الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

السيرة الذاتية ـ محمود البدوى وخروجه إلى الحياة ـ الجزء الثالث ص30 *

الحياة العمليه

الوظيفـــــــة
ـــــــــــــــــــــ

التحق محمود بتاريخ 12/ 3/1932 بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية بمرتب سبعة جنيهات ونصف ، وكلف بالعمل فى مصلحة الموانى والمنائر بالسويس ، وعندما ذهب إليها لم تكن الحرب العالمية الثانية قد إشتعلت .. ولم يكن الإنجليز يعسكرون مدن القناة .. وأقام بفندق بالسويس .. وفى شارع السوق الرئيسى ، وكان يضيق بالضجيج والحركة فى الشارع وركوب القطار كل يوم ليذهب إلى مقر عمله فى بور توفيق ..

أخذ يسعى فى العثور على سكن ، ووجد غرفة مفروشه فى بور توفيق مع أسرة إيطاليه تسكن فى منزل صغير على شط القناة ، وكانت تؤجر الغرفة لتستعين بإيجارها على مواجهة الحياة ، وأقام معها فى هدوء وإطمئنان ..

وولعه بالمطالعه وحبه للهدوء خففا مما كان يلاقيه من وحدة ..

كان يصطفى زميلا له يحب رياضة المشى كما كان أديبا .. فكانا يقطعان الطريق من بور توفيق إلى السويس سيراً على الأقدام .. وفى بعض الحالات كانا يواصلان السير إلى الأربعين .. وكان يقرأ ويتحدث عن الأدب .. ويرى فى يده أكثر من كتاب لبروست وزولا ..

كان محمود أثناء التمشيه على شاطئ القنال يرى المراكب الذاهبه إلى أوربا وهى محمله بخليط غير متجانس من البشر وتطلق صفاراتها وتسير فى القناة منطلقه إلى عرض البحر ، فولدت عنده الرغبه الشديده فى أن يركبها ويجوب الآفاق ، فيجلس على شط القناة ويحلم ويمنى نفسه بأعذب الأمانى وألذ الأحلام ، والصور الذهنية تبرز وتتداعى فى ذهنه رائعه خلابه ساحرة عن جمال المدن الخارجية وروعتها وروعة ما فيها ..

وعاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى الخارج ..

الرحيل إلى أوربا
ــــــــــــــــــــــ
كانت أوربا عام 1934 تعانى أزمة اقتصادية طاحنه ، والرخص والكساد بعمان كل مكان ، والأزمة الاقتصادية تأخذ بخناق الناس ، وبجنيهات قليله تعيش فى أوربا وتستطيع أن تأكل وجبه غذاء كامله فى أفخم المطاعم بما قيمته ثلاثين مليما ..

وكثرت الاعلانات بالجرائد والمجلات المصرية والأجنبية تشجع قرائها على السفر إلى البلاد الأوربيه بجنيهات قليله ، وكان أصحاب شركات البواخر من جنسيات مختلفه التركى .... اليونانى .. المصرى .. إلخ يتنافسون على جذب المقيمين بالبلاد للسفر إلى الخارج ، وكل شركة تذكر إسم الباخرة ومميزاتها وخط سيرها ، وبعضها يظهر صورتها فى الإعلان بطريقه مشوقه وهى فى وسط الماء ، وبعضها يعلن عن السفر من الإسكندرية أو من بور سعيد ذهابا وأيابا والإقامة فى اللوكاندات المفتخرة فى البلاد التى ترسو فيها ومدد الإقامة فى كل بلد من البلدان وميعاد السفر وميعاد الوصول ، وتتراوح مدة الرحلة بين 14 يوم وحتى 42 أو تزيد ..

إعلنت إحدى الشركات عن أسعار السفر وعلى الظهر الدك درجة أولى 700 قرش ، درجة ثانية 500 قرش ، درجة ثالثة 200 قرش

كان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته ، وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، معه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم سنه كاملة ..

فى صباح يوم من ايام شهر يوليو ذهب محمود إلى مكتب أنيق فخم من مكاتب السياحة تديره حسناء المانية ، وقلب بصره فى صور البلدان ، وبعد بحث طويل واستقصاء دقيق وإمعان فكر .. تخير أرض الدانوب ، وأخرج من جيبه أوراق البنكنوت وتناول تذكرة السفر ومعها تذكرة سكة حديد فى القطار إلى الإسكندرية ، وتحدد ميعاد السفر يوم 3 أغسطس 1934 ..

إستخرج جواز السفر فى 25 يوليه 1934 وحصل على إجازه من جهة عمله ، وأخذ فى المرور على السفارات وقنصليات البلاد التى إنتوى زيارتها وحصل على التأشيرات ولكن بعض هذه الدول ليس لها قنصليات فى القاهرة وقنصلياتها فى الإسكندرية ، كالقنصلية الرومانيه ، فأرجأ التأشير إلى حين ذهابه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة ، وأرسل إلى والده خطابا يطلعه فيه عن عزمه على الرحيل إلى أوربا الشرقية ، ولم يخبر أحداً سواه ..

وصل محمود إلى الإسكندرية ، وخرج من القطار ، وركب السيارة إلى فندق على شط البحر فى محطة الرمل ، وكان سعيداً جزلاً ، طروبا ، وفى الصباح ذهب إلى القنصلية الرومانية وحصل على التأشيرة وعاد إلى اللوكانده ، وجمع متاعه واتجه إلى الميناء ليركب المركب والتى كان محدداً لها مغادرة الميناء فى الرابعه من مساء اليوم ، وكاد يطير فرحا ، لأنه سيحقق أمنية عزيزة على نفسه ويركب البحر وحده ويجوب الآفاق ..

ويقول الناقد علاء الدين وحيد فى كتابه السابق الاشارة إليه .." وإنتهت إجراءات السفر جميعا ولم يبق إلا الصعود إلى الباخرة .. ولكن سلطات الميناء وأكثر موظفيه من كونستبلات الإنجليز تمنعه .. فى البداية الجمتة المفاجأة ولم يستطع أن ينبس .. أحس بالفراغ .. هل ضاع الأمل حقيقة فى الرحيل ؟ ولكن لماذا ؟ وكيف ؟ ويسترد أنفاسه ثم يعرف ما ومن يختفى وراء هذا القرار .. إنه أبوه ؟ كان صاحبنا قد بعث إلى والده خطابا فى آخر ساعة ينبئه بعزمه على السفر ، وكان رد الأب الذى لم يعلمه الابن .. حديثا تليفونيا إلى عم عمر ضابط البوليس فى الإسكندرية يطلب منعه من السفر وحجزه ، ولذلك عندما دخل صاحبنا مكتب بوليس الميناء ثائرا مناقشاً قضيته ، فوجئ بأبيه الذى حضر تواً من الصعيد وعمه جالسين ، وعندما تحدث إلى موظف الجوازات عن حق المواطن المصرى الشريف فى السفر بلا قيد أو شرط ، وبلوغه سن الرشد منذ وقت طويل ، وضرورة عدم منعه حتى يلحق بالسفينه قبل أن تغادر الرصيف، وجوبه بصمت الموظف .. حمله صارخاً مسئولية حجزه بلا وجه حق ، ولكن هذا كله لم يفد شيئاً .. وبكى صاحبنا .. لقد خشى عليه الأب من السفر .. ولنذكر أننا فى عام 1934 ، والمفهوم التقليدى السائد آنذاك عند أكثر الناس عن بلاد بره ، أنها مهد الفساد الخلقى والفكرى معا ، زيادة إلى ما ينفثه الجهل فى الأشياء المجهولة من خزعبلات .. خاصة وأنه لم يكن يعرف الطريق إلى مثل هذا السفر إلا الطبقة الثرية فى بلادنا ..

ولكن العم وضابط أجنبى يعملان على إقناع الاب حتى يقتنع ، ويسمح للابن الحزين بالسفر ويقوم بتوديعه "
ويغادر الأب والعم الميناء ومحمود لا يصدق بأن والده سمح له بالرحيل وإطمأن قلبه ..

عندما ركب الباخره ، وكانت هذه هى المرة الأولى فى حياته سمع صفيرها يرن فى جو الميناء ويتجاوب صداه فى قلب البحر ، ورفعت الباخرة السلم ودارت محركاتها ، وتصاعد دخانها ، وأخذت فى حركة استعراضية تبعد عن الرصيف ، فصعد إلى ظهر السفينه وإتكأ على سورها الحديدى مع الواقفين يرقب حركة المسافرين ويستقبل تحيات المودعين ، ولم يكن له مودع كغيره من ركاب السفينه ..

لم يصبح وحيدا منذ ركب الباخره ، فاختلط بالركاب وشاهد ألوانا مختلفة من الناس من كل لون وجنس ، ووجوه كثيره وثقافات متعدده ، وتصادق مع من إرتاحت له نفسه ..

كان محمود يتكلم بالإشارة فى كل بلد يزورها ، وقل أن يجد من يتكلم الانجليزية أو الفرنسية اللتان يجيدهما ..

فى كل بلد يحل بها يخرج يتجول مع أنفاس الصباح يجتلى مجالى الطبيعة ، يذهب ويتحرك هنا وهناك على غير وجهة وعلى غير هدى ، يشاهد مدنها ويتقدم ويتوغل فى طرقاتها وينظر إلى حدائقها ومنازلها ويرمى المارين بنظرة سريعة هادئا مسروراً ، ويستعرض حوانيت بائعى الكتب القديمة والحديثه ، ويقف يقرأ عناوينها ويغرق فى بحار من الفكر ، ومن مكتبه بوخارست اشترى كتب "لاسكار وايلد ولورنس وجويس ، وإذا عضه الجوع ورمق أحد المطاعم يميل إليه ليأكل ويجلس بعد الطعام ليستريح ..


* * *

ومنذ عودة البدوى من الرحلة وهو يعشق الرحلات فى الداخل والخارج ، فسافر إلى جميع المدن المصرية من أسوان وحتى الإسكندرية ، وطاف وجال فى أوربا وآسيا وبعض البلاد العربية فى رحلات ثقافية وغير ثقافية ..

وحينما ذهب إلى دمنهور فى الثلاثينيات من القرن العشرين والتقى بأدبائها فى مقهى المسيرى وجد الغالبية منهم لم تكن قد خرجت من المدينة وتعجب وقال " من أين تأتى التجارب ، ويزخر الرأس بالأفكار .. فليسافر الأديب وليسافر ، ففى السفر تلتقى بأصناف مختلفة من البشر وتحتك بهم وقد تتعاطف معهم وقد تنفر منهم ، وقد تجد بينهم بطلة لقصه " .
حياة محمود البدوى بعد وفاة والده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

توفى والد محمود البدوى فى 19 يناير سنة 1941 ووجد نفسه مسئولاً، فذهب إلى إعلانات الأهرام وسدد تسعون قرشا صاغا فقط مقابل نشر إعلان بالصحيفة عن الوفاة، ونشر الإعلان فى 20/1/1941 بالعدد 20246 وجاء فيه :

الشيخ أحمد حسن عمر

انتقل إلى رحمه ربه الشيخ أحمد حسن عمر عمدة الأكراد وعميد عائلة عمر ، والد الشيخ محمد من العلماء ومحمود بالماليه وأبى الفتوح بالمدارس العالية وشقيق حضرات رياض العمدة السابق وحسين رئيس السجل التجارى ببنها والصاغ عمر أركان حرب الحاكم العسكرى بالقنال واليوزباشى حفظى رئيس مباحث شبين الكوم ومحمود وكيل نيابه كفر الشيخ وزينهم من الأعيان وعم الطيب ويس وفؤاد من الأعيان وحسن رياض بالمواصلات وابن عم محمد الصادق نائب العمدة وخال الأساتذه عبد الحكيم أبو المعالى بالمحاكم الشرعيه وثابت أبو المعالى المدرس بمعهد أسيوط ومجدى من الأعيان وعبد الهادى طالب ثانوى وابن خال الشيخ عزب عثمان وصهر الحاج حسن إبراهيم بالطوابية ومصطفى بك التونى عمدة أتليدم والأستاذ شوكت التونى المحامى وقريب عائله عبد الهادى ومحمد سيد بشطب وستقام ليالى المأتم بديوان العائله بالأكراد مركز أبنوب"

كما وجد نفسه مسئولاً عن إدارة الأطيان الزراعية التى آلت إليه عن طريق الميراث والأراضى التى أعطاها له والده حال حياته فى عامى 1935 و1937 ونقلت إليه ملكيتها بعقود مسجلة ، ويتعين عليه أن يقيم فى الريف وبجوار الأرض لمراعاة الأنفار وإعطائهم أجورهم وتفقد الزرعة خشيه هلاكها ويضيع ماله ، وكان يسجل مصروفات الزراعة فى دفتر صغير .. (السماد ـ التقاوى ـ أجر عربة نقل السماد والتقاوى ـ جاز لادارة ماكينة الرى ـ زيت ـ تصليح الماكينه ـ أجر أنفار الرى ـ كوز للزيت ـ صفيحة جاز ـ أجر مشال ـ سباخ للزراعة الصيفى ـ ضم المحصول الشتوى ـ أجر عامل تطهير القنوات ـ ضم المحصول الصيفى ـ أجر أسطى الماكينه ـ أجر أنفار) ومن الملفت للنظر أن أجر عامل السقيه فى ذلك الوقت من عام 1941 35 مليم واجر أسطى ماكينه الرى 45 مليم وأجر النفر 30 مليم . كما كان يسجل بالدفتر أثمان بيع المحصول الصيفى (قمح ـ ذره صيفى ـ ذره شامى ـ تين ـ قطن) والمحصول الشتوى ( فول ـ عدس ـ حلبه ) ..

بعد مدة من الزمن قام البدوى بتأجير الأرض إلى الفلاحين ، وفى نهاية شهر سبتمبر من كل عام يترك بيته فى القاهرة ويسافر إلى الصعيد ، وبمجرد أن يراه أحد الفلاحين سائرا على الجسر متجها إلى الدار يسرى الخبر بينهم فيتدافقون ويتسابقون فى الوصول إليه ، كل منهم يريد أن يستأجر قطعة ، ومنهم من كان يزيد فى قيمة الإيجار ليفوز ولو بقطعة صغيرة ، وكان المستأجر يسدد الإيجار بالكامل عند التوقيع على العقد والذى كانت مدته سنة زراعية واحدة ..

( بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعى ) كان يذهب إلى الفلاحين فى موسم جمع المحصول ويستعمل كل وسائل المواصلات للوصول إليهم ويلاقى المشقه وتعب الأعصاب فى كل مشوار للعثور عليهم ـ يكون ذلك نهاراً ـ وإذا وجدهم يحتفون به ويفرشون له حراما فى ظل عريشة إتقاء من حرارة الشمس الملتهبه ، ويجلسون ويلتفون حوله مرحبين ، ويقدمون له الشاى ويدعونه إلى الطعام ، إلا أنهم حينما يسمعون كلمة الإيجار فكأنما لسعتهم عقرب ، ويقضى النهار كله فى منازعات وجذب وشد وكل واحد يريد أن يترك له جزءًا من الإيجار لأن زراعته بارت وفسدت ، ومنهم من كان يدعى أن جاره أخذ جزءًا من القطعة المؤجره له ، أو أن النيل قد أكل جزءًا منها ويطلبون قياسها ، فكان يعطف ويشفق عليهم ويتأثر بكلامهم ويتنازل لهم عن جزء من الإيجار ..

وبعد ما عاناه من مشقه عهد الأمر كله إلى وكيل عنه من أهل البلد ليحصل الإيجار ويريحه من مشقة السفر ومن المشوار وإيداع الأموال ببنك مصر فرع أسيوط لتحويله وإضافته إلى حسابه بفرع البنك بالقاهرة ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات: