الاثنين، ١٨ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 53 القصة الحقيقية وراء قصة الأعسر

قصة القصة
الأعسر


سافرت فى عمل إلى مدينة كبيرة فى الصعيد .. وكنا فى الشتاء والجو ينذر بالمطر والعواصف فى القاهرة التى سافرت منها على الأقل .. وقدرت أنه لن يكون على درجة أخف فى الصعيد ..

ولكنى عندمـا ركبت القطار وجـدت الحالة من السوء فى كل محطة .. والمطر يغطى أرصفة المحطات وأسطح القطارات .. ويكون بركا فى الشوارع ..

ومع كل هذا فقد كان علىَّ أن أعود إلى القاهرة فى نفس اليوم .. لأمر يتعلق بالأسرة أكثر من أى شىء آخر له صلة بالعمل الذى سافرت من أجله ..

وفى الغروب دخلت المحطة التى نزلت فيها ظهر اليوم .. لأعود إلى القاهرة .. فلم أجد تذكرة واحـدة فى كل القطارات الراجعة من أسوان ..
وقد جربت ركوب القطار من غير تذكرة من قبل ودفع الغرامة ..
وكرهت هذا ونبذته إلى الأبد .. فإنك تقف فى وسط عربة جوها يخنق الأنفاس .. ونصف ركابها من النائمين .. وقل من يعبأ من الصاحين منهم والفاتحين عيونهم حتى بسيدة حـامل تقف متوجعة وهى فى شهرها التاسع ..! الكل يحرص على المقعد الجالس عليه بوحشية وأنانية .. انمحت كل الصور الكريمة من النفوس المريضة وذبلت وضاعت ..
كرهت الوقوف فى بطن أو جانب العربات لهذا السبب ..

وفى أثناء وقوفى فى المحطة وحيرتى وحرصى على السفر .. اقترب منى شيال وقال لى :
ـ ادفع خمسة جنيهات وأجىء لك بتذكرة يا بيه ..

وقلت له لغرض المحاورة :
ـ يكفى الجنيه ..؟
ـ لا .. يا بيه .. هل تفكر أنى سآخذ الجنيهات الخمسة وحدى ..! وتركنى ومضى .. وأخذت طريقى إلى البسطة الخارجية للمحطة .. ووقفت هناك أنظر إلى السماء والنجوم ..

وسمعت من يقول .. بصوت حاد .. موصول :
ـ مصر .. مصر .. مصر ..

ومصر تعنى القاهرة .. عند أهل الصعيد وعند الدنيا كلها .. وقاهرة المعز هى مصر .. ومصر كلها بنيلها وأهراماتها وقباب مساجدها وكنائسها .. وأنوارها وحصونها وقلاعها .. مصر ..

ونزلت من المحطة إلى حيث المنادى .. فوجدت عربة بيجو بيضاء .. اللون جديدة وزاهية .. وكانت فارغة من الركاب ، فركبت دون تردد أو سؤال فى المقعد الخـالى بجوار السائق .. وكنت أول راكب ..

وبعد ربع الساعة .. ركب ثلاثة فى المقعد الخلفى .. ولم أر وجوههم ولكنى سمعت صوتهم ولهجتهم ..

ثم جاء السائق بجلباب أخضر .. وكوفية من لونها .. ووجه طويل أسمر .. تطل منه عينان أخذتا الركاب الأربعة بنظرة سريعة فاحصة .. وبعدها تحرك على الفور ..

ولما خرجنا من حدود المدينة .. أشهر الركاب الثلاثة فى الخلف .. أسلحتهم ..

وجعلنى هذا أدير رأسى وأنظر إليهم .. الثلاثة فى عود واحد .. ولون نحاسى واحد .. وسن واحدة .. كأنما صبوا صبا فى قالب .. ثم خرجوا منه هكذا .. وكانت عيونهم تبرق فى سماء العربة .. التى اطفأت أنوار سقفها .. وملافحهم تدور على أعنـاقهم .. وتغطى عروقها النافرة .. وعلى وجوههم سكينة لم أشهدها من قبل فى وجه مسافر ولا عابر طريق .. والأسلحة مدافع رشاشة قصيرة جدا .. تطوى وتوضع فى أى مكان يختار حاملها ..
وكان سائق العربة فى سنهم وشبابهم أيضا .. ولاحظت أنه بعد أن خرجنا من المدينة يسوق العربة بيد واحدة .. ولا يستعمل يده الثانية إلا عندما نتوقف أو ندور فوق الكبارى والأهوسة .. وكان يسير على نهج واحد وسرعة واحدة .. لايقيدهما قسط ..

وكان المطر قد انحسرولكن آثاره واضحة فى الطريق .. وترعة الابراهيمية على يميننا سـاكنة .. والجو كله عقب المطر .. قد هجع تماما ..

وبدأت الحركة المألوفة بين المسافرين .. فى عربة واحدة .. ومكان واحد .. حركة توزيع السجائر ..

أخرج راكب من الخلف علبته .. وقدم للسائق سيجارة ثم لى أنا ..
وقلت بصوت لا أعرف سبب رنة الخوف التى بدت فيه :
ـ شكرا .. اننى لا أدخن ..
ـ واصل .. ( يعنى أبدا ) ..
ـ واصل .. ( ما دخنت قط ) ..
ـ ربنا يرحمك ..

ثم واصل التوزيع لرفيقيـه بجواره .. وأصبح الدخان يملأ سقف العربة .. لأن النوافذ كانت مغلقة .. والنافذة التى بجوار السائق نصف مفتوحة ..

وأثار الدخان أعصابى .. وأصبحت أفكر فيهم .. لماذا السلاح ..؟ وفى أيدى الثلاث ..!

ولماذا لا يفكرون أنى أحمل فى جيبى مالا .. وأنى راجع بعد تجارة أو صفقة .. وما أكثر التجارة والصفقات الرابحة فى هذه الأيام ..

ودار الهوس العقلى فى رأسى على هذه الصورة .. حتى غفلت عن السائق الذى بجوارى الذى يقود بأعصاب من حديد .. كما غفلت عن اسماء المدن التى نجتازها وبعدها دون توقف أو حتى تهدئة للسرعة ..

ثم سكنت نفسى وهدأت أعصابى التى أثارها الدخان ووترها .. وأخذت أردد أن الخوف يولد الخوف .. ولو أظهرت أمامهم أنى خائف منهم لطمعوا فى ّ .. بل ربمـا أكون قد أوحيت اليهم بما لم يفكروا فيه قط .. وما لم يخطر على بالهم أبدا ..

وهكذا رجعت إلىَّ نفسى المطمئنة وأخذت أتطلع من نافذة السيارة إلى المدن والحقول وهى تطوى وتطوى .. والسيارة تمضى فى الليل الأشهب ..

غاب القمر .. وتكسر نصف النجوم .. وراء السحاب ..

وتذكرت وأنا أنظر إلى الليل والنجوم .. قصة للعظيم همنجواى عندما وضع البطل فى حالة مثل حالتى ..

كان البطل نائما فى الدور العلوى من الحانة .. وصعد إليه عامل الحانة ليوقظه ويقول له :
ـ هناك جماعة تحت .. سألوا عن اسمك .. وعرفوا أنك هنا .. وجاءوا ليقتلوك ..!

ولم يغير هذا من وضع البطل الذى كان نائما .. ولم تحركه كلمات عامل الحانة .. وظل فى مكانه ينتظر قدره ..! كما ظل همنجواى العظيم فى مكانه من الدنيا إلى أن جاءه قدره وأنهى هو حياته بيديه ..

همنجواى الذى يكاد يكون هو الكاتب الوحيد من كتاب الدنيا الذى تطوع باختياره فى الحرب الأهلية الأسبانية ليلمس بأظافره ولحمه ودمه الحرب ومساوىء الحروب وويلاتها على الإنسانية ..

ولما أدرك عن وعى كامل أنه لا يستطيع أن يوقف حربا أو ينهى مجاعة تصيب بقوارعها العـالم .. خرج هو من هذا العالم .. بنفس راضية ..

كان همنجواى يدور فى رأسى عندما دارت العربة إلى جانب فى الطريق .. لتزود بالوقود .. ثم خرجنا منه وأصبح يقود بسرعة أكثر ..

ولمحت شبحا فى سواد .. لمحته من بعيد .. وكان على يمين الطريق .. ولما اقترب منه السائق هدأ من سرعة السيارة .. ثم توقف تماما عنده ..

وسمعت الشيخ يقول :
ـ خذنى معك يا طه .. لغاية ..
ـ حاضر اركب بجوار البيه ..

وركب .. وكان متلفعا كله .. ولكنه قبل أن يركب سدد إلى الثلاثة الذين فى الخلف نظرة قوية .. ثم ردها إلى شخصى ببسمة ود ..

ولاحظت بعد أن جلس بجوارى أن الجزء الملاصق لى من جسمه مقطوع الذراع ..! وأن رشاشه بيده اليمنى ، ولكنه لم يشهره كمن جلسوا فى الخلف ..

وقدم لى أنا وحدى سيجارة .. ولما عرف أنى لا أدخن .. طوى سيجارته .. وقال بابتسامة :
ـ لا داعى لمضايقتك ..

وأكبرت فيه هذه الفعلة وهذا الذوق السامى .. ومال بنا السائق بعد أربعة فراسخ من السير الجاد إلى مطعم فى زاوية من الطريق ..

وأكل الثلاثة فى الخلف لحوما وخضارا كثيرا ، وأكلت جبنا وبيضا وشربت القهوة ..

ودخل السائق فى جوف المطعم فلم أعرف ما أكله ..

وشرب الراكب الأخير الشاى وحده .. وكان على رأس الطريق .. والظلمة تخيم .. وريح الشتاء أخذت تدور وتتحرك بعد سكون ..

وجاء السائق يقول لى تفضل :

وركبت وحدى فى مكانى .. وسألته بعد أن تحرك :
ـ وباقى الركاب ..؟
ـ كانت التوصيلة إلى هنا فقط ..

وتحركنا .. والريح أخذت تعصف بشدة .. وأسلاك البرق فى شريط السكة الحديد .. كأنها تتحدث بلغة غير مفهومة .. وانطلق دوى الرصاص فجأة مع عويل الريح .. واستمر دقائق ثم انقطع فجأة .. وخيم سكون القبور .. حتى الريح كنت والأشجار سكنت ..


====================================
*
نشرت قصة القصة فى مجلة القصة ـ العدد 44 ـ أبريل 1985
* ونشرت قصة " الأعسر " فى مجلة الثقافة ـ العدد 71 ـ اغسطس 1979 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من القرية " مكتبة مصر
====================================
قصة الأعسر على الرابط

ليست هناك تعليقات: