الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

الجريمة والاجرام والمجرمين فى الأدب العربى ص24

فهرس بالقصص المنشورة
الذئاب الجائعة *
المعجزات السبع *
الأصلع *
صقر البحار *
المسكين *
الأعسر *
الأرقام الناطقة *
ـــــــــــــــــــــــــ



نشرت القصة فى مجموعة قصص " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى عام 1944

الذئاب الجائعة
قصة محمود البدوى

خرجنا فى الهزيع الأخير من الليل نزحف نحو المزرعة كالذئاب الجائعة ، ومع أننا كنا مسلحين بأحسن طراز من البنادق ، فقد كنا نتجنب الحراس ونراوغ كالثعالب ، لأننا نعرف قيمة الدم المهدور فى الصعيد ، ولهذا كنا نتخير الأوقات التى تقفل فيها العيون وتغفو .

كان الظلام على أشده فى تلك الليلة ، وكانت وجهتنا مزرعة عثمان بك ، وهو من الأثرياء الأشحاء .. كان جبارا شديد البطش مرهوب الجانب ، وكانت مزرعته متطرفة عن سائر المزارع ، وعليها أشد الحراس ساعدا وأبرعهم رماية .. ولكنا كنا لانخاف أحدا ولا نرهب انسانا .. كنا من الفتاك الذين يبطشون فى الأرض ، ويعيثون فيها فسادا ، لايردعنا حلم ، ولا يردنا عقل ، ولا يزجرنا زاجر .. كنا نحمل الحقد والضغينة على المجتمع الإنسانى ، الذى طردنا من كنفه ، وشردنا فى الأرض ، وقطع بنا الأسباب ..

وكانت قسوتنا ، وغلظ أكبادنا ، على قدر ما أصابنا فى مستهل حياتنا ، من ضنك العيش وشظفه ، وبلاء الأيام ومحنتها .. فكانت الفرائص ترتعد لذكرنا ، والقلوب تنخلع لوقع أقدامنا .. وكنا قد ضربنا بكل شىء عرض الأفق ، وعشنا على السرقة والنهب ، نقطع الطريق على الناس ، ونسطو على المزارع فى غلس الليل وفحمته .. وكنا نشعر بعد كل حادثة بلذة المغامرة التى لاحد لها ..

كانت حظائر الماشية فى شرق المزرعة ، وحظائر الغنم ، وهى مبتغانا وقصدنا ، على رأس الطريق المؤدى إلى الحقول ، وكان حول الغنم سياج يبلغ رأس الرجل .. وله بابان أحدهما يؤدى إلى الطريق الصغير الممتد إلى باقى الحظائر ، والآخر يفضى إلى الحقول .

وكنا قد درنا حول المزرعة فى الليالى السابقة ، وعرفنا كل شىء فيها ، ورأينا أن خير ما نفعله لنتقى كلابها ، هو أن نرسل واحدا منا يناوش كلاب مزرعة مجاورة ، فتخرج إليها كلاب المزرعة التى نقصدها .. وفى تلك الساعة نتقدم نحو الحظيرة ، ونخرج بالغنم إلى بطن الوادى ثم نتجه بها فى طريق غير مألوفة إلى الشرق ، وبذلك ننجو بها ..

وتم كل شىء بمنتهى السرعة .. فبعد دقائق قليلة كنا نسوق الغنم .. وتحولنا بها إلى بطن الوادى ، وأخذت عصينا تعمل فوق ظهورها بحمية .. وكنا نسير خلفها وواحد منا فى مقدمتها ، ونحن صامتون ، وصوت الكلاب فى المزرعة المجاورة يقطع علينا هذا السكون العميق ، ثم فتر نباح الكلاب بالتدريج وانقطع صوتها .. وسكن كل شىء ، وخمد كل حس ، وساورنا الاطمئنان المطلق ..

وتنفسنا الصعداء ونحن نجتاز بالغنم الوادى ، وندور بها حول التل ، والسكون يخيم والصمت شديد ، وصوت الأمواج المتكسرة على شاطىء النيل يصل إلى آذاننا عن بعد كأنه زمجرة الوحوش فى الأجم ، ونيران الفلاحين فى المزارع البعيدة تبدو فى غياهب الليل كألسنة الجحيم ..

ودرنا حول الغنم ونحن نحثها على الاسراع ، وقد ساورنا شعور من اقترب من الهدف فاندفع بأقصى قوته ليستريح فى النهاية ..

وسمعنا فجأة صوت رصاصة مرقت فى الجو .. فحبسنا أنفاسنا ، وصوبنا أبصارنا إلى حيث انطلقت الطلقة .. وقد أخذنا أهبتنا للأمر .. وكانت الكلاب قد عادت تنبح ، ثم انقطع نباحها شيئا فشيئا .. فتصورنا الطلقة من أحد الفلاحين الذين يبيتون فى المزارع ، ويطلقون النار على غير هدى ، فى أخريات الليل ليرهبوا اللصوص .. وعاد إلينا الاطمئنان واستأنفنا السير .. وإذا بنا نسمع طلقات متصلة اهتز لها الجو وزأر وهاجت الكلاب وتفزعت كأنها فى شجار مستعر ..

استدرنا وانبطحنا على وجوهنا وتركنا الغنم مع واحد منا يسوقها بأقصى سرعتها .. وأخذ الرصاص يدمدم ويصوب إلى اتجاهنا ..

لقد تقفوا أثرنا وعرفوا طريقنا ولم يكن من القتال بد ..وزحفنا كما تزحف السلاحف إلى مشرف عال بجانب الطريق .. وأخذنا نرد على طلقات الحراس بطلقات أشد منها ..

وانقلب الجو إلى معركة حامية .. واشتدت علينا المطاردة وكثر طلق النار .. وكأنما خرجت إلينا المزارع بجميع حراسها وأحسسنا بدقة موقفنا .. وأدركنا أننا لو بقينا فى مكاننا فنحن هالكون لامحالة ، فتراجعنا إلى مكان آخر .. ورأينا أن نسرح الغنم ليكف عنا الحراس .. وعهد الرفاق إلىّ وإلى زميلى حسان بهذه المهمة .. فأخذنا نغير اتجاه الغنم ونردها على أعقابها .. وبعد دقائق قليلة كنا ندفع الغنم من حيث جاءت والرصاص يصفر فوق رأسينا .. ورميت رفيقى بحصاة .. ونهضنا معا وجرينا بكل ما وسعنا من السرعة .. وسمعت أنة مفزعة وسقط جسم رفيقى على الأرض ، فأسرعت نحوه وحملته .. وبعد لحظات جاء الرفاق .. وحملناه .. وسرنا به مسرعين قبل أن يفضحنا نور الفجر ..

***

انقطع صوت النار وخف نباح الكلاب ثم سكن وخيم السكون العميق .. وبلغنا بصاحبنا التل .. وكان قد فارق الروح فى الطريق بعد أن تألم كثيرا .. ووضعناه فى الزورق ، وأعملنا الأيدى فى المجاديف ، واتجهنا نحو الغرب ، وقد خيم علينا الصمت ..

ما أعجب الحياة !

لقد انتهت حياة رفيق لنا فى مثل خطف البرق ، وما ذرف أحد منا دمعة ! فقد قست قلوبنا وتحجرت مآقينا .. وهل هو القتيل الأول ؟ .. أبدا .. ولن يكون الأخير .. وسيأتى دورنا ما من ذلك بد ..

وتبادلنا المجاديف ، والرفيق الذى كان يضاحكنا فى المساء ويمازحنا قد رقد هناك فى ركن من الزورق ، صامتا أخرس ..لقد كان صمته أبلغ من نطقنا .. ولقد أطبق فمه وهو فى بكائر أيامه وربيع عمره ، وضرب الضربة البكر ، وهو فى أول عهده بالحياة .. قضى .. لأنه كان أكثرنا حماسة .. وأشدنا بطشا ، ولقد انتهت تلك القوة الجبارة فى ساعة قصيرة مفجعة ، وكنا جميعا نتوقع الموت فى كل ليلة نخرج فيها للسرقة إلا هو ، فقد كان الموت أبعد شىء عن ذهنه .. ولعل الشباب والجبروت وقوة الحيوية هى التى جعلته هكذا .. ولكن ما أعجب الأقدار ! لقد اختطفته هو ، وخلفتنا نحن .. إلى حين ! .

وانحنيت على جسمه أتأمل روعة الموت فى ذلك الوجه الناضر .. فإذا بوجهه قد احتقن وتصلب واغبر ، وبرزت عيناه فى رعب ، وسقط فكه الأسفل ، فعل من عانى أشد برحاء الألم .. وأغمضت عينيه ، وقد أذهلنا الموقف المروع عن فعل ذلك من قبل .

وأخرجناه من الزورق وحمله اثنان منا ، وسار الباقون خلفهما فى صمت كئيب .. وبدا الجبل رهيبا موحشا ، شامخا جبارا .. وسيضم جبارا مثله .. أخذنا نتبادل حمله ، وقد ثقل جسمه وتصلب .. وعلى الرغم من أننا ربطنا الجرح ، كان الدم لايزال يتفصد ، وكانت أرجلنا تغوص فى الرمال ، وعرقنا يختلط بدم القتيل ، ويسيل على وجوهنا وثيابنا .. يا لله .. أى حياة يحياها الأشقياء فى القرية .

تطلعنا إلى الأفق الشرقى وقد بدى بياض الفجر يزحف .. وكنا قد قربنا من المقبرة ، وثار الغبار الدقيق فى وجوهنا وملأ خياشيمنا ، وأخذ الصمت الرهيب يطالعنا من كل جانب ، وكنا نتبادل من قبل بضع كلمات ، ولكن ما لاح شبح المقابر عن بعد ، وهى رابضة عند سفح الجبل ، حتى تملكنا شعور من الرهبة ، ومزيج من الخوف والابتئاس .. فتصبب العرق على وجوهنا .. وأصبح كل شىء حولنا كريها بغيضا .. فأحسسنا فى أعماقنا بشعور من أشرف على الهاوية ، ووقف على رأس الجب وعيناه إلى تنين هائل ..!

لقد كان عذابنا لاحد له ، وقلقنا لايصور ، وشعورنا بالبغضاء يفوق كل وصف .. كنا نود لو نلقى بصاحبنا فى اليم ، ونجعله طعمة الأسماك ، أو نطرحه فى العراء ، لتنقض عليه صقور الجو ، وجوارح الطير .. وأسفنا على كل ما تحملناه فى سبيله حتى بلغنا به الجبل ، حيث المقابر ..

لقد أثارت هذه المسافة الطويلة التى حملناه فيها كل ما يمكن أن يحمله إنسان لإنسان من حقد وكراهية .. فلو اعترضنا فى تلك الساعة الرهيبة معترض لمزقناه إربا ..

كنا نسير فى طريق المقبرة ذاهلين مشدوهين ، وكأننا نحمل جبلا على أعناقنا .. كان شقاؤنا مرا وعذابنا غليظا .. وكان الحسك والشوك وشجر الصبار ينبت على جانبى الطريق .. وكنا ندوسه بأقدامنا ونحن لانحس به من فرط الذهول ..

لقد مرت علىّ فى تلك الساعة الرهيبة صور حياتى من الوقت الذى شببت فيه عن الطوق إلى أن أصبحت من الفتاك الآثمين .. وضمنى هؤلاء الرفقاء إلى زمرتهم .. وسرنا جميعا فى طريق الظلام .. هل كنا سنصبح هكذا ونعيش على هذا النحو لو أنيرت أمامنا السبل ، ورفعت المشاعل وتبينا السبيل ؟ أبدا .. لقد كنا أشد ما نكون حماسة وفتوة ونضارة ، فانتقلنا من الروض إلى بيداء التيه ، بعد أن ضاقت بنا السبل ، ودفعنا المجتمع إلى ركوب هذا الطريق .. فيجب أن نمضى إلى النهاية ..

إن أحدا من الناس لم يفكر فى الساعة الفاصلة فى تاريخ الإنسان .. الساعة الفاصلة فى تاريخ الرجل ، التى قد يكون بعدها ملاكا رحيما أو شيطانا رجيما .. لقد مرت بنا تلك المحنة القاسية كما لم تمر على مخلوق بشرى ، وكنا نتعذب ونقاسى من البرد والجوع والشقاء ، ونحمل من الأعباء ما تنوء بحمله الجبال .. كنا نعمل ونحن صغار فى الحقول ، فلا نحصل فى آخر النهار حتى على ما يمسك الحوباء ، كنا نرتعش من البرد فى ليالى الشتاء ، ونتألم من الجوع .. ولم يكن عملنا منتظما ، بل كنا نعمل يوما ونتبطل خمسة .. وكان كل شىء يعمل على عذابنا وشقائنا ، فلم يكن بد من هذه الطريق !

ولم نكن نشعر فى أول الأمر ، بعد كل حادثة سطو بشعور الرجل الراضى عن عمله وفعله ، بل كنا فى ساعات كثيرة نشعر بالندم ، وعذاب القلق ، إذا ما اسفرت الليلة عن محنة وبانت عن قتيل .. ثم مضت الأيام وجرفنا التيار إلى نهاية المنحدر ، فغلظت قلوبنا .. وماتت ضمائرنا .. وغدونا أشد ضراوة من الوحوش ..

***

كان النور قد شعشع على الكون ، وبدت المقابر المتناثرة على سفح الجبل .. وحلقت الغربان فى الجو .. وتطلعنا إلى قرن الجبل ، ولمحنا عن بعد ذئابا تنحدر عن قمته ، وخيل إلينا أنها ترقبنا عن بعد .. ما أشبهنا بهذه الذئاب .. إنها تسعى الآن لتأكل إنسانا أو حيوانا ، فإذا لم تجد أكلت نفسها ..

رمقنا هذه الذئاب بعيون تتقد غيظا وحنقا .. وكانت تنظر إلينا بمثل نظرتنا .. وتنحدر عن التل لتأخذ علينا الطريق .

بحثنا عن فأس لنحفر لرفيقنا حفرة .. فلم نجد .. وأخذنا نعمل فى التراب بأيدينا وأطراف بنادقنا ، حتى حفرنا له حفرة ، وواريناه .. ونفضنا عن أيدينا الغبار .. وكانت الذئاب لاتزال تنحدر عن التل ، وتتجه نحونا ، أو تتجه نحو المقبرة الجديدة !

وكانت ترقبنا بعيون جائعة !

=============================
نشرت فى مجموعة قصص " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى عام 1944 وأعيد نشرها فى كتاب قصص من الصعيد من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
===============================
المعجزات السبع
قصة محمود البدوى


حمل البريد الطواف إلى أمين عبد المولى .. وهو قروى من قرية نافع بالصعيد .. ومن أهل الطريقة ..رسالة معطرة من الشيخ رجب شيخ طريقتهم .. يخبره فيها بأنه سيزور القرية يوم الخميس ..

وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم .. وانتقل منها إلى القرى المجاورة ، فقد كان الشيخ رجب مشهورا فى المنطقة كلها ومعبود الجماهير .. وكان يتفضل عليهم بهذه الزيارة كل ثلاثة أعوام مرة .. مرة واحدة .. ليباركهم ويريهم من معجزاته ..

وفى ميعاد وصول القطار ، وقف أكثر من مائة قروى فى محطة أسيوط فى انتظار الشيخ .. ومنهم من لم يدخل محطة حديدية طول عمره .. ولم يركب قطارا فى حياته .. فاضطربوا والتصق بعضهم ببعض على الرصيف .. وأصبحوا كالقطيع قبل أن يدخل السلخانة للذبح .. يرفعون رؤوسهم ويتصايحون ويتدافعون بالمناكب .. وقليل منهم الذى تسلق الكوبرى ليصل إلى الرصيف الآخر حيث يقف القطار ..

وكان القطار يدخن ويصفر .. كأنه يشعرهم بأنه يحمل الشيخ الكبير ..

ومع ذلك لم يجد القرويون الشيخ على الرصيف .. ولم يروه وهو ينزل من القطار .. وإنما وجدوه بعد أن أعياهم البحث خارج المحطة واقفا بعباءته الفضفاضة .. كأنما هبط عليهم من السماء ..

وسأله أحدهم :
ـ أنت جيت فى إيه يا سيدنا الشيخ ..؟
وابتسم ابتسامته المعروفة .. ولم يرد على السائل ..
وصاح أحد الاتباع :
ـ صلى على النبى .. يا جدع .. صلى ..

وصلى الجميع .. وكبروا واهتزت للمعجزة الأولى أسلاك البرق .. فقـد خطى الشيخ .. جاء من القاهرة إلى أسيوط .. أسرع من الصوت .. فى أجواز الفضاء ..

وخرجت الجموع من المحطة .. ولم يركبوا سيارات لأن الشيخ كان يلذ له أن يسير على رأس هذه المظاهرة فى قلب المدينة .. ليراه الناس ووراءه هذا الجمع الغفير ..

***

وبعد أن خرجوا من المدينة ركبوا مركبا كبيرا يعبر بهم النيل ، لأن القرية على العدوة الأخرى .. ونشرت المركب شراعها وانطلقت .. ولكن الجو كان حارا .. والريح ساكنا .. وكان التيار يجذب المركب إلى الوراء .. أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام ..

وظهر الضجر على وجه الركاب .. ونظروا إلى الشيخ ينتظرون منه المعجزة ..

ورفع رأسه ومد بصره .. فرأى السحب تتفرق من بعيد مؤذنه بمقدم الريح .. فأخذ يتمتم ووجهه إلى السماء .. ثم وضع يده اليمنى فى الماء .. وحرك شفتيه ..

وهبت الريح وشال القلع .. وشقت المركب التيار .. وصاح أحد الركاب :
ـ صلوا .. على النبى .. صلوا ..
وكانت المعجزة الثانية ..

***

وعندما بلغوا الشاطىء ، كانت القرية كلها تستقبل الشيخ .. وكل واحد يحاول أن يقترب منه ويلمس ثوبه لتحل عليه البركة .. وخرج المريض العاجـز .. وحتى المشـلول .. والمقعد حمل على الأكتاف .. ليرى الشيخ .. وينتظر البركة .. وخرجت العاقر .. والمطلقة .. وذات الضرة .. والتى تلد الأناث .. والمتزوجه كهلا .. خرجن ليلقين الشيخ .. ويتمسحن به .. ويطلبن الأمانى والأحلام .. ومر الشيخ وهو سائر فى الطريق على " مسطاح " رجل .. وكان قد كوم الغلـة فى الجرن .. ووضع عليها القلة الفخارية .. وابتدأ فى الكيل ..

ونظر الفلاح المسكين إلى الشيخ الوقور .. ذى الذقن الطويلة والعباءة الفضفاضة .. نظرة المسكين إلى نبى ..
وصاح :
ـ باركنا .. يا سيدنا الشيخ .. باركنا .. وسيدى جلال تباركنا ..

ومال الشيخ على المسطاح .. ووضع يده فى الغلة .. وعندما كال الفلاح الغلة .. أتى الفدان بثمانية عشر أردبا ..

وتطايرت المعجزة الثالثة .. ورقص الفلاحون وهللوا .. ونسى هؤلاء البسطاء المساكين .. أن زراعة هذا الفلاح فى العام السابق أتت بأكثر من ثلاثين " نقيصة " للفدان .. وأنه أحسن من يزرع الأذرة من الفلاحين ..

***

ومر الشيخ على وابور الطحين .. وكان الوابور يعاكس ويتعطل كثيرا .. حتى أتعب صاحبه .. وأخيرا جاء له بمهندس المانى .. ففكه كله وربط العدد من جديد ..

وفى اللحظة التى مر فيها الشيخ على الماكينة وكانت تحت الجسر وألقى نظرته عليها .. كان " العادم " يخرج من الماسورة .. وصوت الماكينة .. يتك ..
وانطلقت المعجزة الرابعة أسرع من سابقاتها ..

***

وعندما دخل القرية كانت الطبول تدق والمزامير تزمر .. والرايات مرفوعة .. واشتد التصاق الفلاحين به واحتشادهم حوله .. ورآهم يتنازعون على أول من يتشرف بزيارته .. ويتقاتلون ..

وأطرق الشيخ ثم رفع رأسه كأنه يستلهم الوحى ..
وقال :
ـ سأدخل هذا البيت ..

وعندما كان يشرب القهوة فى فناء البيت .. سمع الزغاريد .. فقد وضعت زوجة صاحب الدار مولودا ذكرا .. لأول مرة فى حياتها .. بعد خمس بنات .. وجاء والد المولود .. يقبل أقدام الشيخ وهو يدفعه عنه فى تواضع الانبياء ..

وطارت المعجزة الخامسة وحلقت فى الأجواء .. وهبطت على كل قرية فى المديرية جمعاء ..

***

وطاف الشيخ بالقرية ومعه الامانى المعسولة .. وأحلام اليقظة .. وكان الشيخ يوزع بركته بالتساوى على الجميع ..

وظل الشيخ يطوف بالقرية حتى جاءت صلاة العشاء فصلوا وراءه فى المسجد ..

وبعد الصلاة .. مدت موائد الطعام فى الساحة التى اختارها الشيخ للذكر ..

وكان كل فلاح يتسابق بما عنده .. ذبحوا العجول والخراف وقدموا الفت والثريد والفطير .. على الطبالى .. ورفعوا المشاعل وجلسوا يأكلون .. ما لذ وطاب ..

وكان الخروف الذى على مائدة الشيخ تتصاعد منه رائحة زكية .. ولا ينقص أبدا .. شهد بذلك الجميع ..

والقلة التى رفعها إلى شفتيه شرب منها مع الحاضرين .. وظلت ممتلئة .. كما هى ..

وهكذا انطلقت المعجزة السادسة تسابق الريح ..

***

وبعد العشاء .. والشاى الأسود .. بدت حلقة الذكر فى الساحة ، ووقف الشيخ فى وسط الصف وحوله أتباعه ومريدوه .. وفى صفوف وراءهم وقف الفلاحون ..

وابتدأ الذكر بهمهمة لامعنى لها .. ثم بتمتمة .. ولم يكن اسم الله يذكر على لسان ..

ثم ابتدأ الطواف .. والزبد على الشفاة .. والصراخ .. ولوثة المشعوذين .. وكان الشيخ يرتفع بجذعه وينحنى حتى تلامس رأسه الأرض ..

وعندما كان يرفع رأسه كان يرى القرويات على سطوح المنازل متحجبات وسافرات يشاهدن الذكر ويتهامسن ..

وكان الشيخ عندما ينفرد نظره بمليحة منهن كان يطيل النظر إليها ثم يغلق عينيه كأنه يسبح ..

وشاهد فى المنزل المواجه له صبية فى جمال القمر .. وعندما انتهى الذكر بعد منتصف الليل .. وأخذ الفلاحون يتنازعون على البيت الذى ستحل فيه بركة النوم ..

قال لهم الشيخ :
ـ الجار أحق بالتشريف ..
واختار بيت الصبية لينام فيه ..

وكان البيت لقروى متوسط الحال .. ورث من أبيه فدانين وتزوج من هذه الصبية الحلوة .. لينجب ويأتى بالوريث .. ولكن بعد زواج أربع سنوات .. لم يأت الوريث .. وكان المسكين قلقا .. ومتبرما .. وعرض نفسـه على جميع الأطباء فى المدينة .. وحمل جميع أنواع الأحجبة .. دون نتيجة ..

وطار قلب الفلاح من الفرح عندما دخل الشيخ بيته .. وتجمع الناس حول الدار .. ولكن الاتباع صرفوا الناس لينام الشيخ .. فى هدوء ..

وحرصا على راحة الشيخ ترك الفلاح القاعة العلوية للشيخ .. ونزل لينام وحده فى الفناء ..

وظلت الزوجة الصبية تخدم الشيخ وتقدم له الماء فى الابريق ليتوضأ ويصلى الفجر .. وهى جالسة أمامه .. وكان هو يمسح على جبينها وشعرها ويتمتم ثم أخذ يباركها على طريقته ..

***

وارتفعت شمس الضحى .. وحلت صلاة الجمعـة فى مسجد القرية .. ولم يحضر الشيخ الصلاة ..

وقال الفلاحون :
ـ انه يصلى فى الكعبة ..

وجاءت المعجزة السابعة .. متأخرة .. قليلا فقد حملت توحيدة زوجة الفلاح العاقر الذى باركه الشيخ ونام فى بيته .. وتأكد الحمل بعد ثلاثة شهور من سفر الشيخ ..
وطبلت القرية كلها ورقصت لهذه المعجزة لأنها كانت أروع المعجزات ..
====================================
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية 11/11/1954 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الزلة الأولى " و" قصص من القرية " ـ مكتبة مصر ط 2006
====================================


الأصلع
قصة محمود البدوى


هل قرأت قصة الرجل الذى يلبس شارة الحداد لدستويفسكى .. وكان يلتقى بالبطل كلما حل فى مكان حتى أصبح يكرهه كرها مرا ويبغضه بغضه للموت ..

لقد التقيت بهذا الرجل فى مجرى حياتى ، ولكنه لم يكن يضع شارة الحداد كأحد أبطال دستويفسكى .. بل كان اصلع مسطح الرأس .. منتفخ الوجنتين قصير العنق يتطلع إليك بعينى فأر ..

عينين ضيقتين رجراجتين تبغضهما من أول نظرة لأنهما تستشفان أغوار نفسك وتعريانك من جلدك ..

ولقد حطت على هاتان العينان لأول مرة فى مطعم صغير بحى الحسين فى الوقت بين العشرين والثالث والعشرين من شهر يوليه سنة 1942 ..

وكان المولد قد انقضى منذ خمسة أيام .. وكنت الزبون الوحيد فى المطعم لأن الوقت لم يكن وقت غداء .. أو عشاء ..

وإذا بهاتين العينين الضيقتين تحدقان فى وجهى بشراسة وأنا امضغ الكبدة .. فتوقف فكاى عن المضغ وشعرت بانسداد الحلقوم .. ووقع فى تقديرى لأول وهلة من الحالة التى رأيت عليها الرجل إنه يبحث عن شخص منذ عشرات السنين لثأر قديم ..

فلما وجده فى هذا المكان الصغير الذى لم يكن يتوقع وجوده فيه شعر بفرحة كبرى .. انتفضت لها جوانحه .. واتسعت عيناه ثم ضاقت من فرط السرور الباطن الذى رقص له قلبه .. وفاضت تعابير وجهه بأشياء عجزت عن وصفها فى هذه اللحظة ..

وعندما لوى وجهه عنى بعد قليل ليدفع الحساب للجرسون استطعت أن أقيس طوله وعرضه .. كان سمينا قصير الساقين يرتدى بدلة رمادية كاملة .. وخيل إلىَّ من فرط تكسرها وتثنى أطرافها أنه ينام بها ..

وكان قميصه متسخا وحذاؤه أكثر اتساخا حتى قدرت أنه لم ينظفه منذ بداية المولد ..

وكنت اتوقع أن ينهض بعد أن دفع الحساب ويذهب لشأنه ولكنه ظل جالسا يتابعنى بنظرات أشد ضراوة ..

وتيقنت بعد أربع دقائق من التحديق المتصل اننى شبهت له وأنه يتبع رجلا له مثل ملامحى تماما ..

وخطر فى بالى لأريحه وأريح نفسى أن اذهب إليه وأبين له ما فى تصوره من خطأ .. ولكننى تركته على حاله عندما وجدته قد ابتاع جريدة مسائية .. وأخذ بقلب وجهه بين صفحاتها سريعا ثم طواها ونهض على التو ..

وكدت انساه تماما .. فقد مر يوم ويوم مثله .. لم أره فيهما .. ثم وجدته يدخل ورائى من مدخل فندق « رمضان » بالسكة الجديدة .. ويرتكز على البنك أمام موظف الفندق ..
وصعدت إلى غرفتى وتركته لأتجنب النظر إلى طلعته ..

* * *

والتقيت به بعد ذلك مصادفة فى شارع الغورية .. مرتين مواجهة .. وفى كل مرة كان وجهى يحتقن من الغضب ..

وايثارا للسلامة .. وقد تكون هذه المقابلات كلها مجرد مصادفة .. وقد يكون هذا الرجل الأصلع المخبول يتبعنى هكذا للوثة فى عقله .. إيثارا للسلامة .. إنتقلت إلى شارع كلوت بك حيث ظلام الحرب والبواكى والمواخير .. والحشد المتدفق من الجمهور .. وعساكر الإنجليز وحلفائهم .. وضعت فعلا فى هذا الزحام ..

ومرت خمسة أيام طيبة .. أحسست فيها براحة نفسى وهدوء أعصابى ..

وفى عصر اليوم السادس .. وجدته أمامى وأنا واقف على دكان سجائر تحت البواكى .. وكانت نظرته صارمة متحدية .. حتى حسبته يسخر من هروبى وانتقالى من حى إلى حى .. وزادتنى نظرته مقتا له .. وسببت لى حالة من الرعب أفزعتنى وجعلت العرق يتفصد من جبينى ..

وكان يتحتم على أن أبقى فى القاهرة إلى منتصف سبتمبر لأعمال تتعلق بنزاع على وقف فى أرض شريف .. وما زلت فى بداية شهر أغسطس .. وانتقالى إلى فندق ثالث فى حى آخر سيزيد من مرض أعصابى ويجعلنى فى حالة أقرب إلى الجنون ..

* * *

وتركت المقادير تجرى ..
وكل ما أستطعت أن أفعله هو أننى تخيرت مقهى بجوار كوبرى « أبو العلاء » فى حى بولاق لأقضى فيه السهرة بدلا من مقاهى العتبة .. حيث يكثر الإنجليز السكارى ..

وكنت أشعر بالهدوء والراحة فى هذا المقهى لأنه يطل على النيل مباشرة ولأن واجهته بحرية ولأنه رغم جمال موقعة قليل الرواد فى النهار والليل ..

ورغم المشوار الطويل الذى أقطعه كل ليلة فى طريقى إليه فقد استرحت إليه وأحببته لأنه فى حى شعبى .. بعيد عن أمكنة العساكر الإنجليز الذين أخذوا يتكاثرون فى قلب العاصمة .. بعد هزيمتهم فى الصحراء ..

وكانوا منكسرين على طول الجبهة .. ويغطون إنكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان ..

وحاول أحد العساكر ذات ليلة خطف طربوشى .. ولو أننى أحمل نصلا حادا أتوماتيكيا معى دائما منذ بداية الظلام وأشهرته فى وجهه فذعر وتركنى لحدث ما لا تقدر عواقبه ..

وكانوا يسمعون المصريين يهتفون تقدم (يا روميل) فيزداد غيظهم وسعارهم ..

وكنت أجلس فى مواجهة الكوبرى وأرى فى كثير من الأحيان قوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصحراء تقودها السائقات الجميلات فى ملابس الحرب ..

وكان منظرهن يهز مشاعرى ويجعلنى أفكر فى الأنثى بإحساس شاب فى الخامسة والعشرين ..

واستراحت أعصابى فى المقهى .. واسترحت فيه كلية من شبح الأصلع الذى مزق ألياف لحمى وجعلنى أعيش فى رعب ..

وكانت حجة الوقف التى جئت بسببها إلى القاهرة قد أمكننا العثور عليها مطمورة بين أكداس الأوراق .. وقد جعلنى هذا أكثر سعادة .. فمشيت فى تلك الليلة على كوبرى « أبو العلاء » وكان القمر قد تم والهواء رخيا وحركة السيارات قد خفت .. والكون كله يوحى بالسكون وأن الناس قد ذهبوا إلى مضاجعهم ..

وفى وهج الأحلام بما تدره علينا حجة الوقف بعد العثور عليها مما جعلنى أتأنى فى السير لتتضح الصورة وتتشكل المعالم الذهبية .. سمعت وقع أقدام خفيفة خلفى .. أقدام رتيبة تقرع خشب الكوبرى فى وقع واحد لا تغيره .. ثم خفتت جدا وخيل إلىَّ من خفوتها أنها تبتعد عنى .. ولا تسير ورائى .. فلما تلفت لأتحقق من تصورى .. وجدت شبح رجل يتبعنى فى الظلام .. ولا يبتعد عنى كما قدرت ..

وتمهلت وأنا أدير رأسى لأستوضح ملامحه ، ولما وقع بصرى على صلعته .. وقف شعرى ، وانتابنى فزع لا أستطيع وصفه .. إنه الرجل بعينه خرج من أعماق الماء .. أو تسلل من وراء الكوبرى .. أو كان يتبعنى كظلى عند ما خرجت من المقهى .. لم أكن أدرى .. تسلط علىَّ غضب أرعش بدنى كله .. وجعلنى أفكر فى خنقه .. إجتاحنى غضب أسود ..

وعندما خرجت من طوار الكوبرى .. أعترضتنى قافلة من سيارات الجيش الإنجليزى .. فغاب الأصلع عن بصرى فى زحمة السيارات .. وبعد مرور القافلة لم أعثر له على أثر ..

* * *

وانتابتنى حالة من الرعب القاتل وأنا فى الفراش جعلت النوم يطير من أجفانى ..

وأخيرا وبعد تفكير طويل راوحت نفسى على أنه حالة من الفزع وتعب الأعصاب وأنه لا يوجد شىء أطلاقا فى حياتى وعملى يجعلان هذا الرجل يتبعنى ..

ولكن فى الصباح .. احتلت رأسى فكرة جديدة ورأيت أن أنفذها على الفور .. أبتعد كلية عن هذا الرجل وأترك له القاهرة ..
وأخذت قطار الظهر المتجه إلى الإسكندرية ..

ولما كنت لا أبغى من السفر التصييف ولا الإستحمام فى البحر .. فقد وقع اختيارى أن أنزل فى فندق صغير ( بالمنشية ) حيث المطاعم الشعبية الرخيصة وحيث يوجد مركز الثقل فى المدينة ..

وكنت أسهر أحيانا فى شارع ( البير ) فى غير ليالى الآحاد .. وهى الليالى التى يكثر فيها البحارة الإنجليز ويكثر مع وجودهم عراكهم وصخبهم .. وكانوا فى حالة فزع من الألمان ورعب مزق أعصابهم ..

ومهما يطل جلوسك لا تشعر بالملل فى هذا الشارع الجميل الفائض بالحيوية والحياة ..

ولهذا كنت ابتعد عنه متحسرا فى مساءى السبت والأحد ... وأقضيهما فى حانة صغيرة بشارع « أديب » وهو شارع أعور قليل الدكاكين ، وحانته أنيقة تنزل إليها بخمس درجات ولا يعرف طريقها الإنجليز ولا حتى المصيفون ..

وفى ليالى الغارات الشديدة كنا نعتبرها أأمن مخبأ لأنها فى جوف الأرض ..

وفى ليلة طيبة الهواء لمحت وأنا أشرب البيرة فتاة مصرية جميلة تجلس إلى مائدة وحدها فى ظل المصباح الجانبى ..

ولم أكن منذ وصولى الإسكندرية قد اتصلت بالنساء .. وجذبتنى الفتاة بعينيها العسليتين والرقة التى فيها ورشاقتها وجمال قوامها..
ودعوتها إلى مائدتى ..

وجاءت وشربنا واتفقنا بعد حوار قصير على أن نذهب إلى شقتها ..

وسرنا متلاصقين فى الشوارع الضيقة وكانت قيود الإضاءة بسبب الحرب تجعلنا نستريح أكثر للعتمة التى كانت عليها المدينة .. ولكن كلما لمحت بعض الإنجليز السكارى من بعيد يغنون وهم يترنحون فى الشارع كنت أتحسس النصل الأوتوماتيكى الذى فى جيبى .. ونبتعد عنهم ..

وكان بيتها فى حارة تتفرع من شارع ( سيزوستريت ) ولم أشعر وأنا أسير بجوارها بطول المشوار .. عندما لم نجد ( تاكسى ) ولا عربة ( حنطور ) فى تلك الساعة من الليل ..

وعندما درنا فى حارتها الضيقة المرصوفة بالبلاط وأصبحنا أمام الباب .. رأيت الرجل الأصلع بلحمة ودمه أمامى فجأة .. وسحقتنى طلعته ..

وفتحت فمى مدهوشا .. وارتعش بدنى كأنما وخز جسمى كله بالأبر ..

وكانت الفتاة قد تقدمتنى فى مدخل البيت فلم تلاحظ حالتى .. وتبعتها وأنا مصعوق ..

* * *

وكانت شقتها صغيرة وجميلة .. وشعرت بالهدوء قليلا عندما أغلقت وراءنا الباب .. ولكن فى حجرة النوم وجدت فى المرآة رأس الأصلع فسح عرقى .. فى اللحظة التى كانت هى فيها تخلع ملابسها ..

وعندما تمددت بجانبها .. كان سيل العرق لا يزال يتصبب ..
فمسحت على جبينى وقالت برقة :
ـ مالك .. ؟
ـ لا شىء ..
ــ شربت كثيرا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ جسمك بارد ..
ـ أبدا ..

ونظرت طويلا إلى عينى .. وقالت :
ـ هل تتصور أننى أخالط الإنجليز .. وتخاف من المرض .. ؟
ـ أبدا .. أنك حورية .. ولقد أشتهيتك كأجمل أنثى فى الوجود .. ولكن الأحسن أن أستريح الليلة .. وسأجىء إليك غدا ..
وارتديت ملابسى وقدمت لها جنيها أخذته بصعوبة ..

وسرت فى الشوارع وأنا شبه مجنون .. كنت فى ثورة عارمة .. فقد كان هذا الرجل المجنون السبب فى أن أشعر بالمهانة أمام أجمل أنثى ..

كانت عيناى تقدحان شررا .. وتبحثان عنه .. سرت فى الشوارع ومن حيث بدأت .. جئت ..

ولمحته فى شارع « النبى دانيال » .. يسير الهوينا .. هادئا .. كأنه ما فعل شيئا .. وتبعته ورأسى يغلى كالمحموم .. تبعته كظله .. وأنا أكتم وقع خطواتى .. ولم يكن فى الشارع سوانا .. ومال إلى شارع جانبى ودخل بيتا من أربعة طوابق .. بيتا قديما وسلالم متآكلة وكانت الظلمة فى المدخل وعلى السلم شديدة .. ومع ذلك استطعت أن أصعد وراءه .. وأدركت من وقع خطواته أنه يسكن فى الطابق الأخير ..

وأحسست به وهو يفتح الباب .. ورأيت أن أباغته قبل أن يخلع ملابسه أو يترك فتح الباب لغيره إن كان فى الشقة سواه .. فأسرعت وراءه وضغطت على الجرس .. وأول شىء طالعنى صلعته وأخذته مباغته بضربات حادة وتركت النصل فى جسده لم أنزعه .. وجريت إلى الشارع .. وكان السكون يخيم ..

* * *

وفى الصباح الباكر خرجت من باب الفندق .. وركبت الترام « الدائرى » وأنا مأخوذ تماما ..

كنت فاقد الشعور مذهولا .. وعلى بصرى غشاوة جعلتنى لا أميز معالم الطريق ..

ونزلت فى ( محرم بك ) لأمشى .. وجدت أن الحركة خير من السكون .. فمشيت فى الشوارع ومشيت .. ومن وراء سور عال .. لمحت وجوه أطفال فى داخل الفصل ومن نافذة الفصل الوحيدة .. رأيت مدرسا يضرب تلميذا صغيرا على أطراف أصابعة بسن المسطرة .. كانت الضربات متلاحقة وموجعة .. والتلميذ يصرخ ..

واشتغل رأسى فجأة .. ومضى شىء جعلنى أرجع إلى سن الطفولة ..

وتذكرت مدرس الرياضة الأصلع الذى كان يضربنى فى صباح الشتاء البارد على أطراف أصابعى بسن المسطرة .. والأصابع متجمدة من البرد .. فيكون الوجع رهيبا .. ينخلع له القلب ..

تذكرت مدرس الرياضة الأصلع وكيف كنت أبغضه إلى درجة الموت ولكنه أفلت منى طوال هذه السنين .. ووقع الرجل الآخر المسكين مكانه .. ضحية لعذاب الطفولة ..

وصرخت وظللت أصرخ فى قلب الشارع حتى تجمع حولى الناس وكونوا دائرة أخذت تضيق ولكن الوهج المتطاير من عينى جعلهم لا يقتربون أكثر ..

==============================
نشرت القصة فى مجلة " الهلال " عدد اكتوبر 1970 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " صقر الليل " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================

صقر البحار
قصة محمود البدوى

كان البحر عالى الموج والرياح تزمجر والليلة شديدة الظلام ..

وكان الزورق يشق الماء فى جو ينذر بالعواصف والمجدافان يعملان بشدة .. ويجهد أنفسهم الرجال الشجعان ليصل الزورق إلى مقصده ..

كان قد ابتعد عن المنتزة وخرج إلى عرض البحر .. وأصبح تحت رحمة الأقدار .. ولكن الرجال الأشداء الذين يوجهونه كانوا يكافحون ببسالة ..

ولم تكن العاصفة مقدره .. ولا كانت فى حسبان أحد .. ولا كان هناك أدنى احتمال فى أن ينقلب الجو إلى هذا السوء ولكن الزورق كان لابد أن يبلغ السفينة فى منتصف الليل مهما كانت الأحوال فأقلع ..

وكان ( مرسى ) صاحب الزورق الملقب ( بصقر البحر ) من أمهر الصيادين ورجال البحر فى الإسكندرية اعتاد على المخاطر وركوب الأهوال ، وكان يعتمد عليه فى مثل هذه المهمة اعتمادا كليا .. وندر من يقبلها أو يرضى القيام بها من أصحاب الزوارق الأخرى .. ولكن صقر البحار كان على استعداد تام لأن يبيع نفسه حتى للشيطان إذا دفع له الأجر عاليا ..

وكان صقر البحر أصغر من رفيقيه فى الرحلة سنا ولكنه أشدهم بأسا وأعظمهم قوة وكان يتولى القيادة وأمساك الدفة .. وفيه كل طباع القرصان .. مع أن عهد القرصان قد ولى .. وذهبت أيامه وبقى ظله فى البحار .. ولكن مرسى كان يضحك ويقول : « أن الناس أصبحوا قراصنة على الأرض بعد أن اختفى قرصان البحار .. فلماذا لا أعيد للبحر هيبته .. ؟ »

ومنذ عصف البحر وهو يفكر فى الشىء الذى غيبه فى القاع .. خشية أن يغرق الزورق ويفقده فتكون الكارثة الكبرى ..

وكان جسورا مقداما بطبعه .. وقد أكسبه العيش فى البحر .. جرأة وجسارة أكثر .. وقد ذهب بزورقه هذا إلى سواحل الشام .. كما ذهب إلى قبرص وإلى بيريه .. ولم تكن جرأته فى البحار تقف عند حد ..

وكان يرتدى سروالا أسمر وقد تمنطق بحزام ووضع على صدره ( فانلة ) البحار وفوق هذه صدارا قطنيا مخططا زاهى الألوان .. وغطى رأسه بطاقية صوفية مزركشة جعلته أشبه بصقر الليل ..

وكان الملاحان الآخران المرافقان له فى الرحلة يلبسان ملابس الصيادين .. وحشا أحدهما جيوبه بالتبغ والبلح المجفف .. وأخذ الرجال الثلاثة يدخنون فى صمت وعيونهم إلى البحر والليل وكانت العاصفة تزداد عنفا ..

وكان هناك المسافر الوحيد فى هذا الزورق .. وقد جلس قابعا منزويا فى الجزء الخلفى الملاصق للدفة وعلى وجهه كل دلائل القلق والخوف الشديدين ..

وأخذ الزورق يتأرجح ويعلو به الموج ثم يهبط .. ومع كل ذلك ظلت ملامح الرجال ساكنة ووجوههم جامدة .. وكانوا قد طووا نصف الشراع .. وبدا النصف الأعلى المنشور كافيا لأن يدفع الزورق كالسهم فى مثل هذه الريح لو كانت الأحوال طبيعية ولكن صراع الموج كان يعوق الإبحار .. وكان الزورق يبدو .. كأنه لا يتحرك من مكانه .. والبحر يزأر بعنف وكأن فى أعماقه غيلانا تتقاتل .. وتجذب الزورق بسلاسل إليها ..

عاش الثلاثة رفقاء فى البحر .. وكانت حياتهم ملتصقة بالبحر وممتزجة به .. وتحت سمائه يأكلون ويشربون .. وينامون .. وكانت صدورهم المفتوحة وعضلاتهم وسواعدهم .. تزداد قوة وصلابة فى صراعهم مع الأمواج ..

وكان (مرسى) على غير عادة قد أخذ يجدف فى هذه الليلة لهول البحر .. وكانت قوته وحده تعدل قوة رفيقيه .. ثم ترك المجداف لغيره وانتصب فى مؤخرة الزورق .. يرقب ما هناك .. وبدت قامته الطويلة فى الليل كمارد أسود ..

كان فارع الطول عريض الألواح .. وكان يجيل عينيه الحادتين فى أغوار البحر .. باحثا عن السفن التى تتحرك هناك ..

وكانت يداه تتحركان إلى الأمام والخلف ثم وضع أحداهما فى جيبه وأشعل لنفسه سيجارة بعد أن أنحنى فى القاع ليكون بنجوة من الريح ..

وبدت عيناه حمراوين كوهج السيجارة التى فى أطراف أنامله .. وكانت حياته صراعا رهيبا كثيرة المخاطر .. وكانت المخاطرة تدفعه لمثلها أو أشد منها حتى وجد نفسه أخيرا يعيش فى حلقة مفرغة وكان الصيد ستارا لما يقوم به من أعمال خفية ولم يكن يؤمن إلا بالشىء الذى سيحصل عليه هو مهما ركب فى سبيله من أخطار ..
كان أنانيا يدور حول نفسه والأنانية هى محور حياته .

وكان عيشه فى البحر قد جعل جلده أسمر كأنما سفعته النكبا .. وكان شعره مفلفلا قصيرا .. وترك شاربه مفتولا وكان يعنى به ويدهنه ويجعله لامعا كلما أتيحت له الفرصة لأن يزهو بنفسه ..

وفجأة برز أمام عينيه شىء ضخم قام كالجدار كأنما خرج من جوف البحر ولم يشاهد ( مرسى ) السفينة إلا وهى أمامه .. وكانت ضخمة من عدة طوابق وتسير فى الخط المضاد .. وكانت تقترب منه كأنها متعمدة سحقه ولما أقتربت توضحت معالمها وأبراجها وبدت أنوارها الضئيلة تمسح الظلمة قليلا .. لاحت فى الليل الشديد السواد وهى تتأرجح .. كحبات من الدر متناثرة على صينية من الزئبق الرجراج ..

وكان الموج يدفع السفينة الشامخة ويميل بها إلى جانب ولكنها كانت فى جبروت واصرار تلتزم خطها المرسوم .. وكان ( مرسى ) يدرك تماما أن السفينة لم تره ولم تحس وجوده إلى جانبها .. قط .. وهنا يكمن الخطر ويتجسم فى كل لحظة ..

وأحس بالدوامة تقترب وكان الزبد الأبيض المتخلف من محرك السفينة والذى سيطويهم يقترب منه .. رآه ( مرسى ) على مدى أمتار قليلة .. فامسك بالدفة فى يده وصاح فى رفيقيه وزأر ..

وأحس المسافر الوحيد بالخطر فتجمع على نفسه مرعوبا ..

وزعق الرجال الثلاثة فى صوت واحد وقد تحولوا إلى مردة .. على المجاديف ..

واندفع الزورق إلى الأمام ثم ارتد إلى الخلف مرة أخرى وارتفع كالطود ثم أنخفض وحسب الرجال أنهم قد غاصوا فى قاع البحر .. ثم تنبهوا إلى صوت المحرك .. مع صفارة السفينة ..

وكأنما جاء النذير فى الليل العاصف فهدأت المحركات .. ومرق الزورق من جانب السفينة وخرج إلى بحر الأمان ..

وران صمت كالجبال على الوجوه المنتفخة .. والعيون المحدقة فى ذهول .. فقد نجوا من الموت باعجوبة .. أعجوبة الأعاجيب ..

وتغير وجه مرسى بعد أن أجتاز الخطر .. وظهر عليه العبوس فقد أحس بأنها ليلة مشئومة .. ولكن لهفته على أن ينجز مهمته .. جعلت قلبه الصلد لا يلين ولا يعبأ بما تأتى به الأخطار فراح يحدق إلى الأمام فى سكون .. وكأن البحر يضفى عليه إحساسا بالقوة وبالحرية ..

تحرك المجدافان فى الماء وأخذا يضربان صفحته فى قوة .. وأحس ( شعبان ) أحد الملاحين بطقطقة فى الحلقة التى تمسك بالمجداف .. وفى سرعة جذب المجداف من الماء وأخذ يغير الحبل .. وبقى المجداف الآخر يثير الزبد ..

واستدار الزورق لما نزل المجداف الثانى إلى الماء مرة أخرى وأخذ يشق طريقه وبدت أضواء السفن من بعيد تتحرك فى بطء .. كأن المحركات تتقى شر العاصفة ولا تدور إلا هونا ..

ونظر ( مرسى ) إلى ساعته فألفاها الحادية عشرة .. وكان أمامه مسيرة ساعة كاملة فى هذه الأهوال حتى يلتقى بالسفينة التى يقصدها..

وكان الزورق رغم العواصف والأنواء يسير فى خط معلوم كأنما يتحرك بمحرك .. كان ينطلق ثم يرتد ولكنه يمضى على سننه فى وجهته المرسومة ..

وكان الماء واسعا وخيل إلى ( مرسى ) عندما أبعد تماما عن الشاطئ وأوغل فى اليم إنه يسير فى وسط المحيط الأطلسى ويتجه غربا إلى أبعد مدى ..

واعتمد على عامود الدفة وأخرج لنفسه سيجارة من جيبه وأشعلها وأجال الطرف فيما حوله .. كان البحر لا يزال مهولا .. ولكن السفن بدت كثيرة وراء بعضها كأنما تربطها سلسلة واحدة وهى خارجة لتوها من قناة السويس .. لابد أنها عبرت القناة بالأمس .. وربما فجر اليوم وها هى الآن تتهادى إلى كل البحار ..

ظل الرجل فى مكانه صامتا حتى رأى النور الذى يعرفه والسارية التى يقصدها .. وكان يعتمد على ( شعبان ) اعتمادا كليا فقال فى صوت النشوان :
ـ إننا نقترب ..
ـ أجل .. ياريس ..
ـ عندما ندور فى الجانب الأيسر من السفينة أترك المجداف لـ ( حميدو ) .. وارتكز أنت على المقدمة حتى ترى الزورق ينزل بالحبال من السفينة .. وحاذر من السفينة وإلا أغرقتنا فى دوامتها ..
ـ سنبذل كل ما فى وسعنا .. واللّه يسلم ..

ومرت لحظات وظهر من بعيد هيكل السفينة كالجدار ونزل من جانبها زورق صغير وبدا الرجال فى الظلمة كالعفاريت ..

ورفع مرسى المجاديف عن زورقه وانحنى إلى الأمام يحدق فى الظلمة الجاثمة أمامه .. وقد أمسك بيده عمود الدفة .. ورأى الزورق الآخر على سطح الماء ثم أنزلق إلى ناحيته وران الصمت .. حتى أقترب الرجال ..

وخرج المسافر الوحيد من مكمنه كأنه خارج من قاع الجب ..

وأخرج ( مرسى ) الصندوق الملآن بالسبائك الذهبية .. من قاع الزورق وناوله لشعبان فى المقدمة .. وتقابل الزورقان ..

ونزل المسافر الوحيد فى الزورق الآخر .. وحمل له مرسى الصندوق المملوء بالذهب والجواهر .. ووضعه بجانبه فى الزورق الآخر وقبض أجر التهريب من المسافر الوحيد .. وعاد إلى زورقه وهو نشوان فقد قبض مبلغا ضخما .. يكفيه لأن يعيش كريما لو أراد ..

ودارت المياه وتحرك الزورق الآخر حركة لولبية ثم عاد إلى سفينته مرة أخرى ورفعوه بالحبال والجنازير ..

وتنفس الرجال الصعداء لقد قاموا بالمهمة فى جو عاصف وفوق الأمواج المرتفعة .. وسأل مرسى .. رفيقيه :
ـ تعبتم .. ؟
ـ أبدا ..
ـ حركا .. المجاديف .. جولة واحدة ثم نرجع لننام ..

وتسمع حركة .. فأنصت وألقى أذنيه :
ـ إنى أسمع حركة ..
وأنصت الملاحان ..
ـ إنه طراد ..
ـ لا .. إنه رفاص السواحل .. حل الشاغول يا شعبان .. وشد الشراع إلى آخره ..
ـ نغرق يا ريس ..
ـ الغرق .. خير من القبض علينا .. سيسوموننا العذاب .. حل ياشعبان حل ..
ـ نغرق ياريس ..
ـ قلت لك حل ..
وتحرك إليه فدفعه إلى السارية ..

واندفع شعبان إلى الأمام .. وعاكسته عقدة فى الحبل .. فتعلق بالسارية .. ليعالجها .. وجاءت موجه عالية فى هذه اللحظة .. رفعت الزورق على صدرها ثم حطته .. وعندما نظر مرسى إلى مكان شعبان وجده شاغرا .. فصرخ فى حميدو .. ولكن الزورق كان يسير بين موج كالجبال فذهب الصراخ هباء ..

وكان حميدو يريد أن ينزل وراء شعبان .. ولكن مرسى منعه ..

وكان البحر مهولا .. والحيتان تتراقص بجانب الزورق .. وطفا شعبان مرة واحدة وهو يصرخ مستنجدا .. ثم ابتلعه اليم ..
وشرب مرسى الشاى .. وأشعل سيجارة ..

وخيم سكون الموت فهذه هى المرة الخامسة التى يحدث فيها غرق فى جولاته .. كان شعبان الذى غرق من أمهر الملاحين وقد أسف عليه ولكن ماذا يجدى الأسف ..

ولم يحزن مرسى على الرجل الذى غرق وابتهج لأنه سيأخذ نصيبه وقرر أن يعطى أرملة الغريق منحة بسيطة ويأخذ الباقى لنفسه ..

أما حميدو فقد حزن على موت رفيقه وأحس بغصة فى حلقه .. ولولا خوفه من مرسى لقفز إلى الماء وتركه وحيدا ..

ولما وجد الريح قد سكنت أطلق الشراع كله .. ورفع المجداف .. وخيم الصمت من حوله .. وبدأ الليل تنقشع غياهبه .. وأخذت نجوم الفجر تتألق ..

وكان الزورق ينطلق فوق الماء فى يسر بعد أن سكنت الأمواج ..

وأحس مرسى وهو معتمد على الدفة وقد أطلق « الشاغول » وشد الشراع بأنه يملك زمام الطبيعة .. وأن كل شىء رجع إليه كما كان .. وبدا البحر جميلا أزرق .. وصفحة السماء فى مثل زرقته ..

لم يحزن على الرجل الذى طواه البحر .. أبدا .. هذا عارض يحدث لكل إنسان وماذا يجدى الحزن .. وماذا يجدى الأسف ..

وأحس بالجوع .. فأكل شيئا .. ولم يأكل رفيقه .. وأحس بعد الطعام بالدفء ولم تكن الليلة شديدة البرودة .. وإن كانت ريح فبراير لا تزال تسفع ..

وكان الزورق يشق صدر الماء فى يسر والشراع منتشرا .. والحبال مشدودة .. وإلى يساره لاحت أنوار بعيدة ..
إنه يقترب من الشاطئ جدا .. وقد بعد عن الخطر .

وارتكز ثانية فى مؤخرة الزورق وحول إتجاهه .. ليقترب من الشاطئ أكثر وأكثر ..
لقد دخل فى منطقة الأمان ولم يعد البحر يخيفه ..

وتحسس النقود فى نطاقه الجلدى .. سيعطى « حميدو » خمسين جنيها فقط ويبقى المبلغ كله له لقد أدى المهمة واستراحت نفسه .. شعر بالارتياح .. كان يشعر بإبتهاج النفس كلما فرغ من عمل ركب فى سبيله المخاطر ..

وملأ رئتيه من هواء البحر .. وتمطى وشعر بلذة من فرغ من عمل كبير .. واستحوذ على أجره كاملا ..
وانطلق الزورق ..

وبدت اليابسة على مرمى الأفق .. الأرض الخضراء .. وكان يحس بانتعاش وهو يرى إلى بعيد .. ويحس بشوق لأن يعود .. إلى بيته سليما كما خرج منه ..

لقد انتهى الأمر .. وذهبت المخاوف كلها .. وبغرق شعبان إنزاح الشؤم كله ..

وأحس بأنفاس البحر .. وكان الزبد يذهب مع الموج ثم يجئ .. زبدا راغيا ..

وأخذ الزورق يتمايل حتى لاحت اليابسة .. مع أنفاس الصبح .. وأشرق نور الصباح .. بهيجا رائعا .. وسيسير فى النهار عائدا إلى الإسكندرية .. انه الآن على مبعدة من رشيد وربما من أدكو .. وسيظل يتهادى بزورقه فى عرض البحر حتى يقبل الظلام .. وفى الليل سيدخل الإسكندرية .. ما أجمل الحياة فى البحر ..
أن حياة البحر هى الحرية ..

وقال لحميدو :
ـ إرم الشبكة .
ومع مطلع الشمس سحباها وكان فيها سمك كثير ..

كان مرسى مستغرقا فى التفكير .. وكان رفيقه يلقى بالسمك الحى إلى قاع الزورق ويطوى الشبكة فى المؤخرة .. ويقوم بعمله العادى فى نشاط عجيب .. ونسى ما حدث فى الليل .. نسيه بسرعة .. لأن الحياة عودته على ذلك .. وأدار الزورق .. وقادة إلى حيث يقدر وجود المياه الساكنة كان يريد أن يصطاد سمكا كثيرا يملأ به قاع الزورق ليغطى العمل الذى خرج من أجله فى الليل فظل يصطاد ويصطاد .. وبدا كل شىء واضحا فى الشمس بهيجا وظل الجو هادئا إلى العصر وفى الغروب انقلب الجو مرة أخرى .. وأمسى عاصفا وظل الرجلان يكافحان ويغالبان الأمواج ببسالة وملامحهم ساكنة ..

وأحس مرسى بموجة عاتية قادمة من بعيد ستدفع الزورق وتحطم السارية .. وانقلب الزورق من شدة العاصفة واحتواه الماء .. وغاص مرسى فى اليم ثم طفى ولما نظر لم يجد الزورق المقلوب ولا حميدو واختفى كل شىء عن نظره وظل يسبح ثم أدركه التعب وقبل أن يشرف على الغرق انتشله زورق من زوارق الصيادين وألقاه إلى الشاطئ .. وكان فى حالة من الغيبوبة ولما أفاق لنفسه كان متمددا فى كوخ بجوار البحر .. والشمس مصفرة وكانت هناك امرأة واقفة خارج الكوخ ..

كانت نعيمة على الباب .. واقفة كأنها تنتظر عودة زوجها الذى ذهب إلى الحقل .. أو تتطلع إلى الغروب .. وكان وجهها يرف كالأقحوان وقد بدت طويلة ملساء العود نقية البشرة ..

وسألها الرجل الراقد وهو يدير عينيه فى ذهول لعله يتذكر :
ـ ما الذى جاء بى إلى هنا .. ؟
ـ التقطك صياد .. وأنت غريق فى البحر ـ بين الموت والحياة ـ وألقى بك إلى الساحل ..
ـ وأين نقودى .. ؟
ـ أى نقود .. ؟
ـ نقودى الكثيرة حزمة من أوراق البنكنوت ثلاثة آلاف جنيه كانت هنا فى نطاقى ..
ـ ربما سقطت فى البحر ..
ـ إنها لا تسقط .. لقد سرقت منى .. وانتزع النطاق وأنا فى غيبوبة ..
ـ ربما فعل هذا الصياد ..
ـ من يدرى وربما غيره .. ؟

وحدق فى وجهها .. كانت رائعة فى دثارها الأسمر .. وكانت عيناها السوداوان تشعان ببريق أخاذ ..

وغاظه أن المال الذى ظل يعد العدة له منذ سنة كاملة .. ذهب سريعا فى خطفة عين .. دون أن يدرى من الذى أخذه ..

وأحس بالغضب .. ولكن الحمى كانت تشله عن الحركة .. ونظر إلى المرأة مرة أخرى وأتهمها وإن لم يجد الدليل القاطع ..

وسألها :
ـ هل تعرفين الصياد الذى انتشلنى من البحر .. ؟
ـ أبدا .. إنه عابر سبيل .. ربما كان فى طريقه إلى الإسكندرية .. أو رشيد .. لقد ابتاع منا سجائر .. وأبقاك هنا .. وذهب ..
وفكر أنها تكذب ..
وسألها :
ـ تحت أى بلدة نحن ..؟
ـ إننا قريبا من « ادكو » ..

ورأى رجلا يقدم فى إتجاه الكوخ .. فسألها :
ـ ومن القادم هناك ..؟
ـ إنه زوجى ..

ورأى رجلا قصيرا يتحرك فى ظل الغسق .. وكان يحمل زكيبة على عاتقه .. ولما اقترب الفلاح من مرسى جلس بجواره يحييه ويسأله :
ـ كيف حالك الآن .. ؟
ـ كما ترى .. بخير .. والشكر لك ولزوجتك ..
ـ اعملى شايا يا نعيمة .. وجهزى العشاء للريس .. ما اسم الكريم .. ؟
ـ مرسى ..
ـ جهزى العشا للريس مرسى ..
ـ العشا جاهز .
ـ أشكرك .. تعاف نفسى الطعام .. أرجوك إذا مرت سيارة أجرة فى طريقها إلى الإسكندرية أوقفها لى .. لأعود لبيتى ..
ـ أنت الآن تعبان وإذا سافرت .. وأنت مريض ستؤذى نفسك ..
ـ لا بد أن أذهب إلى المستشفى إن الحمى تأكل بدنى ..
ـ نعم .. سنوقف لك سيارة ..

وشرب مرسى الشاى .. وأحس بالعرق والنوم يراود أجفانه فتدثر ونام إلى الصباح ..

وفى الصباح وجد الفلاح قد خرج إلى حقله .. وكانت نعيمة هناك بعيدة فى الكشك الذى على ناصية الطريق تبيع الدخان والكازوزة للعابرين ..

وألفى نفسه فى الكوخ وحده .. ووجد الفرصة سانحة ليفتش كل جحر وشبر باحثا عن نقوده .. فتحرك وأخذ يفتش فى كل ركن وفى كل الأشياء فى « الغلق » وفى الصندوق وفى الجراب .. وفى الطاقة .. بحث فى هذه الأشياء .. بسرعة ولهفة خشية أن يرجع الرجل أو ترجع المرأة فجأة .. ولم يجد شيئا فى الغلق ولا فى الصندوق ولا فى الطاقة .. فعاد إلى مكانه يائسا وفيما هو يدور بعينه فى الحائط .. لمح شيئا ارتجف له قلبه .. لمح شرخا حديثا فى الحائط سوى بمونة لم تجف بعد .. فانتصب وتحسس بيده قالب الطوب .. وانتزعه .. وهنا وجد الفجوة .. وقبضت يده على البنكنوت .. نقوده بعينها .. نقوده فى الربطة الجلدية التى كان واضعها فى نطاقه ..

وقبضها بيديه ووضع النقود فى صدره واحتضنها .. وهو نشوان لإنتصاره .. واستقبل الباب ليفر بها ..

وهنا أحس بطعنة خنجر حادة تنفذ فى ظهره تبعتها طعنات سريعة وسقط مرسى صريعا على الأرض فى مدخل الكوخ ..

وفى ظلام الليل .. سحب الفلاح القتيل على الرمال الناعمة حتى ألقاه فى البحر ..

===============================
نشرت عام 1966 بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " مساء الخميس " وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================

المســكين

قصة محمود البدوى


لمح الأجزخانة مضاءة من بعيد .. فاستدار واتجه إليها بخطوات متأنية حذرة ..

وكانت الحركة فى هذا الشارع الطويل المعتم ، قليلة فى مثل هذه الساعة من الليل .. لأنه خال من الحوانيت ..

ولأن الضاحية الهادئة تعيش على المترددين على المستشفى الكبير فى النهار .. وعلى العيادة التى كونتها الجمعية الخيرية فى الشارع الثالث القريب من المستشفى .

والعيادة والمستشفى يقل زوارهما فى الليل .. لأن العيادة تغلق أبوابها .. والمستشفى يظل ساهرا لاستقبال الحوادث !

أما فى النهار فما أكثر المرضى الذين يترددون على العيادة التى أنشأتها الجمعية .. فهناك فرق واضح الدلالة بين زيارة طبيب فى عيادته بعشرة جنيهات للكشف .. وزيارته بخمسين قرشا فى عيادة الجمعية .

كان الجمهور فى الواقع يستريح جدا لمثل هذا التخفيض الملموس ، حتى وإن كانت طريقة المعاملة تختلف فى الحالتين .

ولهذا وجدت الأجزخانة فى هذا الحى .. أو أوجدها صاحبها بذكاء وكياسة ..

فالمرضى يخرجون من المستشفى والعيادة إلى الأجزخانة مباشرة وبيدهم تذكرة الطبيب .

وغالبا ما يقول لهم الطبيب وهو يكتب الدواء ، إذا سأله المريض ..!
ـ الدواء موجود يا دكتور ..؟
ـ موجود .. وتجده فى أجزخانة عبد الحليم على الناصية .. والذى لا تجده هناك ابحث عنه فى أجزخانة الاسعاف .

ودون تعب المشوار إلى الاسعاف .. يعثر المريض على كل طلباته من الدواء فى أجزخانة عبد الحليم .. فصاحبها كتلة من النشاط ، ويعمل كالنحلة .. ويدرك أن من أبرز عيوب الأجزخانة أن يسمع المريض كلمة .. ناقص فى السوق ..

وكان " زكريا " قد راقب هذه الأجزخانة ودار حولها وطاف سبعة أيام كاملة .. راقبها من بعيد ودخل فيها مرتين يشترى أدوية خفيفة الأسبرين والنوفالجين ..

وكان الذى يقابله ويبيع له الدكتور عبد الحليم نفسه .. ولكثرة مشاغل الدكتور وكثرة الرواد ، فإنه يبيع ويقبض الثمن دون أن يكون عنده وقت يسمح له بالتطلع إلى وجه الزبون ..

فهو يتناول الورقة المالية من الزبون .. فى الوقت الذى يكون فيه لف الدواء فى ورقة .. وأرجع له الباقى مع اللفة فى عملية سريعة ميسرة .. اعتاد عليها وألفها .. وإذا لم تكن هناك قروش معدنية .. فإنه يضع الريفو .. وأمثاله فى كرتونة كبيرة أمامه .. ليعوض بهذا النقص فى النقود ..

وقد تعجب إذا علمت أن الدكتور يقوم بكل هذا العمل وحده .. ويقوم به ساعات طويلة دون أن يظهر علية أى أثر للتعب .. أو تقرأ فى ملامح وجهه .. وتعابير دخائله النفسية .. أى تذمر أو ضجر ..

وقد تعلل هذا بأن الإيراد اليومى الكبير فى آخر الليل ينسيه كل مشقة .. وهذا السبب هو الأغلب والأعم فى الدافع النفسى للعمل .. أو أن يكون الدكتور قد صرف النظر عن مضايقات الزبائن وطرحها وراء ظهره كلية .. وأكثرهم من النساء .. وغالبيتهن تترك طبيب الكشف الذى كانت عنده منذ دقائق .. وتأخذ الشرح المطول على عمل الدواء وخصائصه من الدكتور عبد الحليم ..
وما تضايق قط ولا قال لواحدة :

ـ لقد كنت عند الدكتور مهران منذ لحظة يا ستى .. فلماذا لم تسأليه عن كل هذه الأشياء التى تطلبينها منى .. أنا صيدلى يا ستى .. ولست طبيبا باطنيا .. ولا طبيبا متخصصا فى أمراض النساء !؟

ما كان يقول ذلك لواحدة منهن قط .. بل كان يبتسم فى رقة .. ويجيب عن كل الأسئلة قدر علمه !

***

وعندما دخل " زكريا " الأجزخانة فى الليل .. لم يجد الدكتور عبد الحليم .. ووجد مكانه سيدة طالعته بوجهها المتجهم .. ولكنه لم ييأس وقرر أن يواصل المشوار ..

وجلس ساكنا على أحد الكراسى الخشبية الموجودة فى المدخل مجاورا للباب .. وسمع صوت السيدة وهى تحاور الزبائن على قلتهم .. الآتين إليها من أماكن بعيدة .. لأنهم يعرفون أنها الأجزخانة الوحيدة التى تظل .. ساهرة . . سمعها فى حدة صوتها وعصبيتها .. وقابل كل هذا بهدوء وسكينة ..

ورمقته فى مكانه مرتين .. بنظرة مستكشفة .. ولكنها لم توجه إليه أى كلام .. على اعتبار أنها اعتادت على مثل هذه الجلسة الساكنة الصامتة من المرضى الذين يخرجون من المستشفى إلى الأجزخانة مباشرة .. فتتركهم أولا لاسترداد أنفاسهم .

وكان هو يطالها من زاويته .. ويحاول أن يعرف كل خصائص طباعها .. لاحظ الصوت على حدته .. ولاحظ الوجه الجامد الذى ليس فيه نعومة الأنثى .. بل كثيرا ما تنتفض فيه عروق الجبهة بشكل واضح .. فى حالة الامتعاض من شىء لاتستطيع مغالبته ..

ولاحظ أنها تحرك ماكينة الحساب فى كل مرة .. وتضع النقود فى الدرج فى كل مرة كذلك بحركة رتيبة وسريعة .

ولم يبق فى الأجزخانة سواه .. وكان الحى كله يوحى بالكآبة والصمت والموت .. والشىء الوحيد الذى يدل على الحياة هو نور النيون المضىء باسم الأجزخانة .. والذى يلمع وينطفىء .

وحدجته بنظرها وسألته .. لما لم يتحرك ويسأل :
ـ أى خدمة ..!

فرد بصوت واضح :
ـ حقنة ..
ـ حاضر ..

وقال هو على الفور بصوت أكثر هدوءا مما قال فى السابق :

ـ فى الوريد .. والدكتور عبد الحليم اعتاد أن يعطيها لى .
ـ أنا زوجته ..
ـ تشرفنا ..
ـ ويمكن أن أعطيها لك فى الوريد مثله ..
ـ يسرنى أن تقومى بعمله ..

وسألته بعفوية ونباهة .. وقد بدأ الشك يساورها بعد أن تأملت وجهه .. سألته وهى توليه ظهرها وتعبث فى صفوف الأدوية على الرفوف ..

ـ حضرتك ساكن فى نفس العمارة ..
ـ فى الشارع ..!
ـ لم أرك من قبل قط ..

وقال فى نفسه ملتوية وضعيفة مع حدة صوتها .. ولكنها بدأت تشك ..!

ورد بلهجة قوية !

ـ وضرورى تعرفى وتشاهدى كل ساكن فى منشية البكرى ..؟
ـ أبدا .. الحق معك ..!

وخرجت من وراء الطاولة .. وبرزت قصيرة العود سمينة .. فى معطف أبيض قصير ومفتوح .. ووجهها فى جملة تقاطيعه لايدل على وسامة تريح البصر .. وكان زكريا يستريح للجميلة من النساء حتى وان كانت سليطة اللسان أو غبية .. أما هذه فلا ..!

وزاده وجهها توترا .. وبعدت عنه .. وانشغلت بالرفوف وحساب الإيراد .. وتصور أنها بعد الحقنة ستغلق وتمشى .. وقد تضيع منه الفرصة أو تتأجل .. أو يتمها على عجلة .. وهو لايحب العجلة فى مثل هذه الأمور ..

***

وكاد أن ينسى الشىء الذى جاء من أجله .. فقد طغى الألم على الياف لحمه .. وأصبح يحس به بحدة وضراوة .. وظهر أثره على وجهه ، فقد اختنق ، وبرزت عروقه ، ونفر الدم إلى صدغيه ، وأخذ فى مثل عمل المطرقة .. وغشيته دوامة أشبه بالغيبوبة ولكنه تماسك ..

وكان الشارع قد أقفر تماما .. وبدت الوحشة فيه .. ولكن الشارع الرئيسى القائم فيه المستشفى ، كان فيه بعض الحركة .. من السيارات .. وسابلة الطريق فى الليل الأسود .

وكان زكريا رغم تعبه متمالكا لأعصابه .. فأخذ يدور ببصره فى رفوف الأجزخانة ويحصيها .. ووجدها ثمانية .

وهناك سلم طويل .. كما أن هناك مخزنا بالداخل وضعت فيه علب الكرتون الصغيرة والكبيرة .. وحتى هذه وضعت بنظام .. ثم لافتات .. عن شركات الأدوية .. بارك ديفز وسيبا وساندوز .. ولعلها من عهد والد الدكتور عبد الحليم .. فالشركات الآن لاتعلن عن نفسها كما كانت تفعل من قبل .. لأن الجمهور يشترى الأدوية النافعة والضارة بسبب توتر الحياة وضيق الأنفاس فيها من الزحام .. الزحام ..

والمريض فى القاهرة وفى مصر بصفة عامة .. إما أن يذهب إلى الأضرحة وقبور أولياء الله الصالحين ويطلب من الراقدين فيها العون والشفـاء .. أو يتردد على الأجزخانات لمرض ظـاهر أو خفى ..

وهو فى الحالتين تعس ومسكين .. بل وفى أشد حالات المسكنة ..

وقد تأتى زيارة الأضرحة بحالة نفسية تستريح لها النفس ويشفى بعدها من المرض أو يخف تدريجيا ..

أما الدواء فهو فى أحسن حالاته سم قاتل .. وان نفع فى ظاهره .. كالحقنة التى يحملها زكريا .. والتى كاد أن ينساها فى دوامة تفكيره ..

ودارت السيدة وراء الطاولة وتنبه لها .. وهى مقبلة نحوه .. ووجهها لايزال على حاله ولكنه لان قليلا .. وأرخت جفنيها وهى تقترب من شاب لايتعدى الثلاثين من عمره .. وفى وجهه وسامة بادية وفى عينيه التألق والسواد اللذين تحبهما كل أنثى فى مثل سنها فهى أكبر منه بعشر سنوات طويلة ..

وقالت :
ـ هات الحقنة ..
فأخرجها من جيبه وناولها لها ..
فكأنما لسعتها عقرب ..
ـ هذه .. ؟!
ـ نعم مالها ..؟

ـ هذه الحقنة ممنوعة قانونا ..
بغلظة وحدة .. ونفرت عروق جبهتها كعادتها عندما تثار أعصابها
ـ وهل تطبقين القانون علىّ وحدى ..؟
ـ على كل الناس ..

ـ ولكن الدكتور عبد الحليم .. أعطانيها أكثر من مرة .. وهذا جعلنى أجىء إليه ..
ـ أما أنا .. فلا ..

ـ لماذا .. وأنا أقدر أن تكونى أكثر منه رحمة .. لأنك سيدة وتدركين مقدار ما أحس به من عذاب ..؟
ـ الأحسن لك أن تتعاطى الأفيون .. بدل من الحقنة لأنها قاتلة ..
ـ وأين أجده ..؟!

وضحك ورآها تضحك لأول مرة .. لانت ملامحها وكاد يتصورها جميلة .. وقد ظلمها من قبل فكم للابتسامة من سحر .. كم لها من سحر ..

ونظرت إليه طويلا .. طويلا .. وأدامت النظر .. وخشى من نظرتها ولكنه تماسك ..

وغيرت من لهجتها وسألته :
ـ متى بدأت تأخذ هذه الحقنة ..؟
ـ منذ سنة وتسعة أشهر ..
ـ سنة وتسعة أشهر ..

كررت كلامه برزانة
ـ أجل ..
ـ سرطان ..؟
ـ لا .. صدقينى سيارة .. وحدث ارتجاج فى المخ .. وكسر فى العظم وعالجت هذا وجبرت ذاك ولكن يبدو أن كل شىء تم على خطأ فاحش .. ولا ذنب لى .. وأصبحت أحس دوما بنشر فى عظامى .. وصداع رهيب فى رأسى واضطررت بعد طول عذاب أن الجأ لهذه الحقنة ..

وسكت .. ونظرت إليه بإشفاق ..

وأرخى هو رأسه .. وأخذ يقول لنفسه ..

ليس فيما قلته الحقيقة .. والحقيقة أننى كنت أسوق سيارة فى الليل بشارع النيل .. فصدمت لجنون السرعة رجلا كان يعبر الطريق .. ولم أقف ولم أتمهل لأعرف ما جرى للرجل المسكين .. لأن السيارة لم تكن سيارتى .. كانت سيارة زميل فى الدراسة .. ومع أن هذا لايمنع من الوقوف ولكنى لم أقف فقد كنت على موعد مع فتاة فى ملهى بالهرم .. ولم أجد الفتاة بالطبع .. ولكنى قتلت الرجل .. ولم أفكر حتى فى النظر إليه .. أو فى حمله .. ربما كان حيا .. وأبسط الأشياء أن أحمله إلى مستشفى ولكننى تركته من أجل عاهر فى ملهى !

من ميسالين .. إلى كليوباترا .. إلى كاترين .. وقبلهن امرأة العزيز .. والمرأة هى المرأة فى كل عصور التاريخ .. وعاد الرجل الذى كومته فى الشارع عاد إلىّ بلحمه .. عاد إلىّ فى كل ليلة فى صحوى ومنامى ..

لو رجعت إليه ونظرت حتى إلى وجهه لاسترحت .. لو نظرت إليه وتركته بعد ذلك فقد أستريح .. ولكنى تركت كل شىء يسبح فى ضباب المجهول .. فى ضباب العذاب الأبدى للإنسان ..

لو حملته فى السيارة والقيته فى النيل لكان أحسن وربما كان أخف حملا فى نفسى لأننى كنت أعرف أننى دفنته فى اليم .. ولكنى تركتـه فى الطريق وأنا لا أدرى أمـات هو أم لايزال فيـه رمق الحياة ..؟

ربما كان كهلا وقد يريحه الموت .. ولكنه كان يود أن يرى نظرة من إنسان قبل أن يموت .. يطالعه وجه بشرى فى مستشفى أو حتى فى الطريق ..

ولكنى تركت الرجل فى الظلام والعدم .. فجاء إلىّ فى كل ليلة ..
ووجدت بعد العذاب الطويل فى الحقنة الراحة ..

أنا أهرب من نفسى .. أهرب من جرمى .. أهرب من كل الوجوه التى رأيتها فى تلك الليلة المشئومة وأنا أسوق السيارة الملعونة .. وكأنهم كانوا يشيرون إلى شخصى بعد أن قتلت الرجل ويطاردوننى .. فى ضراوة وعنف .. وظلت المطاردة مستمرة ..

عبد الخالق .. وفوزى .. وكامل .. وعبد الرافع .. هؤلاء جميعا هم أصدقاء وزملاء دراسة فى الجامعة .. ولا صلة لى بأية جمعية دينية أو حزب سياسى .. أبدا .. أبدا .. أنا هارب من نفسى .. ومطارد .. وسأظل مطاردا ما دمت أعيش ولا حيلة فى ذلك .. ولكن مطاردة البرىء والمظلوم والعاجز .. تقلبه إلى وحش .. أو تجعله فى ضعف وعجز الموتى ..

ولا نفع لمثل هذا الإنسان فى الحياة ..

لانفع ولا خير يأتى منه لإنسان .. إنه ميت حى ..

كان يتمتـم .. ونسى نفســه تماما .. نسى ما جاء من أجله ..
وسألته السيدة ..!

ـ حضرتك بتكلمنى ..؟
ـ أبدا .. فقط .. أستعجل الحقنة ..
ـ حاضر .. بعد أن أفرغ ما فى يدى على طول .. والحقنة كما تعرف فى الداخل وراء هذا الحاجز .. وحدقت فى وجهه .. وما دار فى رأسها خمنته تيقنت منه الآن .. نفس الصورة التى رأتها فى الصحيفة وإن تغيرت بعض الملامح بفعل المرض والمعاناة ..

وأطرق زكريا برأسه .. ولكن لاحظها فى كل حركاتها .. حركت التليفون فى الداخل .. ثم وضعت السماعة ..

وقالت له برقة .. رآها ناعمة كجلد الحية ..
ـ دقيقة واحدة إلى أن تغلى الحقنة ..

وبصر بها .. تدخل فى جوف الأجزخانة .. ثم تخرج من الباب الداخلى إلى الشارع .. وحرك الحزام .. الذى وضع فيه المسدسين واستعد متأهبا لكل طارىء ..

إنها ذاهبة إلى تليفون تعرفه فى العمارة .. أو ذاهبة لتخبر أى شخص بوجوده .

وفى سرعة رهيبة .. اتجه زكريا .. إلى المكتب الذى وضعت فى درجه الإيراد .. وأخرج المفاتيح وهو يتطلع إلى كل ما حوله فى الداخل والخارج بعين الصقر ..

ومن الغريب أن أول مفتاح وضعه فى الدرج فتحه ..وأخرج رزمة الأوراق المالية .. وكانت قد حزمتها فى ضمة كبيرة .. ووضعها فى جيبه وخرج سريعا .. ويده على سلاحه ..

وعلى الرغم من سرعة هذه الحركة وعنفها .. وأنه يفعله لأول مرة .. وقد ينسيه الانفعال الذى تسببه أشياء كثيرة .. أشياء كثيرة لا تخطر على البال .

على الرغم من ذلك فإنه عاد يتذكر الحقنة التى فى جيبه .. بعد أن أصبح فى وسط الجمهور السابح فى بحر الليل .. وبعد أن أحس بالصداع وطرقات المطرقة ..

وتذكر طبيبا يعرفه فى عزبة النخل .. ذهب إليه مرة ليأخذ هذه الحقنة .. وعامله برفق وقدر ما هو عليه من ألم وتعاسه ..

وسريعا وجد نفسه يركب قطار المرج .. ووجد القطار مزدحما بالركاب .. ولعله كان آخر قطار يتحرك إلى هذه الضاحية .. فقد نسى جدول المواعيد .. كما نسى الكثير مما يجرى فى نهر الحياة .

ووجد الجمهور يتحدث عن الأشياء التى لايحب سماعها .. الأشياء التى تتكرر على السنتهم ولا يملونها أبدا .. الأغذية الفاسدة .. والمجمعات .. والبقالين .. والتجار .. والذى هرب والذى قبض عليه .. لاشىء يتحدثون عنه ويفكرون فيه غير الطعام .. ما يملأ البطن .. أما ما ينير العقل ويفتحه فلا .. ما يهذب المشاعر .. والسلوك .. ويفرق بين الإنسان والحيوان .. فلا .. انهم كأبطال تشيكوف فى مسرحية " بستان الكرز " لاحديث لهم غير الطعام ..

لا شىء غير الطعام .. ولا شىء يملأ بطونهم .. ولا شىء يشبعهم .. ولا شىء يشبع نهمهم .. وبطونهم المتعطشة للطعام .. التفكير والسعى كله فى نطاق حيوانى بحت .. نوروا عقولكم وسعوا مدارككم .. أنتم شر فسادا من المفسدين والمضللين .. وأنتم الذين أوجدتم الرشوة والفساد والاهمال لأن هذه الأشياء كلها خرجت منكم ..

قبل أن تركبوا هذا القطار .. هل نظرتم إلى تمثال رمسـيس .. انه على مرمى البصـر من كل إنســان يتحرك هنا ..

انظروا إلى التمثال وتأملوا ودققوا النظر .. انه أعظم شىء نحته وصنعه فنان .. إن ميكائيل انجلو يركع أمام صانعه .. وأمام عظمته ..

نحته صانع مصرى من أجدادكم ..

أنظروا إلى الأهرامات .. أنظروا إلى التوابيت والتماثيل فى المتحف .. أنظروا إلى الأجسام المحنطة التى لاتزال وجوهها تنطق بالحياة .. ولو كلمتها لردت عليك ! ولا أحد يتصور أن هؤلاء موتى ! .

ســنابل القمح .. وأطبـاق الطعـام .. يا للروعة .. أى مجد ..

هؤلاء هم أجدادكم أيها الحمقى .. فلماذا تخلفتم عنهم .. من صلبهم خرجنا .. وسرنا ..

شعر زكريا بضيق شديد .. ونظر فى وجهه المصفر راكب .. فسأله :
ـ حضرتك تعبان ..؟
ـ لا .. وليس هذا من شأنك .. هل طلبت منك المساعدة ؟
ـ آسف ..

وحول الراكب وجهه .. ولم يأسف زكريا لأنه كلم الرجل بجفاء .. لم يأسف لأنه كان يشعر بالغيظ .. بالغيظ يتفجر من داخله .. وبالتعب الشديد ..

ولما صعد إلى شقة الطبيب كان المسدس فى يده .. وفتحت له فتاة صغيرة الباب فخجل من نفسه ورد المسدس إلى جرابه .. وفكر فى أن يعطى هذه الفتاة الجميلة لفة الأوراق المالية التى فى جيبه .. اللفة كلها ويعدل عن السفر للخارج .. يعدل نهائيا ..

ووضع يده فى جيبه ليخرج الأوراق ..
وعندما جاء الطبيب من الداخل .. وجد " زكريا " ساقطا على الباب .
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو المصرية بتاريخ 2861982

الأعسر
قصة محمود البدوى


تحركت السيارة بعد ليلة ممطرة لم يحدث مثلها فى الصعيد .. على طول خط السيارات .. من الجيزة إلى منفلوط .. وسقط المطر بغزارة .. وسبب الوحل ، مثل رغو الصابون ..

ولكن السائق لم يعبأ بهذا كله .. وانطلق فى سرعة الريح على الأرض اللينة ..

وكان الركاب الأربعة صامتين ولكن ثلاثة منهم كانوا يتبادلون السجائر بشراهة .. السيجارة تشتعل من عقب السيجارة .. وكان يبدو على وجوههم الغضب والتوتر ..

وكان هؤلاء الثلاثة مسلحين .. فى أيديهم البنادق أمسكوابها وشرعوها كأنها مرخصة .. وفى اللحظات التى كانت السيارة تعبر فيها نقط المرور وتهدىء من سرعتها قليلا تظل البنادق فى أيديهم ..

كانوا قتلة .. ومنذ ساعات قليلة .. ارتكبوا جريمة القتل .. مع الريح العاصفة .. واستقلوا بعدها السيارة متجهين إلى العاصمة ..

وفى الطريق .. بعد مشارف " المنيا " ركب الرابع .. ولم يكن القتلة يريدونه منهم ولكن نظرة صارمة من السائق الجمتهم .. وأجلسه السائق بجانبه .. ولم يكن هذا الراكب يدخن .. ولكنه رضى بجو التدخين يملأ جوف العربة ..

ونظر إلى وجوههم مرة واحدة بعد أن ركب .. ثم استقام بجذعه على الطريق .. وكان بصره يتجه إلى الأمام .. إلى حيث الجهامة المطبقة على الجانبين .. وإلى أنوار السيارات المضادة التى تلمع على الأرض المبلولة ..

كان السائق يحرك عجلة القيادة بذراع واحدة .. مرة بالذراع اليمنى وأخرى باليسرى .. ويميل بكتفه مع كل ذراع .. كان قوى العضل مفتول الساعد .. فى الثلاثين من عمره .. أسمر خفيف الشارب .. واسع العينين .. أخضرهما فى لمعان وحدة بصر ..

وكان راديو السيارة هو شاغله الشاغل .. فأخذ يغير ويبدل فى المحطات .. ثم ما عتم أن أغلقها جميعا .. وشغل التسجيل ..

وكان صوت السيارات يزعق .. ولكنه يذهب سدى فى دوى ريح الشتاء ..

وقلت سيارات الأجرة على الطريق .. ولم يعد يشاهد إلا اللوريات الكبيرة محملة بأكياس الغلال ، والأسمنت ، وألواح الخشب ، والصناديق الكبيرة ، وأسياخ الحديد .. وعلى ظهورها ينام العتالون مسترخين لايعبأون بشىء مما يجرى بين مطر وريح ..

وكان الثلاثة الذين احتلوا المقعد الخلفى فى أغلب حالاتهم صامتين .. ويتبادلون كلمات قليلة من حين إلى حين ..

والسائق قد أطفأ النور فى جوف العربة .. فأصبحت عيونهم تلمع ، ويزداد لمعانها كلما أشعلوا ولاعات السجائر ..

وكانوا يرتدون جلابيب سمراء ، ولبدا خضراء ، غطوها بملاحف صوفية داكنة ، أداروها حول أعناقهم ، وتركوها تتدلى على صدورهم ..

وظهرت للعيان ساعة ذهبية تبرق فى الظلمة .. وكان صاحبها يجلس إلى يسار السيارة من وراء السائق وهو أصغر الثلاثة ..

وأوغلت السيارة فى الطريق .. وشعر الراكب الرابع بالخوف .. والخوف الشديد .. ولعن الظروف التى جعلته يسافر فى الليل .. كان خوفه من الركاب معه .. أضعاف خوفه من مخاطر الطريق ..

وكان كلما نظر إلى السائق المطمئن الواثق من نفسه وعمله .. شعر ببعض الاطمئنان .. ثم ما يلبث أن يعاوده الخوف من جديد . وخلال ساعة كاملة شعر برهبة الظلام وشدة البرد والرعب من المكان .. ثم استسلم وظل صامتا .. ولم يتبادل مع الركاب الثلاثة كلمة واحدة ..

وتقدم له أحدهم بسيجارة وهو يوزع السجائر على رفيقيه فقال له شاكرا :
ـ اننى لا أدخن ..
ـ أبدا ..!
ـ أبدا .. لم أضع سيجارة فى فمى ..
فنظروا إليه فى عجب .. وأخذوا ينفثون دخانهم ..

وبعد مدينة " بنى سويف " وقف السائق عند قهوة صغيرة ، كانت لاتزال ساهرة .. وبجانبها من يشوى اللحم على النار ..

وركن السائق العربة ليستريح ويأكل .. وكانت السماء معتمة كابية النجوم ، والبرودة شديدة .. ومصابيح بعيدة تعكس أضواءها على الترعة ..

ونزل الراكب الرابع غير المسلح مع السائق .. وفى عزمه أن يعفى السائق من ثمن طعامه .. وجلس إلى طاولة منفردة بعيدة عن مسقط الريح .. وطفقا يأكلان ..

وكان الثلاثة المسلحون ، قد ترددوا بعض الوقت فى النزول من العربة .. ثم لما بصروا بأكواب الشاى وشموا رائحة اللحم المشوى على النار ووجدوا المكان خاليا .. بارحوا العربة ودخلوا المقهى وجلسوا إلى مائدة فى الزاوية اليسرى ..

ووضعت أمامهم أرغفة كثيرة وطعام أكثر .. وشرعوا يأكلون بسرعة وشراهة ..

وسأل الراكب الرابع السائق ..
ـ أتعرفهم ..؟
ـ أبدا هذه أول مرة أرى فيها وجوههم ..
ـ ولماذا الأسلحة فى أيديهم دائما .. حتى وهم يجلسون للطعام ..؟
ـ لأنهم قتلة ..
ـ قتلة ..؟ !
ـ قتلة .. ويقتلون أى إنسان .. متى دفعت لهم الأجر .. مجرمون .. أخس أنواع البشر ..
ـ قد يفكرون فى قتلى .. لمجرد التصور .. أن حقدهم أسود مدمر ..
ـ لاتخف .. ولا تفكر فى هذا .. فأنت فى ضيافتى .. وأنا الذى أركبتك العربة لا هم .. وإذا مسوا شعرة من رأسك سأحشهم ..
ـ تحشهم ..! كيف ..؟ بيديك ..!!
ـ أجل بيدى هاتين .. ولا تضحك ..!

واستطرد السائق :
ـ انى أشتغل على هذه العربة فى الليل ..
ـ وهل من يعمل فى الليل والظلام يكون مخلوع القلب ..؟
ـ ان صاحب القلب المخلوع مشلول الحركة إلى أبد الآبدين .. لقد ركبت الكثير من أمثالهم وهم فى داخل عربتى أجبن من الكلاب .. وهناك دوما فى الحياة من هو أقوى من كل قوى .. تلك هى سنتها ..

وسر الراكب الرابع من كلام السائق وأحس بالاطمئنان التام لثقة السائق فى نفسه وقوة شخصيته ..

ودخل المقهى فى هذه الساعة شاب خفيف الوطء .. ربعه فى الرجال مالوحا .. قصير العنق ، حليق الذقن ، حاد النظرات .. وكان على كتفه الأيسر بندقية قصيرة جدا .. ودخل هادئا وحرك الطاولة التى سيجلس إليها .. ثم الكرسى وجعل ظهره للحائط وعينيه على الوجوه التى أمامه ..

وكانت الاضاءة فى القهوة خفيفة ، والنار مشتعلة فى الداخل ، وبدا وجهه الطويل الأسمر وعيناه تبرقان فى لفحة الضوء ، وحمل إليه الشاى فتناوله بيده اليسرى وأخرج محفظته بيده اليسرى كذلك ، فبدا من كل هذه الحركات أنه أعسر .. ولا يستعمل يمناه قط ..

وجلس يدخن فى هدوء وصمت .. ثم سأل وفى صوته الوداعة :
ـ من الأخ صاحب العربة الواقفة هناك ..؟
فرد السائق :
ـ أنا ..
ـ أتسمح وتأخذنى معك لغاية الجيزة ..
فرد أحد المسلحين بخشونة ظاهرة قبل أن يجيب السائق :
ـ العربة مشغولة .. ولايوجد مكان ..
ـ اننى أكلم السائق .. ولم أكلمك ..

وهنا رد السائق مخاطب الأعسر ..
ـ مرحبا بك .. عندى مكان ..
ـ العربة مشغولة يا أسطى .. ولن يركبها راكب جديد ..
ـ العربة عربتى .. وهناك مكان شاغر للسيد ..
ـ قلت لايوجد مكان .. وهيا لنسافر ..
ورد السائق بهدوء :
ـ اننى أريح المحرك .. وأمامنا ربع ساعة أخرى ..

وقال المسلح بغيظ :
ـ قلت هيا .. فهيا ..

وحرك المسلح بندقيته ، وأطلق طلقة بين رجلى السائق للارهاب .. وظل السائق فى مجلسه ساكن الطير رابط الجأش .. وهنا تدخل الأعسر وتقدم نحو المسلح الذى أطلق النار .. وقال له بتؤدة :
ـ الأمور لاتعالج هكذا أيها الأخ ..
ـ كيف ..؟
ـ سمعته يقول لك أنه يريح الموتور .. ثم ان من يطلق النار على رجل أعزل جبان ..
ـ تسميه أنت جبانا ..؟!
ـ بل ومن أحط وأخس أنواع الرجال .. إنى أعرف أن الليلة ستكون سوداء ..

وخيم الوجوم ولمعت العيون تنذر بالشر .. وتحرك المسلح ومعه رفيقاه إلى الخارج بظهورهم .. وراوغ الأعسر كأنه سيتبعهم ثم استدار فى سرعة خاطفة إلى جدار القهوة الخارجى .. وفى هذه اللحظة كانوا قد أطلقوا عليه النار ولكنهم أخطأوه .. فصوب عليهم رشاشه ببراعة عديمة النظير .. وظل مشتبكا معهم وحده فى معركة رهيبة انتهت سريعا ..

وجعل كل خبرته كمقاتل ليس له ضريب .. أن يبعدهم عن القهوة حتى لا يصيبوا بريئا .. ونجح فى هذا ، وظل يطاردهم بعنف وضراوة إلى أن سكت صوت الرصاص وخيم السكون ..

وعندما لاح نور الفجر .. وجدوا الثلاثة فى صف واحد تحت جسر الترعة وقد مزق الرصاص أجسامهم ..

وكانت آثار الأعسر واضحة من أعقاب السجائر التى تركها بعد المعركة .. وخط سيره يدل على أنه أخذ سيارة .. بعد أن سار على قدميه ما يقرب من ربع فرسخ ..

===============================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 71 الصادر فى شهر أغسطس 1979
===============================


الأرقام الناطقة
قصة محمود البدوى

كانت سرعته الثابتة ثمانين ميلا فى الساعة .. وهى سرعة كافية لوصوله إلى الإسكندرية قبل منتصف الليل ..

وكان الطريق الصحراوى فى هذه الساعة من الليل خاليا فى الواقع إلا من قليل من السيارات الذاهبة والراجعة التى كانت تبدو بأنوار مصابيحها من حين إلى حين ..

وشعر حسن بنعومة الطريق تحت العجلات ، وأخذت السيارة تخب خببا .. وكان يسمع لها صوتا رتيبا منغما أشبه بهدير البحر ..

وكان ذهنه صافيا برغم تعبه خلال النهار واحساسه بالحاجة إلى النوم وزاده هواء الليل الرخى صفاء وبهجة ..

وكان قد اجتاز المنعرجات التى قبل الكيلو " عشرة " ثم استوى فى الطريق السوى .. وهو يمضى بأقصى سرعته ..

ولم يكن من طبيعته أن يسرع بسيارته كلما سافر من قبل .. ولكنه وجد نفسه لأول مرة وليس فى الطريق سواه .. فانطلق ..

وكان الشباب والحيوية الدافقة والفرحة بما هو ذاهب إليه هناك قد جعلته يسافر فى الليل ولا يستطيع الانتظار إلى الصباح ..

وعندما أوغل فى جوف الصحراء بسجى الليل كانت برأسه الأحلام الذهبية وتصور نفسه وقد تدرج فى مراكز الشركة حتى يصبح مديرها وصاحب الأمر والنهى فيها .. وعندئذ سيتزوج أجمل فتاة .. ويجعل له بيتين واحدا فى القاهرة والآخر فى الإسكندرية .. ليكون فى الحالتين قريبا من عمله ..

وكان الضوء المنبعث من المصابيح الأمامية .. يبين الطريق ويرتمى فى طول الصحراء كأنه لسان طويل من اللهب ..

وحينما ترك مقود السيارة لحظات وأشعل لنفسه سيجارة .. كان يحس كأن العراء والليل ملك له وحده ورفع النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة له ليشعل السيجارة فمنع الهواء من التسرب إلى الداخل .. ونفث الدخان ..

وفى صمت الليل .. كان يقود السيارة بعقل الرجل الواعى .. كان يقودها بأمانة ..

وكانت وحدته تدفعه إلى اليقظة وأن يحمى نفسه من النوم فى هذا الطريق الناعس ..

وبمجهود جبار ظل متيقظا وكان النوم معناه الهلاك له ..

وكانت قدمه على " البنزين " وهو يضغط عينه من حين إلى آخر بأصابعه .. وكذلك جبهته .. ليظل بكامل وعيه ..

وكانت السيجارة فى الواقع تلهب حواسه وتزيده يقظة أكثر من أى شىء آخر ولهذا أكثر من التدخين ..

وكان يتطلع إلى حافة الصحراء الجرداء .. وإلى ظلام الليل وسكون التلال الشاحبة .. وعنده احساس من يمضى بين السحاب ..

وكان الظلام الدامس والسكون المطبق والتلال الصغيرة وأعمدة البرق والتليفون القائمة فى جانب من الطريق .. تكون أشباحا غريبة الشكل تبدو للمشاهد ثم تختفى بسرعة مذهلة ..

وكانت الريح عندما تدوم وتزأر فى جوف الصحراء يخيل إليه أنه يسمع صياح الغيلان هناك وهى تتعارك فى مجاهل هذا التيه ..

ولما سكنت الريح وصفت الدنيا أمام باصرته .. أخذ يعد فى ذهنه ما هو مقدم عليه من عمل للشركة ..

وقفزت إلى تفكيره فكرة تسلطت عليه وظلت تلاحقه .. وأفسح لها المجال حتى أتعب ذهنه ..

وعندما اقترب من الاستراحة فى عرض الطريق .. أدهشه أنه لم يشاهد نور البرج من بعيد .. لا بد أنه نسى .. ولم يحس بنفسه .. أغفى وهو لايدرى من فرط التعب الذى بذله فى النهار ..

ورفع غطاء المحرك .. ودخل المقصف وجلس فى الزاوية البحرية .. وطلب فنجانا من القهوة .. وكان فى المقصف قليل من الرواد .. وكان منهم من يتعشى ومنهم من ينتظر ..

وشاهد حسن فى الجانب المقابل من الشرفة سيدة جميلة تجلس وحدها وكان مرافقها ذهب إلى دورة المياة .. وطال مكوثه هناك .. فأخذ يبادلها النظرات وأحس فى عينيها ببريق المودة .. وكانت هيفاء القد جميلة العينين .. وكانت تدخن .. وتجذب الأنفاس من سيجارتها بشكل يثير الرغبة فى شفتيها ..

وبدت فى الليل وفى سكون الصحراء .. أجمل ما يتمناه الرجل ..

ومن صفحة السماء الجهمة .. انعكست أضواء المصباح الكشاف الدائر فى برج الاستراحة وكان هو الشىء الآلى المتحرك الذى يشوه السكون ويشوه جمال الوجود فى هذه اللحظة ..

وكانت المرأة قد غيرت وضعها عندما عاد إليها الرجل .. فحول حسن وجهه شطر الصحراء .. وكانت أطباق الليل تتجمع هناك .. وألسنة حمراء من الضوء .. ومن الظلال تخلق أشباحا وتبدو كأنها تتحرك عادية على الرمال ..

ولما سجى الليل جلس يدخن ويشرب القهوة .. وبدت الصحراء الساكنة .. والسماء الزرقاء .. والريح الرخاء .. كأنها تعمل جميعا على صفاء نفسه وارخاء العنان لآماله .. فى مدى ثلاث سنوات سيكون مديرا للشركة ويزيح عبد الحى وكل منافس آخر عن طريقه .. وسيكون الأمر كله له ..

وأحس بعد أن شرب القهوة بأنه استفاق ونشط قليلا .. أزاحت عنه بعض التعب وأيقظت حواسه .. ولكنه كان يحس بحنين إلى النوم وبدا له أن يتحرك .. إلى البهو الداخلى ليسأل عما إذا كانت توجد غرفة خالية فى الاستراحة .. ليقضى الليل فيها وفى الصباح يستأنف رحلته .. ومع أنه وجد الغرفة فإنه عدل عن رأيه واتخذ سبيله إلى السيارة وانطلق بها فى جوف الصحراء .. وريح الليل ترطب وجهه وأغلق الزجاج الجانبى .. وأخذ يضغط على البنزين كان يود أن يقطع المسافة الباقية ، فى ساعة وربع الساعة على الأكثر ، يصل بعدها إلى مشارف سموحة ..

وأحس بعد أن قطع حوالى خمسين كيلو مترا بالعربة ، وجد نفسه وحيدا فى الطريق ، كانت العين تخترق الظلام .. ورأسه كله متفتح لليل وكان صوت الرياح يعوى .. وبصر بسواد من بعيد يسد عرض الطريق ثم وضح أمامه .. فإذا به قافلة من الجمال تعبر الطريق من الجانب الشرقى إلى الجانب الغربى .. وكانت قد أثارت حولها سحابة من الغبار ..

واختفى لمعان الاسفلت .. واستطاع من خلال سحابة الغبار .. أن يتبين وجه الطريق بصعوبة .. فرفع قدمه عن البنزين وتمهل فى سيره تماما ..

ولما عبرت القافلة وتبددت سحب الغبار أخذ يسرع .. وعادت الأرض الصلدة تحت بصره والفوسفور يضىء فى منتصفها .. وبدا الطريق كالبساط المرصع بالدر ..

وفى الحال أسرع حسن .. عاد إلى " البنزين " يضغط بقدمه .. وفى مثل خطف الريح انطلقت السيارة .. وفجأة أبصر شيئا يتحرك أمامه .. فضغط بكل قوته على الفرامل ولكنه لم يستطع أن يتفادى ما وقع .. وأحس بجسم السيارة وهو يضرب جسما آخر فى عنف بالغ .. وانتابته رعشة .. وفزع .. انتابته حالة لم يكن مقدرها ولا معدا العدة لها وحدث ما لم يكن يتوقعه أبدا .. فانطلق بالسيارة هاربا وهو لايدرى ولا يلوى على شىء ..

وأحس بالعرق يسيل من جبهته على خديه .. وابيض وجهه .. ولم يعد يبصر الطريق توقف ووضع كفه على صدغه وفتح فمه وأغلق عينيه .. لقد استسلم للمقدور فى لوح الأزل وتراجع بظهره وهو يحس بطنين أذنيه .. ثم وضع رأسه على عجلة القيادة .. ماذا جرى ما الذى حدث ولماذا يحدث هذا الشىء البغيض .. ولماذا يقدر له هذا .. ويحدث فى مثل خطف البرق ..

ورفع رأسه ونظر إلى الخلف .. ولم يكن هناك ما يمكن مشاهدته .. ووجد نفسه يفتح باب السيارة ويخرج منها .. وضرب الهواء صفحة وجهه ومشى على رجليه راجعا إلى حيث وقع الحادث .. وكان يقترب وهو يحبس أنفاسه وأحس باضطراب شديد كلما اقترب من الرجل .. وجد اعرابيا يرتدى الجلباب وقد طار غطاء رأسه .. ونظر إلى وجهه وعرف أنه شاب وكانت الصدمة قاتلة .. ولكن المصاب لم يمت .. بعد ..

كانت أنفاسه لاتزال تتردد وعيناه تحملقان فى رعب ودون وعى فى الشخص المجهول الذى يقف على رأسه ثم كأنه عرفه وعرف أنه السبب فيما حل به من عذاب فبدت منه نظرة غيظ مستعر ارتجف لها حسن ..

ورأى حسن أن بغير من وضعه فشده من جلبابه .. وأبعده عن الطريق خشية .. أن تمر عليه سيارة أخرى .. ثم تركه وعاد إلى سيارته .. واستأنف السير وأحس بيديه الممسكتين بالمقود لزجتين من العرق ..

وكان يحسب نفسه قد أراح خواطره كلها ولكن بعد بضعة كيلو مترات .. توقف .. ونزل ثم غير اتجاهه وحول وجهة السيارة وعاد يستقبل من طريقة ما استدبر .. وعلى بعد قليل من الرجل الملقى على الرمال توقف .. ونزل من السيارة .. وتقدم على مهل نحو الرجل مرة أخرى وفى تلك اللحظة .. أحس بقلبه يتوقف .. كانت الخواطر تدمره .. وكان يتوقع مرور أية سيارة فى تلك اللحظة وربما شاهد سائقها الرجل المصاب ويعرف الأمر كله ..

وبسرعة تقدم نحو الرجل ونظر إلي وجهه فوجد أنه يدمى واحدى عينيه قد غطاها الدم .. كانت الصدمة فى الجبهة ..

ووقف حسن ينظر إلى وجه الرجل الذى سيغير مجرى حياته .. ويرسم فى لوح القدر خط شقائه .. فشعر بكراهية شديدة نحوه ومقت بالغ .. وفى دوامة من الخواطر المريعة العاصفة أخرج سريعا مسدسه من جيبه وأطلق رصاصة على الرجل فى الجبهة فى مكان الاصابة .. وأسرع إلى سيارته .. أنه لايحب أن يرى مشهد رجل يموت .. واستدار بالعربة متجها إلى الإسكندرية كما كان ..

وبعد ربع الساعة أحس أنه استراح .. وأنه فعل الشىء الذى لا بد من فعله .. فما معنى أن يغير إنسان عديم القيمة مجرى حياته .. أنه شيطان خرج من جوف الظلام وارتمى أمام العربة فلا بد من قتله ..

وزادت سرعة السيارة وكان دمه يتدفق فى عروقه وهو يقترب من كشك المرور فى العامرية أنه الحاجز الوحيد .. وبعده يدخل حدود المدينة وينطلق فى الأرض الواسعة .. وأحس بضربات قلبه كالمطارق .. وقلل من سرعته نوعا ما وعيناه ترقبان الجندى من بعيد بحذر ويقظة وأشار له هذا ليعبر دون أن ينظر إليه أو إلى السيارة .. وانطلق حسن كالسهم .. وهو يود أن يصيح فى قلب الليل لقد نجوت .. لقد انتهى الحادث .. بالنسبة له .. وإذا عثروا على الرجل فسيعرفون أنه مات من ضربة الرصاص .. وليس من صدمة بالسيارة ..
وأحس بالفرحة لأنه نجا ..

لقد انتهى الأمر وعليه الآن أن يتسلى بالمناظر وينسى نفسه .. وأن يقاوم رد الفعل والقلق وأن يبحث عن البهجة ..

وأخيرا لم يبق بينه وبين سموحة سوى خمسة أميال ثم يدخل بين المساكن والحدائق الجميلة .. ويحس بأنفاس الحياة .. ويخرج من هذا التيه المعذب .. ان السيارة الآن لم تعد لها علاقة بالموت بعد أن دخلت أضواء المدينة ..

لقد انتهى هذا الحشد من القلق والعذاب واللوعة فى تيه الصحراء ..

انك لا تشعر بالخوف فى المدن ولا تحس به يسرى فى الياف لحمك إلا فى الصحراء .. حيث الظلام والتيه ..

وكانت أضواء المصابيح الأمامية ترتمى على الأرض كأنها تقبلها .. كان حسن شاعرا بالفرحة وخيل إليه أن المدينة تتزين لاستقباله وأن الأرض مفروشة بالبساط .. أن المعجزة تحدث فى أية ساعة وقد حدثت الآن ..

كان يجاهد ليرى الثغر الجميل كما شاهده من قبل ..

***

ومال فى شارع جانبى عندما اقترب من محطة الرمل .. ليودع السيارة فى جراج هناك .. يعرفه ..

ودخل بالعربة الجراج وفتح بابها وخرج منها وهو يتنفس الصعداء .. وأمسك بالسلسلة التى فيها مفتاح المحرك .. فى يده .. واتجه إلى عرض الطريق ..

وقبل أن يبعد سمع السائس يصيح به :
ـ النمرة .. يابيه .. النمرة سقطت ..

وكأنما صوبت إليه من الخلف طعنة من خنجر مسموم فاستدار ..

وحدق فى رعب ليواجه الضربة .. رجع إلى السيارة ودار حولها .. دار أكثر من دورة ونظر إليها من أمام ومن خلف كانت نمرة السيارة الأمامية .. ساقطة ولا أثر لها .. وأدرك أنها سقطت هناك فى مكان الحادث من أثر الصدمة .. هناك بجوار جسد الرجل الذى صرعه منذ ساعات ..

كانت تحمل أرقاما خمسة تبدأ بالإثنين وتنتهى بالأربعة .. وما أشبهها بالأرقام التى تعلق على صدر المسجون ..

وفى وضح النهار سيجدون النمرة هناك .. ويعرفون السيارة وصاحبها .. انها أرقام ناطقة .. فيا لحكم القدر ..

وقال للسائس وهو مضطرب كلاما لامعنى له يعلل به سقوط النمرة ثم خرج من الجراج .. وسار فى المدينة على غير هدى فى الليل الساكن .. ثم وجد نفسه يمشى فى شارع البحر ويصغى إلى صوت البحر .. ويراقب النجوم فى السماء .. ولكنه كان فى أعماقه ينظر إلى باطن نفسه ..

ان حياته زائفة والأمانى والأحلام كلها باطل فى باطل .. والوجود نفسه زائف .. والإنسان لايملك من أمر نفسه شيئا .. وما قدر سيكون .. ما قدر سيقع .. والحياة عديمة القيمة بالنسبة له .. ان وجوده الحقيقى عدم باطل الأباطيل ..

ومال إلى فندق هادىء وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية صباحا .. ودخل غرفته وأغلق الباب عليه ..

لقد ظل هناك ساعات متمددا فوق الفراش محدقا فى سقف الغرفة وقد عجز عن التفكير كان يتنفس بمشقة .. ويحس بالعرق يبلل الفراش ..

كان وحده على السرير .. ولكن كان يرقد إلى جانبه شبح الرجل الذى صرعه .. وتحول كل شىء إلى خوف .. خوف حولته الأحداث سريعة إلى مثل عذاب السعير .. وسرى فى جسده الألم والرعب ..

ولو كان فى القاهرة لحدث صديقه عبد المنعم وقص عليه ما حدث .. ولخفف عنه بلواه ولعمل بمشورته ونصحه .. ولكنه وحيد الآن للعذاب والقلق .. ان الاحساس بالعدم .. يسيطر عليه وأغلق عينيه من الغم وشحب لونه ..

وسمع جلبة فى الدور السفلى وحركة أقدام سريعة على السلم .. فتصور أن البوليس عرف مكانه وجاء يطارده الآن ولم يكن على استعداد لملاقاتهم ولم يكن على استعداد لأن يواجه أحدا على الاطلاق ..

أخرج المسدس من جيبه وأطلق على رأسه النار وأعقبه السكون ..

وكان الصاعدون على السلالم قد سمعوا صوت الطلقة ولكنهم حسبوها آتية من الخارج فلم يعيروا المسألة التفاتا ومضوا إلى حجراتهم ..

أما كاتب الفندق فقد رأى وميض النار فى غرفة النزيل الجديد واشتم رائحة البارود .. وعرف بتجاربه وحسه ما حدث تماما .. دون أن يتحرك من مكانه ..

وحرك قرص التليفون فى الحال وهو ينظر إلى الساعة ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 11/11/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " ل محمود البدوى
=================================

















ليست هناك تعليقات: