الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

حريق القاهرة فى الأدب العربى ص6


حريق القاهرة فى الأدب المصرى
المــارد

قصة محمود البدوى

مرض " أمين " بالحمى وطال مرضـه ، ولمـا أحـس ببعض العافية ، رأى أن يخرج من البيت ويتريض قليـلا ، لأن الرقـاد الطويل فى الفراش أصابه بالوجع فى عظامه ولحمه ، وأصبح فى حالة من الضعف جعلته لايكاد يتماسك .

ولما خرج إلى الشارع ولامسته شمس الأصيل ، وحرك رجليه شعر بدبيب القوة يعود إليه ، وأخذ يمشى دون وجهة معينة .

وكان يسكن فى السبتية .. فوجد نفسه وهو يسير ملاصقا لشريط الترام فى ميدان المحطة ، وإذا بالدخان الكثيـف يخيم والحرائق لاتزال مشتعلة فى العمارات والمتاجر .

وكان قد سمع من الإذاعة قبل أن يخرج من البيت بحريق القاهرة ، ولكنه لم يكن يتصور أن الأمر يصل إلى هذه الدرجة من السوء ، ووصل الدخان إلى خياشيمه ، وكانت أخشاب العمارات تطقطق ، والسماء تلفها سحب الدخان الكثيفة .

ووجد أن النار كثيرة فى شارع ابراهيم .. ولكنها معدومة فى شارع كلوت بك فاختار الشارع الذى ليس فيه نيران .

وقبل أن يخطو أول خطوة .. إذا بفصيلة من الجنود تحاصر الميدان وتقبض على كل من كان فيه .

وأدخلوهم كقطعان الماشية إلى " قسم الأزبكية " .. وكانوا أكثر من ثمانين شخصا ، فيهم الشبان والشيوخ ، ولابسى الجلابيب ، ومرتدى البدل .

وكانت غرفة الحجز لاتسعهم جميعا ، فقسموهم إلى نصفين .. وضعوا الأول فى غرفة الحجز والثانى فى غرفة مجاورة كما اتفق ، وعلى البابين الحراس بالسلاح .

ومع كثرة الجنود داخل القسم وخارجه .. ولكن الفوضى كانت ضاربة أطنابها .. وكل الظواهر تدل على أن الزمام قد فلت .. فقد بوغت البوليس بالحريق ، ونهب المتاجر ، فى كل مكان فى القاهرة الواسعة .. ووجد المشردون والرقاع والسوقة الفرصة مواتية .. ولن تفلت من أيديهم .. فتركزوا فى القلب حيث المتاجر الكبيرة الغنية بما فيها .

ولما تحرك البوليس بعد أن أفاق من وقع الصدمة ، كان هؤلاء قد هربوا واختفوا بأسلابهم .. ووجد البوليس أكثر ما وجد فى الشارع الذين لا علاقة لهم بالسلب والنهب .. ووجد الذين يتفرجون على النـيران ، والعائدين بعـد العمـل إلى بيوتهم .. ولأنه يريد أن يثبت وجوده ، فحاجز الجميع .. واختلط الحابل بالنابل .

ومع أنهم وزعوهم إلى غرفتين .. ولكن أكثرهم أحس بالاختناق .. فالحجرة لاتتسع لأكثر من عشرة أشخاص فكيف تتحمل وجود أربعين .

ومع الفوضى والاضطراب .. فقد أخذت التليفونات تدق باستمرار .. وكان المأمور قد أخذ يستشير رئيسه .. فى استحالة بقاء هؤلاء فى القسم إلى الصباح .
وبعد أخذ ورد تلقى الاشارة بنقلهم إلى سجن مصر .

ولم يكن المحبوسون داخل القسم يعرفون شيئا مما يجرى فى الخارج .. ولكنهم كانوا يشمون آثار الحريق .. والاضطراب فى الداخل والخارج .. وسرى الخوف إلى نفوسهم .. فعندما تشيع الفوضى .. يصبح من السهل عمل كل شىء .. الجلد والقتل .. ومواراة الجثث فى الصحراء .. واسدال الستار على المأساة كلها ، وما حدث شىء وما من جريمة وقعت .

ورغم الشتاء أحسوا بالاختناق والعرق المتصبب .. وشل الخوف والرعب كل حركاتهم .. ومنهم من تبول على نفسه وهو واقف وقاعد ..

وكان من بينهم من دخل سجون الأقسام قبل ذلك .. فأخذ الأمر كله بعدم مبالاة واستهتار .. ولكنه أفاق لنفسه عندما سمع ممن حوله أن الأمر هذه المرة يختلف .. وأن الجريمة الجديدة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤبدة .

وكان " أمين " أكثر الموجودين رعبا وفزعا .. وشعر بالمرض يعود إليه بكل لمساته القاسية ..! وقعد على الأرض فى مكان وقوفه . وكان من بين المحبوسين من هو أسن منه وأصغر ، فنظروا إليه فى اشفاق ، وقدم له واحد من الكبار سيجارة فأشعلها وهو يحس بتأثيرها على أعصابه .
وصرخ واحد :
ـ أخذونى وأنا مروح ..
ـ كلنا كده ..
ـ ولمن نتظلم ؟..
ـ ومن يستمع لمظلمة فى هذا الجو المضطرب ؟

وسمعوا صوت ضابط ..
فصاح أحدهم ..
ـ أنا أعرفه .. انه مقبل بيه .. تربى مع الكونستبلات الإنجليز .. وأصبح كواحد منهم .
ـ أبدا .. لاتفكر هكذا .. الجمهور تحرك وثار اليوم ليرد على ما حدث لهم فى الإسماعيلية بالأمس .. ضرب الإنجليز الأنذال .. الجنود البواسل .. بعد أن فرغ سلاحهم .. وطوقوهم بالدبابات .. أنذال .. والجنود الذين تراهم وتسمعهم فى القسم مصريون .. كلهم مصريون ينفذون الأوامر ..
وخيم السكون والصمت .

وشعروا بالظلام عندما أضيئت المصابيح الكابية فى القسم ، وشعروا معه بالرهبة .

وظلت الحركة فى داخل القسم وخارجه مستمرة .. وكان وقع أقدام الجنود له صدى رهيبا فى نفوسهم .. كأنه وقع السياط ، ولم يعرفوا لذلك سببا .

كانوا محبوسين كالجرزان دون عقوبة ودون سبب .. وعندما أخرجوهم إلى الصالة .. تجمعوا كقطيع الغنم .. فى مكان واحد ضيق .. كأنهم يتوقعون شرا سينزل بهم فجأة .. وكل واحد يطلب العون من الذى بجانبه .. ولهذا التصق به واشتد التصاقه .

وشاهدوا من باب القسم لوريا ضخما .. يقف على بعد خطوات من القسم .. ثم يتحرك حتى يصبح ملاصقا لبابه .. وكان حوله الجنود فى ملابسهم السوداء ذات الأزرار النحاسية التى طمسها الدخان .. ولم تكن الاضاءة قوية لا فى الخارج ولا فى الداخل .

وبرز من حجرة جانبية بعض الضباط وبعض المخبرين .. يلبسون البلاطى على الجلابيب ويغطون رؤوسهم بالطواقى والملاحف .

ثم ظهر أطول هؤلاء جميعا وأضخمهم ، وكان يرتدى معطفا داكنا على جلباب أخضر ، وبيده عصا قصيرة ، وكان وجهه نحاسيا ، وعيناه تبرقان وتستعرضان الوجوه فى الصالة .

ولمح المخبر " أمين " من بين الواقفين المرعوبين المحشورين هناك فى زاوية من الصالة ، لمحه ثم شدد نظره إليه ليجد التجاوب من الوجه الآخر .. ولكن " أمين " كان متخـاذلا وضـائعـا فى هواجسه فلم يعرفه ولم يرد على نظرته ..

عرف المارد أن أمين جاره فى الحى .. وهو موظف فى الحكومة ، فما شأنه بهؤلاء وكيف وقع بينهم ..؟

ومرت سحابة من الغم فى رأس الرجل الذى كان يؤدى عمله كل يوم برتابة وعدم شعور .. يدفع الأنفار إلى اللورى وينزلهم .. وكأنهم دمى .. ويسوقهم إلى القسم فى طوابير .. وكأنهم قطعان من الضأن .. مرت فى رأسه سحابة لأول مرة .. لأول مرة يواجه موقفا صعبا .. أن أمين جاره فى الحى فكيف يتركه لهذا المصير المظلم ؟ كيف يرديه بيديه .. كيف يسوقه إلى مصير مظلم .. إلى الأشغال الشاقة مع الرعاع من الصبية والنشالين والنهابين للحوانيت ومشعلى النار فى المتاجر ..؟

كان رأس المارد يشتغل ويفكر .. ورأى أن يظل فى مكانه على الباب .. وكانوا قد قسموا المحبوسين فى الداخل إلى قسمين ، واصطف القسم الأول فى طابور .. وكان " أمين " فى القسم الثانى وابتهج المارد لذلك.

وبدأ القسم الأول يتحرك فى بطء إلى اللورى .. وكان المارد هو الذى يعد الأنفار ويصيح :
ـ واحد .. اثنين .. ثلاثة ..

والعسكرى الذى فى داخل اللورى يتلقى العدد بالتمام .. ويصيح أيضا :
ـ واحد .. اثنين .. ثلاثة ..
وشحن اللورى الأول وتحرك إلى السجن ..

وجاء اللورى الثانى .. وكان الجمـهور فى الخـارج قد شعر بهؤلاء المقبوض عليهم فى الداخل .. فأخذ افراده يتجمعون خارج القسم وكثر عددهم .. وخشى الجنود أن يفلت منهم الزمام بعد تكاثر أهالى المحبوسين .. فيخرجون المحبوسين بالقوة .. ويصل الاضطراب إلى مداه .. فحركوا اللورى .. وجعلوه يقف بالطول ، ومؤخرته قريبة من سلم القسم .. وفى الظلام ما أمكن .

وتحرك طابور المحبوسين ببطء .. وابتدأ العدد .. وكان المارد يسلم النفر إلى زميله فى اللورى .. بصوت عال وبالعدد .. كما فى اللورى الأول .

وجاء دور الشخص الذى قبل " أمين " .. فأمسكه المارد من عنقه .. وصفعه وصاح فيه بصوت كالرعد :
ـ انت بتسب الحكومة يا خنزير ..
ـ أبدا .. أبدا .. يا بيه ..
وصفعه مرة أخرى .. وحدث اضطراب وزعيق .. وركل المارد " أمين " .. بقوة .. وصاح فيه وهو يدفعه بذراعه ..
ـ اجرى .. اجرى فى هذه الحارة .. يا متعوس ..

وجرى " أمين " وجرى .. ولا يدرى وهو قائم من المرض كيف كان يسابق الريح .
=================================
*
نشرت قصة " المارد " لمحمود البدوى فى مجلة الثقافة المصرية بالعدد 80 مايو 1980
* حريق القاهرة فى 26 يناير 1952
=================================




ليست هناك تعليقات: