكب جديد ساعة الغروب .. عندما أوقفه الطبيب البيطرى وأخذ يفحص جواده .. فك وثاقه من العربة وأقبل به وأدبر .. ثم سلمه لتابعه فأخذه هذا ومضى ..

ووقف " العربجى " مذهولا وتجمع الناس من حواليه , وأخذوا يهزأون به ، ويضحكون منه ، وزاده هذا عذابا وألما فأخذ يصيح :

" أخذوا منى الحصان وأنا مسكين مثلكم ..! لماذا تضحكون وتسخرون دائما من التعساء أيها المساكين ..؟ "

وبكى وأخذ يسترحم الناس ، ولكن ما من راحم .. فقد سار الجواد فى طريقه إلى الشفخانة ..

واشتد صياحه ، والناس يتضاحكون من حوله ، وقد وجد الفقراء فى مأساته ملهاة لهم ..

واستعار عبد الصبور جوادا من أحد زملائه ، وركب عربته إلى البيت .. وأخذ يفكر طول الطريق فى المصيبة الجديدة التى ستنزل على زوجته وبناته عندما يعرفن ما حدث للجواد ، وأخذ يسائل نفسه ويعجب ..

لقد مرض هو من قبل ومرضت زوجته فلم يجد من ينقله إلى المستشفى ، أو من يقوم بتمريضه .. ولقد مرض أحد أولاده منذ سنوات ومات ، ولم يجد وهو الفقير المعدم مستشفى يأويه .. فكيف نزلت الرحمة على الحيوان وأغفلت الإنسان ..!

وظل يفكر فى هذا ومثله حتى بلغ البيت واستقبلته زوجته وبناته الثلاث على الباب كعادتهن ، ولما رأين الجواد الغريب نظرن إلى عبد الصبور مستغربات ..

فقال وهو يضرب كفاَ بكف :
" أخذوا منى الحصان يا ستى "

وبكت المرأة وسالت دموع الفتيات .. ودفعوا جميعا العربة إلى حظيرتها ، ودخلوا البيت وأغلقوا الباب ..

ولم يتعش عبد الصبور وكذلك أسرته .. وخيم على البيت جو من الحزن الكئيب .. ولما كان وجود عبد الصبور فى البيت سيزيده حزنا على حزنه ، فقد خرج إلى المقهى الذى اعتاد الجلوس فيه كل ليلة ..

وجلس يشرب الشاى الأسود ويدخن " الجوزة " ورأى الجالسين فى المقهى يلعبون النرد والورق .. وكان يود أن يتحدث معهم ويقص عليهم قصته ..

ولكن أحدا منهم لم يعره سمعه .. فجلس وحيدا على رصيف المقهى ، وكانت العربات تمر أمامه فى الطريق .. وحوافر الجياد تضرب فى الأرض وكان ينظر إليها متحسرا ، وتذكر جواده المسكين ..! ولم يكن يدرى ماذا يفعل .. وأخيرا نصحه أحد الأفندية بأن يكتب إلى مدير " الشفخانة " فغادر المقهى وهو يفكر فى هذا ..

ولما رجع إلى البيت ، علم من زوجه أن فى المنزل الحديث المواجه لبيتهم طالبا فى كلية الطب .. وقد يساعدهم فى محنتهم .. وذهب إليه عبد الصبور فى الصباح فلم يجده .. وعاود الكرة مرة أخرى فى المساء هو وزوجته ودرية كبرى بناته ..

ودخلوا على الطالب فى غرفته ، وكان جالسا على مكتب صغير عليه أكداس من الكتب والأوراق ، ونهض من مقعده ، وصافحهم ورحب بهم ، وأجلسهم أمامه فى نصف دائرة على كراسى من القش ..

ونظرت إليه درية ، وكان نحيلا شاحب اللون .. حتى ظنت أنه لايجد كفايته من الطعام ..

وهمست فى أذن والدها بما يدور فى خاطرها ، فقال لها أن ذلك من كثرة الاستذكار ..! فعجبت لهذا وصمتت ..

واستغرب الطالب لزيارتهم له ، ولم يكن يختلط بسكان الحى ، وظنهم من أقرباء خادمته العجوز ، ولهذا احتفى بهم وقدم لهم القهوة ..!

ولما حدثه عبد الصبور عن الجواد ، نظر الطالب إلى درية .. وقال وهو يبتسم :
ـ اننى طالب طب يا عم عبد الصبور .. طب بشرى لا بيطرى ، ومع هذا سأرى المسألة ، فإنى أعرف الدكتور عصمت وهو طبيب بيطرى فى المدينة ومن أصدقاء والدى وسأذهب إليه غدا ..
فشكره الأسطى وانصرف هو وأسرته ..

***

وفى اليوم التالى أرسل عبد الصبور إلى الطالب زوجه ومعها درية لتسألا عن الجواد .. فاستقبلهما بترحاب أكثر ، وقال لهما :
ـ إن الجواد مجروح حقا .. ولا يمكن لأحد أن يخرجه من الشفخانة إلا بعد أن يشفى تماما ..
وخرجتا من عنده حزينتين ..

وكانت درية تفكر وهى راجعة إلى بيتها فى هذا الطالب المسكين وتعجب لشحوب لونه واصفرار وجهه ..

ولما هبط المساء ظلت طول الليل تفكر فيه .. إنه صموت قليل الكلام ، ولكنه عندما يتحدث .. يتحدث فى هدوء ، وكان يطيل النظر فى وجهها ، وكانت هى تضطرب لهذا ولا تعرف السبب ..!

وبعد يومين من المقابلة الأولى والثانية ، كان طالب الطب يشغل كل وقتها وكل تفكيرها ..!

كانت تفكر فيه نهارها وليلها ، تراقبه من نافذتها فى النهار .. وتراه وهو خارج إلى الكلية .. وتبصره وهو عائد منها .. وترى نور غرفته فى الليل ، وهو ساهر يستذكر دروسه .. وكانت تسهر حتى يغلق النافذة .. ويطفىء النور .. وتظل تتقلب فى فراشها وصورته لاتبرح ذهنها إلى الصباح .. ولم يكن هو يحس بشىء من شعور درية نحوه ، لأن اعجابها به كان صامتا ..

وتطور الاعجاب على مر الأيام إلى حب أكيد تغلغل فى الأعماق ، ونفد إلى سويداء القلب .. وكانت سلوتها الوحيدة أن تراه عن قرب ، وتروح وحدها لتسأله عن الجواد ..

وكانت تتمنى من كل قلبها أن يظل الجواد فى " الشفخانة " لتجد السبيل إلى الذهاب إلى بيت الطالب ..!

كان الحب قد استبد بها وأخذ منها كل مأخذ .. وكانت تتحدث إلى الطالب ، وهى لاتقوى على رفع عينيها إلى وجهه ، كانت تنظر إليه فى استكانة وذلة .. كانت تحبه إلى درجة العبادة ، وكانت تتمنى أن تقبل قدميه ، وتمرغ وجهها فى رجليه ..

وبعد أيام عاد الجواد إلى البيت وسروا به جميعا ورقصوا طربا لمقدمه إلا درية .. فإنها حزنت لذلك حزنا شديدا .. لأنها لن تجد بعد ذلك سببا يدعوها إلى زيارة الطالب فى بيته .. حزنت غاية الحزن ، وكانت تنظر إلى الجواد فى غضب ومقت شديدين ..

وساءت بها الحال حتى هزلت ومرضت .. وامتنعت عن تقديم الطعام والشراب للجواد .. وتركت هذا لأمها وأختها حسنية ..

وكانت كلما مرت على الجواد تحدثه بصوت خافت :
" لماذا عدت أيها الأحمق .. ألا تعرف حبى ..؟ لماذا لم تتمارض من أجل درية المسكينة ..! ألست عزيزة عليك ..؟! "

وذات ليلة كانت ساهرة فى فراشها ، وقد بلغ منها الغضب مبلغه ، وسمعت صهيل الجواد ، وخطر لها خاطر سريع .. فتناولت سكينا ونزلت إلى فناء البيت حيث الجواد ..

هبطت السلم على أطراف أصابعها ، حابسة أنفاسها حتى اقتربت من الجواد .. ووقفت بجواره خائفة ترتعش أكثر من دقيقة كاملة .. وكانت تفكر .. لو أنها جرحته فى رجله فقد يرفسها رفسة قاتلة .. ووقفت تفكر وتتخير المكان الملائم ..

وبصر بها الأسطى عبد الصبور ، وهو عائد من الخارج .. رآها واقفة بجوار الجواد وفى يدها السكين ، فنظر إليها فى عجب ودهشة ، ولم يستطع أن يفهم شيئا ..!
===============================
نشرت القصة فى صحيفة " السوادى" بتاريخ 2/2/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " ل محمود البدوى سنة 1948
================================



ليست هناك تعليقات: