الصورة الناقصة
قصة محمود البدوى
ركبت المترو ذات ليلة من نفق جنزا .. وكنت أود أن أقوم بجولة ليلية تحت المدينة الكبيرة .. وأرى ضواحى طوكيو تسبح تحت أضواء الأرض والسماء .. أرى الفوانيس الحالمة على واجهات المنازل ترسل الأنوار الحمراء والزرقاء .. وتحكى بأشكالها قصص الأساطير ، والبالونات من كل الرسوم والألوان تشع بالأنوار ويتساقط عليها المطر .. فيصقلها ويزيدها توهجا وبهجة .. ونزلت من القطار .
ولما وصلت نهاية الجولة .. غرقت بكل حواسى فى هذا الجمال .. ونسيت نفسى حتى انقضى جزء كبير من الليل .
ووجدت مطعما على الطريق .. وكنت أحس بالجوع الشديد .. وأخاف ألا أجد طعاما فى الفندق الذى نزلت فيه فى مثل هذه الساعة من الليل .
فدخلت المطعم .. وطلبت وجبة عشاء يابانية كاملة .. وأحسست بالدفء والجمال حولى .. فأكلت متمهلا .. ولما فرغت من الطعام .. وخرجت إلى المحطة .. وجدت أن القطار الأخير قد مر منذ أربع دقائق .. فاستأت وتملكتنى الحيرة ..
وأخذت أروح وأجىء على الرصيف .. وأنا أفكر فى وسيلة أعود بها إلى المدينة .
وخرجت إلى الشارع لأسأل رجل البوليس .. وكانت المنطقة كلها لا تزال تتلألأ بالأضواء الحمراء والخضراء والزرقاء .. كأنها حبات الزمرد .. والياقوت .. والمرجان .. على صدر حسناء .
والحوانيت لا تزال ساهرة .. والحركة فى الشارع المجاور للمحطة على أشدها .. وشاقنى المنظر كله وأخذ يلبى .. ولكننى أحسست بوطأة البرد وأنا فى العراء .. وتحت السماء المقرورة .. فتحركت أحتمى بالمساكن .. ولم أر أحدا من رجال البوليس أمامى ، ورأيت شابا يتحرك فى الطريق ..
فتقدمت إليه وسألته بالإنجليزية :
ــ ألا توجد قطارات الآن إلى جنزا ..؟
ــ آخر قطار مر منذ لحظات .
ــ والسيارات ..؟
ــ تستطيع أن تركب تاكسى .. ولكن هذا سيكلفك أكثر من ألف ين .. وتستطيع بأقل من هذا المبلغ أن تقضى الليل هنا .. وفى الصباح تذهب بالقطار إلى حيث تريد ..
ــ أتوجد فنادق رخيصة هنا .. فليس فى جيبى الآن .. سوى " ينات " قليلة.
ــ يوجد فندق واحد .. وستذهب إليه وأرجو أن يروقك ..
ومشيت مع الشاب صامتا .. ثم أخذنا نتحدث وقطعنا جولة كبيرة .. ولما بعد بى عن الشوارع الرئيسية ودخل فى الحوارى الضيقة القليلة الضوء المملوءة بالحانات وأماكن اللهو . توجست منه شرا .. وخشيت أن يكون قد تصورنى أمريكيا .. وأنه يقودنى الآن إلى الهلاك .. فعرفته بجنسيتى ..
وقال مبتسما :
ــ أعرف أنك من الشرق ..
ــ من مصر .. ونحن أصدقاء .. ونحبكم .
ــ هذا طبيعى .. ونحن نحبكم أيضا ..
ــ بلادكم جميلة .. كأنما يرسم خطوطها وألوانها رسام عبقرى .. كنت أتوقع أن أرى الثلوج لأرسم لوحة للشتاء ..
ــ إنها لا تثلج الآن انتظر شهرا آخر .. هل أنت رسام .؟
ــ نعم رسام .. ورسمت مشاهد حية .. من حى جنزا .
ــ طوكيو كلها فى هذا الحى .. هل أعجبك ..؟
ــ شىء فوق الخيال .. اعتدت أن أشرب القهوة كل صباح فى مقهى صغير لا يتجاوز حجمه أربعة أمتار .. ولكن أى جمال فيه .. وأى فن .. وأى رسوم على الجدران وأى لوحات .. وأى فنان وضع تصميم المكان ..
ــ يوجد كثير من الفنانين فى طوكيو .. وتستطيع أن تزورهم وترى أعمالهم ..
ــ هل الفندق بعيد ..؟
ــ لا .. لقد اقتربنا منه ..
ودخلنا شارعا صغيرا .. على أبوابه الفوانيس الزرقاء .. وبه أكثر من مرقص ومقهى ورأيت فتاة تقف وراء باب زجاجى دون حركة .. وتصورتها رسما على الزجاج .. فوقفت أمامها . من الخارج .. أتأمل .. فلوحت لى بيدها تدعونى للدخول .. فوقفت مبهوتا ..
وقال لى الشاب :
ــ أتحب أن تدخل ..؟
ــ سأرى الفندق أولا ..
ورجعنا مرة أخرى فى تيه من الشوارع الضيقة .. وشعرت بقلبى يدق بعنف شعرت بالخوف الحقيقى الذى ينتاب الغريب وهو يرافق شخصا لا يأمن جانبه .. وسواء أكان هذا الخوف له سبب معقول .. أو ناتج عن تلف فى الأعصاب .. فإننى أحسست برعشة .. وغرقت فى دوامة من الرعب القاتل ..
وأغمضت عينى برهة ثم مشيت مع الشاب .. وأنا أقول فى نفسى لا بد مما ليس منه بد ..
ولم نبعد فقد دخلنا مرة أخرى فى صف من المنازل الصغيرة المدببة السقوف وعلى واجهاتها الفوانيس .. واجتاز بى عتبة صغيرة من الرخام .. وصعدنا سلمين ثم توقف كاتو .. وأخذ يخلع نعليه .. وأشار بأن أحذو حذوه.. فخلعت نعلى .. واجتزنا صحنا مفروشا بالحصير الجميل ..
واستقبلنا رجل فى الأربعين مربع عريض الصدر .. وكلمه كاتو باليابانية.. فقادنى الرجل وهو يرحب إلى غرفة مفروشة بالحصير .. والحشيات والوسائد.. وكانت المرتبة مفروشة .. فوق الحصير .. وأرض الغرفة خشبية وترتفع عن الأرض بمقدار ثلاثين سنتيمترا ..
فسررت جدا من هذا الجو اليابانى الخالص وسألنى صاحب النزل :
ــ أعجبتك الغرفة ..؟
ــ جدا .. إنها جميلة للغاية ..
ــ كنت أخشى ألا تروقك .. لأنه لا يوجد بها سرير ..
ــ بالعكس .. إنها أعجبتنى أكثر .. كم أجرها فى الليلة ..؟
ــ ألف ين ..
ــ حسن .. والشاى والإفطار ..
ــ هذه الأشياء كلها رخيصة هنا .. ولا تكلف كثيرا .. واطلب ما تحب ..
ووضعت يدى فى جيبى .. وأعطيت "كاتو" مائة ين .. فأخذها وانصرف مسرعا ..
وسألنى صاحب النزل إن كنت أحتاج لشىء وكنت أحس بالبرد فطلبت بعض الشاى .. ودخلت علىّ فتاة جميلة تحمل صينية الشاى ووضعته أمامى على الحصير وصبته فى الفنجان .. وأخذت ترحب بى بالكلام والابتسام وانحناءة الرأس .. وأدركت أنى لا أعرف لغتها فزاد ابتسامها .. ووضعت لى الوسائد .. وخرجت وأخذت أتهيأ للنوم .. ولم يكن معى بيجامة .. فخلعت سترتى وتمددت على الفراش .. ولكننى لم أنم .. وكان النزل هادئا .. وليس به أدنى حركة تدل على وجود نزلاء .. آخرين ..
وأغمضت عينى لأنام .. فعادت إلى ذهنى صورة الفتاة الواقفة على باب الملهى الزجاجى .. وكنت أعرف أن المكان يبعد عنى كثيرا ..
ووجدتنى أنهض وأرتدى السترة .. وأخرج .. وقلت للرجل صاحب المنزل إننى ذاهب إلى مرقص قريب وسأعود .. وأعطيته أجر الغرفة مقدما حتى لا يتصور أننى أخدعه ..
وأسرعت إلى الحانة .. ودفعت بابها الزجاجى .. ووجدت ساحتها صغيرة وفى وسطها بار دائرى .. يقف فيه خمس فتيات .. يقدمن الخمر لثلاثة من الزبائن وكان الضوء ضعيفا .. والدخان يملأ جو المكان .. والهدوء يخيم .. واستقبلت بابتسامة وانحناءة من جميع الفتيات .. ولم أكن سكيرا .. ولا أحب شرب الخمر .. ولا أدرى لماذا دخلت وأنا أعرف أنها حانة .. والواقع أننى لم أجد مكانا غيره ساهرا فى الحى كله .. وترددت قليلا أين أجلس .. وظللت واقفا .. ثم رأيت سلما خشبيا صغيرا .. ملاصقا للفتاة الجالسة على الخزينة.. فصعدته سريعا .. ووجدت فى الدور العلوى .. نفس البار الدائرى .. ونفس الضوء الخافت .. ونفس الرسم على الجدران وكان فى البار ثلاث فتيات فقط .. ورجل واحد .. أخذنى بنظرة سريعة ثم عاد لكأسه ..
ووجدت نفسى أجلس أمام واحدة من الفتيات .. ولعلها جذبتنى بقوة المغناطيس الذى فى عينيها وكانت ترتدى صديرا من الصوف الرمادى .. وبنطلونا أحمر .. كأى فتاة أمريكية من برودواى .. وجلست أنظر إلى عينيها برقة .. كانت وادعة .. ولا يبدو عليها أنها من فتيات البارات .. وأدركت أننى لهذه الوداعة اخترتها .. الغريب يلجأ دائما إلى منطقة الأمان .. ووضعت الفتاة أمامى صحنا من البطاطس المحمر .. ولم تسألنى ماذا أشرب .. ولعلها عرفت أننى لا أشرب على الإطلاق .. وكانت عيناى تسبحان فى الزجاجات التى أمامى تقرأ الأسماء فى هذا الضوء الخافت .. ورأيت بالونة زرقاء مكتوب عليها .. نبيذ وحسان .. فى كل الأركان الدائرة .. وتذكرت أن هذا هو اسم البار ..
وعاد نظر الفتاة على وجهى وسألتنى برقة :
ــ لماذا لا تأكل .. أأجىء لك ببعض الكبد والقلوب المشوية ..
فقلت وأنا أنظر إلى عينيها ..
ــ أجل .. مع كوب من النبيذ ..
ــ أحمر ..؟
ــ أحمر ..
ووضعت الكوب أمامى .. ونظرت إليها .. لم أر فتاة فى مثل جمالها .. لا فى بوخارست ولا فى وارسو .. ولا فى برلين .. ولا فى بودابست .. ولا فى استنبول .. ولا فى هونج كونج ..
وقلت لها وأنا أرفع الكوب إلى شفتى :
ــ ألا تشربين شيئا ..؟
ــ سأشرب ..
وجاءت بشىء أحمر فى قعر الكوب .. ورفعته إلى شفتيها .. تناولت عشر قطرات لا أكثر .. ونظرت باسمة .. أدركت أنها لا تشرب الخمر .. وتعجبت لوجودها فى هذا المكان .. وأدركنى العجب أكثر .. منذ محادثتها فقد بدت على ثقافة عالية ولم تكن تدفعنى إلى الشراب أو تطلب لى المزيد منه كفتيات الحانات .. بل كانت تتركنى بكل حريتى .. وعندما طلبت لها كأسا أخرى رفضت ..
وقالت :
ــ واحد يكفى .. المهم أن نجلس ونتحدث ..
وسألتنى :
ــ متى جئت طوكيو ..؟
ــ منذ يومين ..
ــ ونازل فى أى فندق ؟.
ــ فلم أتذكر اسم الفندق وبحثت فى جيوبى عن البطاقة المكتوب فيها الاسم فلم أجدها .. وفتحت فمى كالأبله ..
وقلت لها :
ــ لا أعرفه ..
فضحكت ..
ــ أتعرف كيف تذهب إليه وحدك ..؟
ــ أبدا .. اعتدت أن أعطى البطاقة للسائق .. وهى مكتوبة باليابانية ..
ــ هل اسمه .. إمبريال .. نيوكوهاما .. جيانسو .. نيكاسيو .. دايتشى .. الإمبراطور ..
وعددت لى مئات الأسماء .
ــ أبدا ..
ــ وكيف ستهتدى إلى حوائجك ..
ــ فى الصباح .. سأتصل بشركة السياحة .. وهى التى تعرف اسم الفندق ..
وعاد إلى قلبها الضحك ..
ــ إن هذا ممتع .. وأين ستقضى هذه الليلة ..؟
ــ فى فندق قريب منكم على الناصية ..
ــ آه .. عرفته ..
ــ هل أطمع فى جولة حول المدينة بصحبتك غدا .. ؟
ــ آسفة لا أستطيع ..
ــ وكيف أراك ..؟
ــ هنا فقط ..
ــ إن بلدتكم جميلة .. لا يشبع الإنسان من جمالها ..
وهنا رن صوت ..
ــ إنك لم ترها وهى مضروبة بالقنابل .. كانت حطاما .. ضربها الأنذال بكل ما لديهم من قوات الجو ..
وتلفت فوجدت الرجل الذى كان يسمر هناك فى الظلام .. ولقد نسيته.. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقة ..
ــ إن هذا كان ردا على بيرل هاربرد .
ــ لا .. إنك لم تر طوكيو .. فى ذلك الحين .. لم يحدث لمدينة كما حدث لها من الضرب الوحشى المركز ..
ــ ولكنها الآن تبدو كأجمل الحسان ..
ــ بقوة سواعدنا بنيناها من جديد .. إن طوكيو .. هى اليابان كلها .. هات كأسا للسيد ياهينا .. ولنشرب نخب طوكيو .. ونخب الشرق كله ..
فرفعت الكأس إلى شفتى ورفعته الفتاة .. وكانت تبتسم .. وقبل أن ينصرف الرجل انحنى لى ثلاث مرات .. فنهضت عن الكرسى وأخذت أرد له التحية بعدد انحناءاته ..
ودخل بعده أربعة شبان المكان .. وكان أحدهم يرتدى معطفا قصيرا أبيض.. فرأيت وجه الفتاة يتجهم .. وجلسوا حول الفتاتين الأخريين سميا ونلدا يصخبون .. ويضحكون .. وانتهى الجو الحالم الذى كنا نعيش فيه منذ لحظات .. وشعرت بالضيق .. ولاحظت علىَّ هينا الضجر ..
فسألتنى :
ــ شعرت بالتعب ..؟
ــ نعم ..
ــ الأحسن أن تستريح ..
ــ وكيف أراك ..
ــ فى انتظارك غدا ..
وأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وتناولتها الفتاة وهبطت بها سريعا وسمعت صوتها وهى تحاور صاحبة الحان .. وعادت وقدمت لى أربع ورقات كبيرة وبضعة ينات صغيرة ..
فقلت لها متعجبا ..
ــ إنك لم تأخذى شيئا ..
ــ هذا هو حسابك .. إنك لست بسكير ..
ونظرت إلى عينيها طويلا ..
فسألتنى :
ــ ما اسمك ..؟
ــ لطفى ..
ــ إسمى هينا ..
ــ اسم جميل ..
ونظرت إلى صورة عروس يابانية تغنى بالقيثار .. فى ركن من المكان وقلت لها :
ــ فكرت فى أن أرسمك بالكومينو .. وأرجو ألا ترفضى لى هذا الطلب ..
ــ غدا سنتحدث فى هذا .
وأعطتنى يدها ..
فرفعتها إلى شفتى ..
وعندما هبطت إلى الدور الأرضى نظرت إلى صاحبة الحان طويلا وأنا خارج ..
وقالت برقة :
ــ شرفتنا يا سيد ..
وانحنت الفتاة الواقفة على الباب ..
وقالت :
ــ شكرا يا سيد .. شرفتنا وآنستنا ..
وخرجت إلى الطريق .. وأمامى أضواء قوس قزح .. فى السماء والأرض..
***
وفى المساء التالى لبست « هينا » ثوبا آخر وبدت مجلوة كالعروس من غير أصباغ .. أو أحمر على الشفاه ..
وقالت :
ــ هل اهتديت إلى الفندق ..؟
ــ أجل .. وأفكر فى نقل حوائجى إلى هذا الحى ..
ــ لماذا .. ؟
ــ لأكون قريبا منك ..
وضحكت ..
ــ عشقتنى بمثل هذه السرعة .. إننى أقيم هناك مثلك ..
ــ ولكنك تعملين هنا ..
ــ يمكنك أن تجىء من السابعة وتبقى إلى ما بعد منتصف الليل .. وفى هذا الكفاية ..
ــ كما تحبين ..
ولم يكن بالمكان العلوى أحد سوانا .. وكانت الفتاتان الأخريان أكثر رقة مما قدرنا .. فقد تركانا وحيدين وهبطتا إلى الدور الأرضى ..
وقلت للفتاة ..
ــ أى صورة ..؟ أرسمك .. وأنت لابسة الكومينو ..
ــ ليس عندى كومينو ..
ــ سأشتريه لك .. وأعطيك خمسة آلاف ين على الرسم ..
وخرجت منى هذه الكلمات كالقذيفة بحكم الصنعة .. فاحمر وجهها ..
فتركتها دقيقتين ثم سألتها :
ــ ما رأيك ..؟
ــ دعنى أفكر ..
ــ ها هو عنوان الفندق .. وسأنتظرك فى البهو غدا فى الساعة الحادية عشرة صباحا ..
ــ سأجىء فى الرابعة بعد الظهر ..
قالتها برقة .. وكنت أود من فرط السرور أن أطوقها بذراعى ..
***
وفى الساعة الرابعة مساء رأيتها تدفع الباب .. كانت تلبس جاكتة وجونلة زرقاء وزادها هذا نضارة .. واستقبلتها فرحا .. وكانت خجلى بعض الشىء ثم زايلها الخجل بعد أن شربنا الشاى وتحدثنا .. ثم صعدنا إلى غرفتى.. وأريتها الكومينو الذى اشتريته لها فسرت به .. ودخلت وراء الستر لتخلع ثوبها وتلبسه .
وعندما خرجت كانت أجمل ما وقعت عليه عيناى .
وجلست أمام المرآة تسرح شعرها على الطريقة اليابانية وتبدو فى زينة مناسبة للرداء ومنسجمة معه ..
وأمسكت بالفرشاة وأخذت أعمل .. وأستريح وأجعلها تستريح وتسترخى .. حتى كانت الساعة السادسة .. وكانت عليها أن تذهب إلى عملها . فودعتها على أن تجىء غدا لنكمل اللوحة .
***
ولم أذهب إلى الحان فى تلك الليلة .. جلست فى غرفتى .. وهى أمامى على التابلوه .. وكنت أدخن بشراهة .. وأنظر إلى ما تحت الكومينو .. كنت أفكر فى البشرة الناصعة .. وفى صورة لفينوس العارية ..
كنت أفكر فى صورة أضع فيها كل روحى وفنى .
وجاءت فى اليوم التالى فى الميعاد .. وجلست أرسم بسرعة .. حتى أتممت الصورة ..
وقلت وأنا أضع الفرشاة جانبا ..
ــ هل تساعدينى على أن نكمل هذا العمل .
ــ كيف ..؟
ــ أريد أن أرسمك على الطبيعة .. ولا أحد سيراها هنا .. لأنى سأحمل الرسم معى .. ولا أحد يعرفك هناك ..
ــ لا تقل هذا .. لقد خاب ظنى فيك .. هل أنا محترفة ..؟
ــ العفو .. إننى أريد أن أرسم عذراء .. وأرسم الخفر الذى على وجهها.. والخجل الذى فى عينيها .. وأنا أراها عارية .. أربد أن أرسم هذا .. وهذا لا يأتى إلا منك .. فلا تحرمينى من هذه المنحة ..
ــ هناك كثيرات صنعتهن هكذا .. فاذهب إليهن ..
ــ لا .. أنا لا أريد محترفة .. أريدك أنت وسأعطيك عشرة آلاف ين .. لجلسة واحدة .. وأغمضت عينيها فى غمرة الانفعال تناولت يدها وقبلتها .
وهمست ..
ــ سأنتظرك غدا ..
ــ سأجىء يوم الخميس ..
وخرجت ونسيت أن تأخذ الكومينو معها .. فضممته إلى صدرى ..
وفى يوم الخميس جاءت .. وكان العذاب الأكبر لى ولها لأنها رفضت أن تقف عارية تماما .. ورأيت أن أضع غلالة رقيقة على جسمها فى هذه الجلسة.. لأتفادى غضبها وليكون وجهها طبيعيا ومشرقا .. وأرسم فى هذه الجلسة وجهها وجيدها وكتفيها .. وفى الجلسة المقبلة تكون قد اعتادت وأرفع الغلالة وأكمل الصورة ..
وفعلا رسمت نصفها .. وخرجت مسرعة على أن تعود بعد يومين لتكمل الصورة وتأخذ العشرة آلاف ين ..
وفى الصباح كنت أتجول فى المدينة .. وخرجت إلى حديقة مشهورة .. فرأيتها بصحبة رجل أعمى فى ممشى الحديقة .. وكان واضحا أنه والدها .. وبعدت عنها حتى لا ترانى ..
ظللت ألاحظها من بعيد حتى خرجت بالرجل .. وكان عطفها عليه شديدا .. وحنانها لا يصور ..
وظللت وراءهاحتى أركبته الأوتوبيس وغابا عن ناظرى ..
***
وذهبت إلى المشرب فى مساء اليوم نفسه .. فاستقبلتنى باسمة .. وقلت لها قبل أن أجلس .
ــ لقد رأيتك فى الصباح فى الحديقة ..
ــ أعرف هذا وكنت أود أن أحدثك ولكنك زغت ..
ــ والآن أنا أريد أن أشرب كوكاكولا .. أو عصير الليمون ..
ــ إن فعلت هذا سأطرد من هنا ..
ــ وماذا يحدث لو طردت ..؟
ــ سيموت أبى من الجوع ..
وأخضلت عيناها بسرعة .. ونظرت إليها ثم أطرقت .. وفى يدى السيجارة ..
وقالت وهى تبلع عبراتها ..
ــ أصيب أبى بالعمى فى الغارات المدمرة على طوكيو .. وأمى عجوز فوق الستين .. وليس لنا معاش .. أو أى شىء نعيش منه .. ولهذا أنا أعمل فى الصباح والمساء فى مطعم أوتاكا وفى الليل أجىء إلى هذا المشرب .. لأوفر لأبى مبلغا من المال .. ليسافر به .. إلى موسكو .. وهناك يسترد بصره فى معهد " فيلاتوف " .. ولقد وفرت مبلغا ، والخمسة آلاف التى أخذتها منك مع العشرة آلاف التى سآخذها غدا ، أكملت ثمن التذكرة وعجلت بسفره إلى هناك .. فأنت الآن إنسان لا ينسى .. جزء من حياتى وسعادتى ..
وشعرت بقلبى يتمزق .. وقلت لها :
ــ أرجو أن تسكتى ..
وأخذت أدخن .. وأحكى لها ما شاهدته ورسمته فى « جنزا » وفى الضواحى وأريتها بعض الرسومات ..
فقالت باسمة :
ــ غدا لن تكون وحدك .. سأرافقك فى كل جولة لأنه يوم راحتى ..
وتصورت نفسى وهى بجوارى رشيقة جميلة كالطاووس .. بشعرها وحسنها .. جالسة معى فى السيارة .. والمترو وعلى العشب فى الحدائق .. وتحت السماء والمطر يتساقط علينا .. وأنا أحميها منه بمعطفى وصدرى .. وشعرت بسعادة .. غيبتنى عن وعيى ..
وفجأة سمعت موسيقى راقصة فى الدور الأرضى .. وسمعت بعدها ضجة وصعد بعض الشبان اليابانيين إلى الدور العلوى الذى نجلس فيه .. ورمقنى واحد منهم بنظرة قبل أن يجلس .. وطلبوا الشراب .. وجلسوا جميعا يشربون ويصخبون ولم تغير "هينا" مكانها ، ولم تقدم لأحد منهم شيئا ، تركتهم جميعا للفتاتين الأخريين ..
وجلست حوالى ساعة وأنا أقدر خروجهم ، ولكنهم بقوا يصخبون .. وكان نظرهم يقع على ، ثم يعودون إلى سمرهم .. وحديثهم ..
ووعدت " هينا " على لقاء فى الصباح .. ثم أخرجت محفظتى وأعطيتها ورقة مالية لتدفع الحساب .. ونزلت إلى الخزينة ولبست معطفى .. ونزلت السلم .. ولما رأيتها لا تزال واقفة على الكيس .. تجادل صاحبة الحان .. انتظرت على السلم .. وكان وجهى إليها .. وسمعت حركة شديدة من الشبان فى الدور العلوى ، ثم ظهر واحد منهم على البسطة العليا من السلم ، وكان يرتدى معطفا أبيض .. ورآنى فأخذ يهبط السلم ببطء وحولت وجهى عنه .. وأنا أحس بهم جميعا يهبطون ، وراقنى منظر رجل سكير أخذ يغنى .. وقد أغلق عينيه .. وفجأة أحسست بيد " هينا " تجذبنى بقوة وتدفعنى بعيدا عن السلم .. وسقط الشاب لابس المعطف بكل قوة .. مدحرجا ومقلبا حتى وصل أرض الحان ..
وهبط من كان وراءه .. وضرب " هينا " على وجهها بوحشية .. فلم أملك نفسى وصفعته وتشابكنا فى عراك دموى .. واختلط الحابل بالنابل .. ورحت فى غيبوبة ..
***
ولما أفقت وجدت نفسى مستريحا على كرسى ببدلتى .. وذراعى مربوطة إلى صدرى وكانت " هينا " بجوارى وعلمت أننى فى بيتها .. وأنها حملتنى بعد تضميد الجرح إلى هنا .
وقالت لى باسمة :
ــ لماذا ضربته .. كانوا سيقتلونك ..؟
ــ لو لم أفعل هذا لانشل ذراعى من الغيظ ..
ــ أعرفت لعبتهم ..؟
ــ أجل .. كان سيهبط علىّ من فوق بكل قوته كأنه لا يكاد يتماسك من السكر .. فنقع معا على الأرض ..
ــ وفى أثناء ذلك تطير المحفظة بكل ما فيها من نقود ..
وتحسست جيوبى ..
وقلت لها :
ــ لقد طارت فعلا ..
ــ لا تحزن .. سنستضيفك هنا حتى تسافر ..
ــ والحمد لله .. إن تذكرة العودة محفوظة فى الفندق ..
وضحكت هينا ..
ــ عظيم .. إذن لم تخسر شيئا من جراء هذه المعركة ..
ــ لن أدخل حانة مرة أخرى فى حياتى حتى وإن كنت أنت الساقية ..
ــ وأنا لن أكون ساقية بعد اليوم .. سأكتفى بعملى فى المطعم ..
وتناولت يدها .. وضغطت عليها .. ورأيت عينيها تتألقان بالجمال والحب وظلت ممسكة بيدى .. ثم دفعتها فى جيبها وأخرجت المحفظة ووضعتها فى مكانها من سترتى ..
وقالت برقة :
ــ والآن متى نكمل الصورة ..؟
ــ لن نكملها ..
ــ كيف ..؟
نظرت إلى مستغربة ..
ــ لقد قررت هذا .. قبل أن يقع الحادث .. إن أعظم صورة للفنان هى التى لم تكمل .. لأنها الصورة الوحيدة التى تعيش فى قلبه ووجدانه .
وتناولت بذراعى السليمة المحفظة وأعطيتها ورقتين بعشرة آلاف ين .. ورفضت أن تأخذ المبلغ .. وتحت الإلحاح الشديد قبلت .. ولما اقتربت من ذراعى الجريح ومسحت عليه بيدها .. وأعطتنى شفتيها فى غمرة عواطفها الجائشة .. قبلت شعرها .. وجيدها .. ولم أشأ أن أطفئ النار المشتعلة فى قلبى..
=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب 16/11/1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى " الأعرج فى الميناء " 1958 وبمجموعة قصص من اليابان من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ سنة 2001مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
ليلة فى طوكيو
قصة محمود البدوى
قال الكاتب الأمريكى توماس وولف : إذا أردت أن تعرف « نيويورك » فعش فى باريس ، وفى هذا القول اجتمعت كل الحقيقة .. من المدائن والناس..
وأردت أنا ( والقياس مع الفارق بينى وبين الروائى العظيم ) .. أن أعرف القاهرة فعشت فى « طوكيو » .. وحرام أن تظلم القاهرة فى هذه الأيام ، لأنها تمر بمحنة سوء الإدارة .. ومن هذه النازلة تتفرع جميع المساوئ .. سقطت بعض العمارات العالية فى القاهرة ، والذى شيد البناء ساقط . وكل من كان له اتصال بهذا العمل ساقط .. سقطت هذه العمارات ، ولكن لم تسقط الأهرامات التى شيدت منذ آلاف السنين لم يسقط منها حجر واحد .. ولم تسقط قلعة صلاح الدين .. ولم يسقط القضاء العالى .. سيظل شامخًا لأنه فخر مصر .. ورمز مصر الحضارة ، وحصن مصر الأمين .
حرام أن تقارنها بطوكيو مع التشابه الكبير فى عدد السكان .. وعدد الرءوس التى تتحرك فى الشوارع والميادين .. حرام على قاهرة المعز الشامخة بنيلها العظيم .. وبكل مأَذنها ، وقبابها .. وبهجة أنوارها .. حرام أن تقارنها بطوكيو لأن قاهرة المعز .. غشاوة فى هذه الأيام وبعد أن تنجلى هذه الغشاوة .. قارن ما شئت وقارن .
التقيت بالطبيب اليابانى تاشيو فى مدينة « هانشو » بالصين فى المستشفى الضخم الذى يعالج جميع المرضى بغير عقاقير .. وتحدثنا عن فعل الطبيعة فى جسم الإنسان .. وعن الأفذاذ من الأطباء الذين برزوا فى هذا المجال .. ولما علم بإعزازى « بأكفادن » قربنى إليه أكثر ، ودعانى إلى زيارته فى المستشفى الذى يعمل فيه بمدينة « طوكيو » ..
ووجدته فى انتظارى على باب المستشفى .. ومعه طبيب فى مقتبل العمر فى مثل سنى ، خصصه ليتجول معى فى أرجاء المستشفى لأنه فى يوم راحته ويتقن الإنجليزية ..
وطالعنى وأنا داخل إلى أجنحة المستشفى السكوت المطبق ، ودقة النظام ، واستعمال كل وسائل العلم فى كل خطوة .. ومراعاة خبايا النفس البشرية ومتطلباتها ، فالإضاءة مختلفة فى كل جناح .. وكذلك الممرضة والطبيبة .. فهن مختلفات فى الزى والسلوك ودرجة الجمال ..
وقال لى الطبيب المرافق بعد جولة استغرقت ساعة :
ــ حدثنى الدكتور تاشيو .. برغبتك فى تحليل الدم ..
ــ نعم .. وأرجو هذا ..
ودخلنا فى جناح طويل بلون البنفسج كل ما فيه يلمع .. وقدمنى المرافق إلى طبيبة شابة ..
وخلعت معطفى الأبيض المعقم وجاكتتى وقميصى .. وأسلمت لها ذراعى ..
فقالت برقة :
ــ سنأخذ الدم مرتين .. وبين كل مرة زمن ..
ولاحظت وهى تمسك براحتى أن ظفر الإصبع السبابة .. مهروس ..
فقالت وهى منكسة رأسها :
ــ هناك ظفر جديد ينمو مكان هذا .. انظر ..
فقلت وأنا مأخوذ بعظمة الخالق !
ــ سبحان الخلاق العظيم .. إننا بكل علمنا وتقدمنا فى الطب والجراحة ، والفلك والدوران حول الأرض والصعود إلى القمر .. لا نستطيع أن نخلق مثل هذا الظفر .. وهو أضأل شىء فى جسم الإنسان ..
ــ هذا حق .. فلماذا يشمخ الإنسان بأنفه ويتكبر !!
وقالت وهى تضم ذراعى دون أن تنظر إلى وجهى :
ــ وحدك فى طوكيو .. ؟
ــ نعم ..
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ رائع .. هناك الفتيات الجميلات يعملن فى كل الطوابق .. !
ــ ولكنهن ينصرفن فى الليل .. بعد العاشرة !
ــ ويعدن لإيقاظك فى الصباح .. فغيابهن قصير .. !
ــ ولكنى مشغول بعملى إلى درجة تفقدنى كل تسلية ..
ــ مهما يكن عملك .. ولكن خسارة أن تكون بطوكيو .. ولا ترى قصر الإمبراطور .. ولا ترى « جنزا » فى الليل .. ولا تزور « فوجى » ..
ــ زرت هذا كله فى المرة السابقة ..
ــ إذن فقد جئت إلى هنا من قبل .. ؟
ــ نعم ..
ــ لا شك أنك تحب المدينة .. وإلا ما كررت الزيارة ..
وابتسمت بوداعة .. ووضعت عينة الدم مع بطاقة صغيرة باسمى وسنى فى طاقة مستديرة .. ونزل كل شىء بشريط كهربائى إلى المعمل .. وجاءت فتاة أخرى أصرت على أن تساعدنى فى لبس ما خلعته من ملابسى .. وقادتنى إلى حيث يوجد الدكتور .. تاشيو ..
وفى مكتب الدكتور تاشيو .. قال لى ..
ــ سنشاهد معًا .. بعد ربع ساعة عملية تدليك للقلب فى الجناح 21 .. وسيقوم الدكتور هيكامو بعملية فى الكلية .. ويمكنك أن تشاهد هذه العملية على شاشة التليفزيون ..
ــ قد أكتفى بعملية تدليك القلب .. لأن عملية الكلية لا يتسع لها وقتى..
ــ كما تحب .. ويمكنك الاكتفاء بعملية الإعداد للعملية الثانية ، وترى كيف تجهز الغرفة ، وفى هذا فائدة كبيرة لك ..
ــ شكرًا عظيمًا .. يا دكتور لكل أريحيتك وسماحة نفسك واهتمامك ..
وكان مريض القلب سمينًا متوسط القامة ، ويبدو فى الخمسين من عمره .. ولم تكن ملامح وجهه يابانية وإن كان ينطقها ..
ومده على طاولة بيضاء بذراعين ، وهو شبه ميت ، وحوله ثلاثة من الأطباء.. وكانت الأنوار فى زرقة ، وفى الغرفة رائحة أشبه برائحة البنفسج .
ووقفت أنا والدكتور تاشيو فى جانب .. وبدأ مسح الجسم بخفة من يد طبيب شاب ، قصير القامة ، هادئ الملامح والطباع .. ثم قامت طبيبة بعملية تدليك القلب .. ببراعة وسرعة .. وخيل إلىّ من سرعة يدها أنها أخرجت مضخة القلب فى يدها ثم ردتها ..
وتنفس المريض وعادت عيناه تسبحان فى الزرقة .. وأمسكت ممرضة برسغة وجست نبضه ..
وخرجنا إلى بهو جميل التنسيق مزهر .. وقدمنى الدكتور تاشيو إلى الطبيبة التى قامت بالعملية فهنأتها بحرارة ..
وسألتها :
ــ هل كل العمليات ناجحة يا دكتورة .. ؟
ــ بالطبع .. إذا كانت للمريض رغبة فى الحياة !
ــ وإذا لم تكن عنده الرغبة .. ؟
ــ لا فائدة من الطب إطلاقًا ..
ــ ما أعظم حكمتك !
وأصرت على أن تقدم لنا الشاى والفطير .. فى صالة المستشفى العلوية ..
ولاحظت من الوجوه التى التقيت بها فى المستشفى والشارع أن اليابانى سيظل يابانيًا فى خلقه وطباعه وسلوكه العام والخاص .. وأنه لا يختلط بأحد.. ولا يحب الاختلاط بالغريب .. وفى طبعه التفرد .. وهو جم التهذيب وسريع الابتكار والحركة ، كما أنه سريع التحول .. وهو ينحنى لك ثلاث مرات إذا أسمعته كلمة حلوة .. ولكن إذا أغضبته وأهنته طعنك بالسونكى .. والمرأة لاتزال تلبس الكومينو .. وتنحنى فى الشارع للسيدة الأكبر منها سنًا .. وتحمل طفلها على ظهرها بطريقة بديعة .. وتتحدث بصوت ناعم كزقزقة العصافير .. وكعاملة فى المتاجر الكبرى ، والفنادق ، والمطاعم ، وقاعات الشاى تسيل رقة وعذوبة .. وكأنها تخرجت فى مدرسة أعدتها لذلك العمل..
وتمشى الوجى فى الطريق .. يعنى بخطوات قصيرة .. كظاهرة مميزة على النعومة والرقة ، وهما من متطلبات الأنثى ..
ولكنك تشاهد إلى جانب هذه من تلبس الزى الأوربى الخالص .. وتقود السيارة بسرعة 100 كيلو فى الساعة .. والجيل الحديث كله من النساء والرجال يتحدث الإنجليزية .. أما كبار السن فندر منهم من يعرفها .. إلا إذا كان يشتغل بالتدريس ومن أساتذة الجامعات .
وشكرت الدكتور تاشيو .. واستأذنت فى الانصراف ..
فقال لى الدكتور :
ــ أتعرف الطريق إلى الفندق .. ؟
ــ نعم .. لقد جئت وحدى ..
ــ إذا اختلطت عليك المعالم فى الليل .. نستطيع أن نرافقك ..
ــ شكرًا .. طوكيو ليست غريبة علىّ .. أعرفها كما أعرف القاهرة .. وسأركب المترو .. وسينزلنى فى شمباسى ..
ــ نعم .. المترو أحسن من التاكس .. لأن المسافة طويلة ..
وسلمت على الجميع .. واتخذت الطريق إلى المترو .. والليل زحف وخيم .. وسماء طوكيو تموج بالبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء ، وهى تتلألأ وتسطع فى كل مكان .. وأينما ترفع رأسك تشاهدها تتراقص .
لم تتغير طوكيو عما شاهدته منذ سنوات .. سوى أن العمارات الحديثة انطلقت إلى عنان السماء .. وكثر هذا فى قلب طوكيو .. ولا تزال فى أطراف المدينة المنازل الخشبية القديمة من طابقين ومن طابق واحد .. وهنا يبرز الكومينو فى الطريق والبيت .. ويعد أجمل اجتماع على شرب الشاى ..
المستشفى يقع فى حى هادئ وعلى طريق جانبى ، ولكن لما خرجت منه إلى الطريق العام شعرت بحركة المرور السريعة .. كان المارة يتحركون بسرعة عجيبة ويهبطون من الأفاريز إلى الأنفاق ..
ونزلت درجات قليلة إلى نفق المترو .. ولم يكن فى المحطة أكثر من عشرة أشخاص من الرجال والنساء .. وعللت ذلك بكثرة القطارات التى تمر .
وركبت أول قطار قادم .. ويبدو أنه أحدث القطر التى سيروها على الخط.. فقد كان متأنقًا متألقًا وفخمًا .. ومقاعد العربة من القطيفة الزرقاء ، صفت فى صفين .. المقعد المفرد .. ومن هو على شكل كنبة طويلة .. فاخترت المفرد .. ولم يشعر بدخولى الركاب .. لانشغالهم بحالهم .. وللسكون المطبق على العربة .. وفى المحطة التالية ركبت جماعة امتلأت بهم المماشى .. وما جلسوا حتى عاد السكون .. وبرز راكب واحد من بين ركاب العربة جميعًا .. أحس بوجوده كافة الركاب .. فقد تمدد على كنبة طويلة شغلها وحده .. ومد حذاءه فى وجه الركاب جميعًا .. وبدأ يهذى بصوت عال .. وبكلمات غير مفهومة .. كان فى أقصى حالات السكر .. ويرتدى بنطلونًا غامقًا وصدارًا من الصوف فى لونه .. وكان فى قامة اليابانيين .. ولكنه ممتلئ الجسم بادى العضلات كأنه صب فى قالب صبًا ، وخرج على هذا الطراز المتماسك .
وظل يهذى والعينان تقدحان بالشرر وفى جلسته وكلامه وقاحة .. وعجبت لمقابلته بالصمت والسكوت من الجالسين حوله .. وليس من طباع اليابانى الجبن ولا الاستكانة .. فهو أشجع خلق اللّه .. ويهزأ بالموت ، والحياة عنده رخيصة ، ويستهين بنفسه فى لحظات كدرت عليه الحياة وضاق بها ..
شاهدت مثل هذه العربة وهذا المخمور فى فيلم أمريكى .. وقابله الجالسون فى العربة الأمريكية بالصمت الأخرس الذى طال .. ودعا إلى الضجر والنفور والتقزز .. ثم تحرك جندى معوق فى العربة وأسكت هذا المخمور إلى الأبد .
فهل يحدث مثل هذا الآن فى العربة اليابانية التى أركبها .. ؟ حدث أن قال المخمور اليابانى كلامًا أضحك فتاة كانت تجلس إلى مقعد بجانب مقعدى.. فلانت ملامحى لضحكتها .. وضحكت مثلها ..
وانتصب المخمور وهو لا يكاد يتماسك واتجه إلينا وفى عينيه يقدح الشرر الضارى ويبرز الجنون الأعمى ..
وقبل أن يصل إلى الفتاة .. أدركته يد قوية من جالس طرحته أرضًا ..
وكان القطار فى هذه اللحظة يهدئ من سرعته وهو داخل المحطة ، وعندما فتح الباب وتوقف القطار طرح اثنان من الركاب بالمخمور وألقياه على الرصيف .
حدث كل هذا فى خطف البرق وسرعة عجيبة حتى إن نصف ركاب العربة لم يشعروا بالذى جرى ..
وتحرك .. وبدت الأنوار القوية تلمع فى الشوارع وفى سقف العربة ، والكل فى سكون .. وخفت من هذا السكون .. وخشيت أن يكون هذا القطار من الطراز الذى يتحرك من غير سائق .. فأنا منذ ركبت لم أر وجه سائق ولا سحنة كمسارى . واستقر رأيى على النزول فى أول محطة يقف فيها القطار ..
ونزلت والليل من حولى كله ضياء ، والجو رائع منعش .. والبالونات تسبح فى السماء من كل الألوان وكل الأحجام ..
ولزمت الرصيف الطويل متجهًا إلى الوجهة التى أتصور فيها الفندق .. وكلما قابلنى عابر سألته عن الفندق ، وجدته بالمصادفة لا يعرف الإنجليزية .. وتكرر ذلك وأنا أسير فى اتجاه واحد ثم أصبحت أدور وألف وحدى .. وأصبحت المفرد تحت البالونات .. فهل خلت المدينة التى يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين من سكانها ومن البوليس .. وهل قادتنى قدماى إلى ضاحية ساكنة جامدة مهجورة من ضواحى طوكيو .. وأنا لا أدرى .. ؟
وشعرت بالخوف يشل حركتى .. وفى مثل خطف البرق لمحت عربة متوسطة من عربات السياحة اليابانية التى يعمل مثلها فى المطار .. فاستوقفتها صارخًا بالإنجليزية .. فوقفت وسألت عن الفندق ..
فقال الراكب الذى بجوار السائق :
ــ انزل واركب المترو .. خمس محطات .. !
وشكرته وأنا شاعر بالغيظ ..
واستأنفت السير وأنا أقول لنفسى ما أشد حماقة الإنسان .. لماذا لا أركب تأكسيًا وأتخلص من هذا الضيق . والمسافة ليست بالبعد الذى أتصوره فالبالونات لا تزال تتموج فوق رأسى والبالونات كلها فى قلب « جنزا » والفندق فى طرف من جنزا .. فلماذا الهلع .. ؟
وتخطيت الشارع وقد عاد إلى قلبى وبصرى الهدى .. لأشير إلى أول تاكسى يمر .. وفيما أنا أهم بذلك لمحت ضوءًا صغيرًا من لافتة تشير إلى «نزل». لافتة بالإنجليزية مضاءة بحروف صغيرة جدًا تتجاوزها العينان فى الليل .. ولكنى قرأتها بقلبى وبصيرتى ..
واتجهت إليها وقلبى يزداد وجيبه لشعور لا أعرف كنهه ..
وطالعنى وأنا أجتاز ممر الحديقة المعشب ، بسكون جامد ، حتى تصورت أن ليس بالنزل أحد .. ووجدت على كرسى بجانب الباب المغلق شيخًا يابانيًا.. أفسح لى الطريق بعد أن قرع جرس الباب ، وأدركت من زيه وعمله أنه خفير النزل ..
وخلعت حذائى ومشيت تحت الأنوار الخافتة على طرقة مفروشة بالحصر المضفر الملون .. إلى حيث توجد فتاة فى لباس الكومينو .. جالسة على حشية مزركشة ، وبجانبها طاولة ورفوف من الخشب .. وحييتها وأنا أقدم لها جواز السفر .. صامتًا .. مستغربًا .. محدقًا فى وجهها ببلاهة .. أخذتنى الرجفة ..
وسمعتها تقول بإنجليزية سليمة :
ــ لا داعى لجواز السفر .. هنا نزل خاص ويكفى أن تدون اسمك وعنوانك فى هذه البطاقة .
ودونت ما طلبته وأنا أحدق فى وجهها وأزداد تحديقًا واستغرابًا .. وسلمتها البطاقة .. فقرأت ما فيها ..
وقالت .. بصوت عال ..
ــ طبيب ..
ــ وكأنها سرت لأنى طبيب .. وأحمل هذه المهنة ..
وقلت :
ــ نعم .. وأنا قادم من مستشفى الدكتور تاشيو .. ورأيت هناك طبيبة تشبهك تمامًا .. شبهًا يدير العقل .. بل أنت فى الواقع .. التى كانت هناك .. وهذا ما جعلنى فى شبه ذهول ..
ــ أنا .. أنا ما برحت هذا المكان .. وعملى فى هذا النزل فقط ..
ــ ألك توأم .. ؟
ــ أبدًا ..
وضحكت من قلب طروب ..
وقلت وأنا أضحك أيضًا ..
ــ إن هذا لعجيب وهذه ليلة العجائب ..
ــ أهذه أول ليلة لك فى طوكيو .. ؟
ــ لا .. نزلت طوكيو منذ عشرة أيام .. وأقيم فى فندق دايتشى .. وحدث أن ضللت الطريق إلى الفندق ، وأنا راجع وحدى من المستشفى .. وهدانى قلبى إلى هذا المكان .. لأقضى فيه ليلة .. بدلاً من الدوران بالتاكسى..
ــ جميل أن تستدل علينا فى الليل دون دليل .. لأن اللافتة الخاصة بالنزل مكتوبة بحروف دقيقة لا تكاد تقرأ .. !
ــ هذا من حسن حظى ..
ــ والآن .. سأريك الغرفة ..
وسارت أمامى فى طرقة مستديرة مزينة بالأصص والورود والزخارف اليابانية .. وعلى الجانبين حجرات منها الصغير والكبير ، تقسم بأبواب خشبية متحركة حسب الرغبة ..
وقالت تشير إلى غرفة وصلنا إلى بابها :
ــ اخترت لك هذه الغرفة ..
وأرتنى غرفة جميلة مفروشة بالحصر والحشيات والمساند .
ــ لا توجد أسرة فى نزلنا وستنام على الحصير !
ــ لقد نمت على الحصير مع جدتى فوق سطح بيتنا .. أعوامًا طويلة .. فهى ليست غريبة على مثلى ..
ونظرت بتأمل ثم قالت :
ــ سأجىء لك بقميص .. فليس معك بيجامة !
ــ شكرًا .. وأستطيع أن أنام بالبنطلون والقميص .
وأزاحت بابًا جانبيًا صغيرًا .. وهى تقول بزهو لأنها تعرف أن ما تقوله يسر كل مسافر ..
ــ والحمام داخل الغرفة ..
ورأيت المناشف والمرايا والنظافة والأناقة ..
وسألتها وأنا أحدق فى البانيو الصغير الحجم .. وهو معد قطعًا للمرأة قبل الرجل ..
ــ سمعت أن المرأة اليابانية تستحم كثيرًا .. فكم مرة فى اليوم ..
ــ ثلاث وأربع مرات .. !
ــ ثلاث وأربع مرات .. وليس عندكن النيل مثلنا .. وإذا وجد النيل فكم مرة .. ؟
ــ ولا مرة .. !!
وضحكنا كثيرًا .. لأن هذا ما يحدث فعلاً ..
وسألت : أتعشيت .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ سنعد لك العشاء ..
ودلتنى على مائدة الطعام ..
ــ أتحب أن تتعشى الآن .. ؟
ــ الأحسن بعد ساعة .. لأنى أكلت فطيرًا مع الشاى فى المستشفى ..
ــ كما تحب ..
وتحركنا فى الطريق إلى الأمام .. لترينى حديقة « النزل » ومرت بنا عاملة وهى تمسح عبراتها .. وسألتها مرافقتى بالإنجليزية :
ــ ما الخبر .. ؟
فردت هذه اليابانية وهى تشهق حابسة عبراتها .. واجتازتنا مسرعة فسألت مرافقتى فى خجل :
ــ ما الذى جرى .. ؟
ــ فتاة من العاملات فى النزل ماتت .. مع أن الطبيب كان عندها منذ ساعة وطمأنها .
ــ ما الذى كانت تشكو منه .. ؟
ــ أشياء كثيرة .. عدة أمراض ..
ــ أمتزوجة .. ؟
ــ أبدًا .
ــ هل أستطيع أن أراها .. ؟
سأقول لماما .. وماما .. صاحبة النزل لأن بابا ميت ..
وجلسنا فى البهو على الحشيات .. وجاءت ماما سريعًا ، تلبس البياض فى بياض .. لأنها بيضاء فى قمة رأسها وما لفته حول عنقها .. وتدثرت به حتى قدميها .. وطالعتنى بوجهها السمين ، وبعينيها الساكنتين .. وكان معها شيخ يابانى جلس صامتًا يحدق فى وجهى .. ولم يقدمه لى أحد .. فأدركت أنه من أقربائهن ..
ولم يطل الصمت .. حدثت الفتاة أمها برغبتى .. وتحركنا جميعًا إلى غرفة الميتة ..
ودخلت وهم حولى وركعت على الأرض بجانب الميتة .. لأنها كانت مطروحة على خشية .. وتبدو صفراء ذابلة كأجمل الورود .
ورفعت رأسى وأشرت إلى النافذة .. وهم يتفرسون باستغراب وفضول .
ونظرت إلى عينى الميتة وحركت الجفن .. ورأيت فى الشعيرات الدقيقة للعين الحياة .. الحياة ..
وقلت لمن حولى بزهو :
ــ إنها لم تمت ..
وخرجت من الجموع الواقفة همهمة عالية ، وصرخة عفوية مكتومة ، مع كل ما هم عليه من تهذيب ورقىّ .
وتحولت سريعًا إلى الفتاة مرافقتى وقلت لها :
ــ استدعى طبيبها أو أى طبيب يابانى حالاً ..
ــ وأنت .. !!
ــ أنا لا أستطيع أن أزاول المهنة هنا .. من غير تصريح ..
ــ أرجوك يا دكتور « حسن » أن تنقذها .. لعنة اللّه على التصريح .. إن حياة هذه المسكينة على يديك ..
ــ سأشترك مع الطبيب اليابانى عندما يجىء .. فلا تراعى ..
وكنت أعرف أن الطبيب فى اليابان يأتى فى زمن يقل عن ثلاث دقائق .. وأقل من هذا الزمن يأتى الإسعاف والبوليس .. ولذلك لم أشعر بالقلق على المريضة ولم يؤنبنى ضميرى .. لأنى تركتها من غير علاج بعد أن عرفت أنها حية ..
وجاء طبيبها وقدمونى له .. وحدثته على عجل .. وأصبحت أنا وهو والسيدة الكبيرة والفتاة مرافقتى داخل الغرفة وخرج الجميع وأغلقنا الباب .
وكشفت الفتاة عن صدر زميلتها .. وشعرت بالخجل وأنا أرى هذا الجمال الأسر .. سبحان من أعطى المرأة اليابانية كل هذه النعومة وهذه الأنوثة وهذه الفتنة وسلبها من الرجل .
وقفت خجلاً مبهورًا والفتاة تكشف فتنة الأنثى فى منبع الأمومة والرضاعة والحنان .
كان الطبيب اليابانى يرغب فى إعطائها حقنة فاعترضت بأدب .. وقلت له :
ــ إنها الآن فى حاجة سريعة إلى تدليك أولاً .. وبعد ذلك تأتى الأدوية والحقن ..
وأخذ الطبيب بوجهة نظرى وانحنى عليها وأخذ يدلك قلبها .. ونظرت المرافقة إلى ناحيتى .. فابتسمت وأدركت غرضها ..
وقلت للطبيب اليابانى بأدب :
ــ هل تسمح لى بمساعدتك يا دكتور .. !
فتنحى جانبًا ..
وركعت بجانب الميتة .. وحدقت فى عينيها .. ووضعت خدى على قلبها .. ولمست يداى صدرها .. وأخذت أدلك فى نعومة ودقة.. ولأول مرة أنسى نفسى وأضع فمى على فمها وأنفخ فيه بحرارة .. وشعرت بشرايين الحياة .
وفتحت المريضة عينيها بثقل .
وفى غمرة الفرح بنجاة الفتاة طوقنى الطبيب اليابانى وكل من كان فى داخل الغرفة .
وقلت للطبيب :
ــ إن هذه الخبرة تعلمتها منكم والدكتور تاشيو هو أستاذى وأنا فخور به كأستاذ .
وأحنى رأسه محييًا .. ورأيت أن يبقى هو بجانب المريضة ، ويعطيها ما يشاء من الأدوية .
وقادتنى المرافقة إلى غرفة الطعام .. وهى تطير من الفرحة ..
وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..
وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..
وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .
وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .
وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .
واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .
وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
ــ بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
ــ وإذا مشيت .. ؟
ــ تصل صباح الأربعاء ..
وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
ــ وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
ــ أريد أن أرى السفينة ..
ــ أية سفينة .. ؟
ــ السفينة الراسية على شط جنزا ..
ــ غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
ــ وركابها .. ؟
ــ غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
ــ ولكنهما التقيا ..
ــ أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
ــ قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
ــ أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
ــ اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
ــ لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
ــ ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
ــ أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..
وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..
وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .
ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .
وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
ــ أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..
وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
ــ وبكم المشاهدة .. ؟
ــ الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..
ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
ــ إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
ــ ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .
وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..
وسألتنى :
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..
وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..
وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..
بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .
وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..
وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..
وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
ــ أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
ــ سأذهب معك ..
وحاولت أن أقول شيئًا ..
ــ لا تفتح فمك ..
وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..
وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..
ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .
وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .
قالت بظل ابتسامة :
ــ تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
ــ أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
ــ سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
ــ ما عمله .. ؟
ــ إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .
لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
ــ وابنك .. كبير .. ؟
ــ عمره ست سنوات
وأحسست بالأرض تدور
ــ أحب أن أراه .
فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
ــ أمعك صورة له ..!
ــ معى ..
ــ أرينيها .. أرجوك ..
ــ أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..
وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..
===============================
نشرت القصة بصحيفة أخبار اليوم 30/6/1984 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص من اليابان 2001 من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
قصة محمود البدوى
قال الكاتب الأمريكى توماس وولف : إذا أردت أن تعرف « نيويورك » فعش فى باريس ، وفى هذا القول اجتمعت كل الحقيقة .. من المدائن والناس..
وأردت أنا ( والقياس مع الفارق بينى وبين الروائى العظيم ) .. أن أعرف القاهرة فعشت فى « طوكيو » .. وحرام أن تظلم القاهرة فى هذه الأيام ، لأنها تمر بمحنة سوء الإدارة .. ومن هذه النازلة تتفرع جميع المساوئ .. سقطت بعض العمارات العالية فى القاهرة ، والذى شيد البناء ساقط . وكل من كان له اتصال بهذا العمل ساقط .. سقطت هذه العمارات ، ولكن لم تسقط الأهرامات التى شيدت منذ آلاف السنين لم يسقط منها حجر واحد .. ولم تسقط قلعة صلاح الدين .. ولم يسقط القضاء العالى .. سيظل شامخًا لأنه فخر مصر .. ورمز مصر الحضارة ، وحصن مصر الأمين .
حرام أن تقارنها بطوكيو مع التشابه الكبير فى عدد السكان .. وعدد الرءوس التى تتحرك فى الشوارع والميادين .. حرام على قاهرة المعز الشامخة بنيلها العظيم .. وبكل مأَذنها ، وقبابها .. وبهجة أنوارها .. حرام أن تقارنها بطوكيو لأن قاهرة المعز .. غشاوة فى هذه الأيام وبعد أن تنجلى هذه الغشاوة .. قارن ما شئت وقارن .
التقيت بالطبيب اليابانى تاشيو فى مدينة « هانشو » بالصين فى المستشفى الضخم الذى يعالج جميع المرضى بغير عقاقير .. وتحدثنا عن فعل الطبيعة فى جسم الإنسان .. وعن الأفذاذ من الأطباء الذين برزوا فى هذا المجال .. ولما علم بإعزازى « بأكفادن » قربنى إليه أكثر ، ودعانى إلى زيارته فى المستشفى الذى يعمل فيه بمدينة « طوكيو » ..
ووجدته فى انتظارى على باب المستشفى .. ومعه طبيب فى مقتبل العمر فى مثل سنى ، خصصه ليتجول معى فى أرجاء المستشفى لأنه فى يوم راحته ويتقن الإنجليزية ..
وطالعنى وأنا داخل إلى أجنحة المستشفى السكوت المطبق ، ودقة النظام ، واستعمال كل وسائل العلم فى كل خطوة .. ومراعاة خبايا النفس البشرية ومتطلباتها ، فالإضاءة مختلفة فى كل جناح .. وكذلك الممرضة والطبيبة .. فهن مختلفات فى الزى والسلوك ودرجة الجمال ..
وقال لى الطبيب المرافق بعد جولة استغرقت ساعة :
ــ حدثنى الدكتور تاشيو .. برغبتك فى تحليل الدم ..
ــ نعم .. وأرجو هذا ..
ودخلنا فى جناح طويل بلون البنفسج كل ما فيه يلمع .. وقدمنى المرافق إلى طبيبة شابة ..
وخلعت معطفى الأبيض المعقم وجاكتتى وقميصى .. وأسلمت لها ذراعى ..
فقالت برقة :
ــ سنأخذ الدم مرتين .. وبين كل مرة زمن ..
ولاحظت وهى تمسك براحتى أن ظفر الإصبع السبابة .. مهروس ..
فقالت وهى منكسة رأسها :
ــ هناك ظفر جديد ينمو مكان هذا .. انظر ..
فقلت وأنا مأخوذ بعظمة الخالق !
ــ سبحان الخلاق العظيم .. إننا بكل علمنا وتقدمنا فى الطب والجراحة ، والفلك والدوران حول الأرض والصعود إلى القمر .. لا نستطيع أن نخلق مثل هذا الظفر .. وهو أضأل شىء فى جسم الإنسان ..
ــ هذا حق .. فلماذا يشمخ الإنسان بأنفه ويتكبر !!
وقالت وهى تضم ذراعى دون أن تنظر إلى وجهى :
ــ وحدك فى طوكيو .. ؟
ــ نعم ..
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ رائع .. هناك الفتيات الجميلات يعملن فى كل الطوابق .. !
ــ ولكنهن ينصرفن فى الليل .. بعد العاشرة !
ــ ويعدن لإيقاظك فى الصباح .. فغيابهن قصير .. !
ــ ولكنى مشغول بعملى إلى درجة تفقدنى كل تسلية ..
ــ مهما يكن عملك .. ولكن خسارة أن تكون بطوكيو .. ولا ترى قصر الإمبراطور .. ولا ترى « جنزا » فى الليل .. ولا تزور « فوجى » ..
ــ زرت هذا كله فى المرة السابقة ..
ــ إذن فقد جئت إلى هنا من قبل .. ؟
ــ نعم ..
ــ لا شك أنك تحب المدينة .. وإلا ما كررت الزيارة ..
وابتسمت بوداعة .. ووضعت عينة الدم مع بطاقة صغيرة باسمى وسنى فى طاقة مستديرة .. ونزل كل شىء بشريط كهربائى إلى المعمل .. وجاءت فتاة أخرى أصرت على أن تساعدنى فى لبس ما خلعته من ملابسى .. وقادتنى إلى حيث يوجد الدكتور .. تاشيو ..
وفى مكتب الدكتور تاشيو .. قال لى ..
ــ سنشاهد معًا .. بعد ربع ساعة عملية تدليك للقلب فى الجناح 21 .. وسيقوم الدكتور هيكامو بعملية فى الكلية .. ويمكنك أن تشاهد هذه العملية على شاشة التليفزيون ..
ــ قد أكتفى بعملية تدليك القلب .. لأن عملية الكلية لا يتسع لها وقتى..
ــ كما تحب .. ويمكنك الاكتفاء بعملية الإعداد للعملية الثانية ، وترى كيف تجهز الغرفة ، وفى هذا فائدة كبيرة لك ..
ــ شكرًا عظيمًا .. يا دكتور لكل أريحيتك وسماحة نفسك واهتمامك ..
وكان مريض القلب سمينًا متوسط القامة ، ويبدو فى الخمسين من عمره .. ولم تكن ملامح وجهه يابانية وإن كان ينطقها ..
ومده على طاولة بيضاء بذراعين ، وهو شبه ميت ، وحوله ثلاثة من الأطباء.. وكانت الأنوار فى زرقة ، وفى الغرفة رائحة أشبه برائحة البنفسج .
ووقفت أنا والدكتور تاشيو فى جانب .. وبدأ مسح الجسم بخفة من يد طبيب شاب ، قصير القامة ، هادئ الملامح والطباع .. ثم قامت طبيبة بعملية تدليك القلب .. ببراعة وسرعة .. وخيل إلىّ من سرعة يدها أنها أخرجت مضخة القلب فى يدها ثم ردتها ..
وتنفس المريض وعادت عيناه تسبحان فى الزرقة .. وأمسكت ممرضة برسغة وجست نبضه ..
وخرجنا إلى بهو جميل التنسيق مزهر .. وقدمنى الدكتور تاشيو إلى الطبيبة التى قامت بالعملية فهنأتها بحرارة ..
وسألتها :
ــ هل كل العمليات ناجحة يا دكتورة .. ؟
ــ بالطبع .. إذا كانت للمريض رغبة فى الحياة !
ــ وإذا لم تكن عنده الرغبة .. ؟
ــ لا فائدة من الطب إطلاقًا ..
ــ ما أعظم حكمتك !
وأصرت على أن تقدم لنا الشاى والفطير .. فى صالة المستشفى العلوية ..
ولاحظت من الوجوه التى التقيت بها فى المستشفى والشارع أن اليابانى سيظل يابانيًا فى خلقه وطباعه وسلوكه العام والخاص .. وأنه لا يختلط بأحد.. ولا يحب الاختلاط بالغريب .. وفى طبعه التفرد .. وهو جم التهذيب وسريع الابتكار والحركة ، كما أنه سريع التحول .. وهو ينحنى لك ثلاث مرات إذا أسمعته كلمة حلوة .. ولكن إذا أغضبته وأهنته طعنك بالسونكى .. والمرأة لاتزال تلبس الكومينو .. وتنحنى فى الشارع للسيدة الأكبر منها سنًا .. وتحمل طفلها على ظهرها بطريقة بديعة .. وتتحدث بصوت ناعم كزقزقة العصافير .. وكعاملة فى المتاجر الكبرى ، والفنادق ، والمطاعم ، وقاعات الشاى تسيل رقة وعذوبة .. وكأنها تخرجت فى مدرسة أعدتها لذلك العمل..
وتمشى الوجى فى الطريق .. يعنى بخطوات قصيرة .. كظاهرة مميزة على النعومة والرقة ، وهما من متطلبات الأنثى ..
ولكنك تشاهد إلى جانب هذه من تلبس الزى الأوربى الخالص .. وتقود السيارة بسرعة 100 كيلو فى الساعة .. والجيل الحديث كله من النساء والرجال يتحدث الإنجليزية .. أما كبار السن فندر منهم من يعرفها .. إلا إذا كان يشتغل بالتدريس ومن أساتذة الجامعات .
وشكرت الدكتور تاشيو .. واستأذنت فى الانصراف ..
فقال لى الدكتور :
ــ أتعرف الطريق إلى الفندق .. ؟
ــ نعم .. لقد جئت وحدى ..
ــ إذا اختلطت عليك المعالم فى الليل .. نستطيع أن نرافقك ..
ــ شكرًا .. طوكيو ليست غريبة علىّ .. أعرفها كما أعرف القاهرة .. وسأركب المترو .. وسينزلنى فى شمباسى ..
ــ نعم .. المترو أحسن من التاكس .. لأن المسافة طويلة ..
وسلمت على الجميع .. واتخذت الطريق إلى المترو .. والليل زحف وخيم .. وسماء طوكيو تموج بالبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء ، وهى تتلألأ وتسطع فى كل مكان .. وأينما ترفع رأسك تشاهدها تتراقص .
لم تتغير طوكيو عما شاهدته منذ سنوات .. سوى أن العمارات الحديثة انطلقت إلى عنان السماء .. وكثر هذا فى قلب طوكيو .. ولا تزال فى أطراف المدينة المنازل الخشبية القديمة من طابقين ومن طابق واحد .. وهنا يبرز الكومينو فى الطريق والبيت .. ويعد أجمل اجتماع على شرب الشاى ..
المستشفى يقع فى حى هادئ وعلى طريق جانبى ، ولكن لما خرجت منه إلى الطريق العام شعرت بحركة المرور السريعة .. كان المارة يتحركون بسرعة عجيبة ويهبطون من الأفاريز إلى الأنفاق ..
ونزلت درجات قليلة إلى نفق المترو .. ولم يكن فى المحطة أكثر من عشرة أشخاص من الرجال والنساء .. وعللت ذلك بكثرة القطارات التى تمر .
وركبت أول قطار قادم .. ويبدو أنه أحدث القطر التى سيروها على الخط.. فقد كان متأنقًا متألقًا وفخمًا .. ومقاعد العربة من القطيفة الزرقاء ، صفت فى صفين .. المقعد المفرد .. ومن هو على شكل كنبة طويلة .. فاخترت المفرد .. ولم يشعر بدخولى الركاب .. لانشغالهم بحالهم .. وللسكون المطبق على العربة .. وفى المحطة التالية ركبت جماعة امتلأت بهم المماشى .. وما جلسوا حتى عاد السكون .. وبرز راكب واحد من بين ركاب العربة جميعًا .. أحس بوجوده كافة الركاب .. فقد تمدد على كنبة طويلة شغلها وحده .. ومد حذاءه فى وجه الركاب جميعًا .. وبدأ يهذى بصوت عال .. وبكلمات غير مفهومة .. كان فى أقصى حالات السكر .. ويرتدى بنطلونًا غامقًا وصدارًا من الصوف فى لونه .. وكان فى قامة اليابانيين .. ولكنه ممتلئ الجسم بادى العضلات كأنه صب فى قالب صبًا ، وخرج على هذا الطراز المتماسك .
وظل يهذى والعينان تقدحان بالشرر وفى جلسته وكلامه وقاحة .. وعجبت لمقابلته بالصمت والسكوت من الجالسين حوله .. وليس من طباع اليابانى الجبن ولا الاستكانة .. فهو أشجع خلق اللّه .. ويهزأ بالموت ، والحياة عنده رخيصة ، ويستهين بنفسه فى لحظات كدرت عليه الحياة وضاق بها ..
شاهدت مثل هذه العربة وهذا المخمور فى فيلم أمريكى .. وقابله الجالسون فى العربة الأمريكية بالصمت الأخرس الذى طال .. ودعا إلى الضجر والنفور والتقزز .. ثم تحرك جندى معوق فى العربة وأسكت هذا المخمور إلى الأبد .
فهل يحدث مثل هذا الآن فى العربة اليابانية التى أركبها .. ؟ حدث أن قال المخمور اليابانى كلامًا أضحك فتاة كانت تجلس إلى مقعد بجانب مقعدى.. فلانت ملامحى لضحكتها .. وضحكت مثلها ..
وانتصب المخمور وهو لا يكاد يتماسك واتجه إلينا وفى عينيه يقدح الشرر الضارى ويبرز الجنون الأعمى ..
وقبل أن يصل إلى الفتاة .. أدركته يد قوية من جالس طرحته أرضًا ..
وكان القطار فى هذه اللحظة يهدئ من سرعته وهو داخل المحطة ، وعندما فتح الباب وتوقف القطار طرح اثنان من الركاب بالمخمور وألقياه على الرصيف .
حدث كل هذا فى خطف البرق وسرعة عجيبة حتى إن نصف ركاب العربة لم يشعروا بالذى جرى ..
وتحرك .. وبدت الأنوار القوية تلمع فى الشوارع وفى سقف العربة ، والكل فى سكون .. وخفت من هذا السكون .. وخشيت أن يكون هذا القطار من الطراز الذى يتحرك من غير سائق .. فأنا منذ ركبت لم أر وجه سائق ولا سحنة كمسارى . واستقر رأيى على النزول فى أول محطة يقف فيها القطار ..
ونزلت والليل من حولى كله ضياء ، والجو رائع منعش .. والبالونات تسبح فى السماء من كل الألوان وكل الأحجام ..
ولزمت الرصيف الطويل متجهًا إلى الوجهة التى أتصور فيها الفندق .. وكلما قابلنى عابر سألته عن الفندق ، وجدته بالمصادفة لا يعرف الإنجليزية .. وتكرر ذلك وأنا أسير فى اتجاه واحد ثم أصبحت أدور وألف وحدى .. وأصبحت المفرد تحت البالونات .. فهل خلت المدينة التى يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين من سكانها ومن البوليس .. وهل قادتنى قدماى إلى ضاحية ساكنة جامدة مهجورة من ضواحى طوكيو .. وأنا لا أدرى .. ؟
وشعرت بالخوف يشل حركتى .. وفى مثل خطف البرق لمحت عربة متوسطة من عربات السياحة اليابانية التى يعمل مثلها فى المطار .. فاستوقفتها صارخًا بالإنجليزية .. فوقفت وسألت عن الفندق ..
فقال الراكب الذى بجوار السائق :
ــ انزل واركب المترو .. خمس محطات .. !
وشكرته وأنا شاعر بالغيظ ..
واستأنفت السير وأنا أقول لنفسى ما أشد حماقة الإنسان .. لماذا لا أركب تأكسيًا وأتخلص من هذا الضيق . والمسافة ليست بالبعد الذى أتصوره فالبالونات لا تزال تتموج فوق رأسى والبالونات كلها فى قلب « جنزا » والفندق فى طرف من جنزا .. فلماذا الهلع .. ؟
وتخطيت الشارع وقد عاد إلى قلبى وبصرى الهدى .. لأشير إلى أول تاكسى يمر .. وفيما أنا أهم بذلك لمحت ضوءًا صغيرًا من لافتة تشير إلى «نزل». لافتة بالإنجليزية مضاءة بحروف صغيرة جدًا تتجاوزها العينان فى الليل .. ولكنى قرأتها بقلبى وبصيرتى ..
واتجهت إليها وقلبى يزداد وجيبه لشعور لا أعرف كنهه ..
وطالعنى وأنا أجتاز ممر الحديقة المعشب ، بسكون جامد ، حتى تصورت أن ليس بالنزل أحد .. ووجدت على كرسى بجانب الباب المغلق شيخًا يابانيًا.. أفسح لى الطريق بعد أن قرع جرس الباب ، وأدركت من زيه وعمله أنه خفير النزل ..
وخلعت حذائى ومشيت تحت الأنوار الخافتة على طرقة مفروشة بالحصر المضفر الملون .. إلى حيث توجد فتاة فى لباس الكومينو .. جالسة على حشية مزركشة ، وبجانبها طاولة ورفوف من الخشب .. وحييتها وأنا أقدم لها جواز السفر .. صامتًا .. مستغربًا .. محدقًا فى وجهها ببلاهة .. أخذتنى الرجفة ..
وسمعتها تقول بإنجليزية سليمة :
ــ لا داعى لجواز السفر .. هنا نزل خاص ويكفى أن تدون اسمك وعنوانك فى هذه البطاقة .
ودونت ما طلبته وأنا أحدق فى وجهها وأزداد تحديقًا واستغرابًا .. وسلمتها البطاقة .. فقرأت ما فيها ..
وقالت .. بصوت عال ..
ــ طبيب ..
ــ وكأنها سرت لأنى طبيب .. وأحمل هذه المهنة ..
وقلت :
ــ نعم .. وأنا قادم من مستشفى الدكتور تاشيو .. ورأيت هناك طبيبة تشبهك تمامًا .. شبهًا يدير العقل .. بل أنت فى الواقع .. التى كانت هناك .. وهذا ما جعلنى فى شبه ذهول ..
ــ أنا .. أنا ما برحت هذا المكان .. وعملى فى هذا النزل فقط ..
ــ ألك توأم .. ؟
ــ أبدًا ..
وضحكت من قلب طروب ..
وقلت وأنا أضحك أيضًا ..
ــ إن هذا لعجيب وهذه ليلة العجائب ..
ــ أهذه أول ليلة لك فى طوكيو .. ؟
ــ لا .. نزلت طوكيو منذ عشرة أيام .. وأقيم فى فندق دايتشى .. وحدث أن ضللت الطريق إلى الفندق ، وأنا راجع وحدى من المستشفى .. وهدانى قلبى إلى هذا المكان .. لأقضى فيه ليلة .. بدلاً من الدوران بالتاكسى..
ــ جميل أن تستدل علينا فى الليل دون دليل .. لأن اللافتة الخاصة بالنزل مكتوبة بحروف دقيقة لا تكاد تقرأ .. !
ــ هذا من حسن حظى ..
ــ والآن .. سأريك الغرفة ..
وسارت أمامى فى طرقة مستديرة مزينة بالأصص والورود والزخارف اليابانية .. وعلى الجانبين حجرات منها الصغير والكبير ، تقسم بأبواب خشبية متحركة حسب الرغبة ..
وقالت تشير إلى غرفة وصلنا إلى بابها :
ــ اخترت لك هذه الغرفة ..
وأرتنى غرفة جميلة مفروشة بالحصر والحشيات والمساند .
ــ لا توجد أسرة فى نزلنا وستنام على الحصير !
ــ لقد نمت على الحصير مع جدتى فوق سطح بيتنا .. أعوامًا طويلة .. فهى ليست غريبة على مثلى ..
ونظرت بتأمل ثم قالت :
ــ سأجىء لك بقميص .. فليس معك بيجامة !
ــ شكرًا .. وأستطيع أن أنام بالبنطلون والقميص .
وأزاحت بابًا جانبيًا صغيرًا .. وهى تقول بزهو لأنها تعرف أن ما تقوله يسر كل مسافر ..
ــ والحمام داخل الغرفة ..
ورأيت المناشف والمرايا والنظافة والأناقة ..
وسألتها وأنا أحدق فى البانيو الصغير الحجم .. وهو معد قطعًا للمرأة قبل الرجل ..
ــ سمعت أن المرأة اليابانية تستحم كثيرًا .. فكم مرة فى اليوم ..
ــ ثلاث وأربع مرات .. !
ــ ثلاث وأربع مرات .. وليس عندكن النيل مثلنا .. وإذا وجد النيل فكم مرة .. ؟
ــ ولا مرة .. !!
وضحكنا كثيرًا .. لأن هذا ما يحدث فعلاً ..
وسألت : أتعشيت .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ سنعد لك العشاء ..
ودلتنى على مائدة الطعام ..
ــ أتحب أن تتعشى الآن .. ؟
ــ الأحسن بعد ساعة .. لأنى أكلت فطيرًا مع الشاى فى المستشفى ..
ــ كما تحب ..
وتحركنا فى الطريق إلى الأمام .. لترينى حديقة « النزل » ومرت بنا عاملة وهى تمسح عبراتها .. وسألتها مرافقتى بالإنجليزية :
ــ ما الخبر .. ؟
فردت هذه اليابانية وهى تشهق حابسة عبراتها .. واجتازتنا مسرعة فسألت مرافقتى فى خجل :
ــ ما الذى جرى .. ؟
ــ فتاة من العاملات فى النزل ماتت .. مع أن الطبيب كان عندها منذ ساعة وطمأنها .
ــ ما الذى كانت تشكو منه .. ؟
ــ أشياء كثيرة .. عدة أمراض ..
ــ أمتزوجة .. ؟
ــ أبدًا .
ــ هل أستطيع أن أراها .. ؟
سأقول لماما .. وماما .. صاحبة النزل لأن بابا ميت ..
وجلسنا فى البهو على الحشيات .. وجاءت ماما سريعًا ، تلبس البياض فى بياض .. لأنها بيضاء فى قمة رأسها وما لفته حول عنقها .. وتدثرت به حتى قدميها .. وطالعتنى بوجهها السمين ، وبعينيها الساكنتين .. وكان معها شيخ يابانى جلس صامتًا يحدق فى وجهى .. ولم يقدمه لى أحد .. فأدركت أنه من أقربائهن ..
ولم يطل الصمت .. حدثت الفتاة أمها برغبتى .. وتحركنا جميعًا إلى غرفة الميتة ..
ودخلت وهم حولى وركعت على الأرض بجانب الميتة .. لأنها كانت مطروحة على خشية .. وتبدو صفراء ذابلة كأجمل الورود .
ورفعت رأسى وأشرت إلى النافذة .. وهم يتفرسون باستغراب وفضول .
ونظرت إلى عينى الميتة وحركت الجفن .. ورأيت فى الشعيرات الدقيقة للعين الحياة .. الحياة ..
وقلت لمن حولى بزهو :
ــ إنها لم تمت ..
وخرجت من الجموع الواقفة همهمة عالية ، وصرخة عفوية مكتومة ، مع كل ما هم عليه من تهذيب ورقىّ .
وتحولت سريعًا إلى الفتاة مرافقتى وقلت لها :
ــ استدعى طبيبها أو أى طبيب يابانى حالاً ..
ــ وأنت .. !!
ــ أنا لا أستطيع أن أزاول المهنة هنا .. من غير تصريح ..
ــ أرجوك يا دكتور « حسن » أن تنقذها .. لعنة اللّه على التصريح .. إن حياة هذه المسكينة على يديك ..
ــ سأشترك مع الطبيب اليابانى عندما يجىء .. فلا تراعى ..
وكنت أعرف أن الطبيب فى اليابان يأتى فى زمن يقل عن ثلاث دقائق .. وأقل من هذا الزمن يأتى الإسعاف والبوليس .. ولذلك لم أشعر بالقلق على المريضة ولم يؤنبنى ضميرى .. لأنى تركتها من غير علاج بعد أن عرفت أنها حية ..
وجاء طبيبها وقدمونى له .. وحدثته على عجل .. وأصبحت أنا وهو والسيدة الكبيرة والفتاة مرافقتى داخل الغرفة وخرج الجميع وأغلقنا الباب .
وكشفت الفتاة عن صدر زميلتها .. وشعرت بالخجل وأنا أرى هذا الجمال الأسر .. سبحان من أعطى المرأة اليابانية كل هذه النعومة وهذه الأنوثة وهذه الفتنة وسلبها من الرجل .
وقفت خجلاً مبهورًا والفتاة تكشف فتنة الأنثى فى منبع الأمومة والرضاعة والحنان .
كان الطبيب اليابانى يرغب فى إعطائها حقنة فاعترضت بأدب .. وقلت له :
ــ إنها الآن فى حاجة سريعة إلى تدليك أولاً .. وبعد ذلك تأتى الأدوية والحقن ..
وأخذ الطبيب بوجهة نظرى وانحنى عليها وأخذ يدلك قلبها .. ونظرت المرافقة إلى ناحيتى .. فابتسمت وأدركت غرضها ..
وقلت للطبيب اليابانى بأدب :
ــ هل تسمح لى بمساعدتك يا دكتور .. !
فتنحى جانبًا ..
وركعت بجانب الميتة .. وحدقت فى عينيها .. ووضعت خدى على قلبها .. ولمست يداى صدرها .. وأخذت أدلك فى نعومة ودقة.. ولأول مرة أنسى نفسى وأضع فمى على فمها وأنفخ فيه بحرارة .. وشعرت بشرايين الحياة .
وفتحت المريضة عينيها بثقل .
وفى غمرة الفرح بنجاة الفتاة طوقنى الطبيب اليابانى وكل من كان فى داخل الغرفة .
وقلت للطبيب :
ــ إن هذه الخبرة تعلمتها منكم والدكتور تاشيو هو أستاذى وأنا فخور به كأستاذ .
وأحنى رأسه محييًا .. ورأيت أن يبقى هو بجانب المريضة ، ويعطيها ما يشاء من الأدوية .
وقادتنى المرافقة إلى غرفة الطعام .. وهى تطير من الفرحة ..
وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..
وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..
وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .
وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .
وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .
واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .
وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
ــ بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
ــ وإذا مشيت .. ؟
ــ تصل صباح الأربعاء ..
وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
ــ وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
ــ أريد أن أرى السفينة ..
ــ أية سفينة .. ؟
ــ السفينة الراسية على شط جنزا ..
ــ غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
ــ وركابها .. ؟
ــ غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
ــ ولكنهما التقيا ..
ــ أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
ــ قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
ــ أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
ــ اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
ــ لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
ــ ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
ــ أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..
وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..
وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .
ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .
وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
ــ أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..
وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
ــ وبكم المشاهدة .. ؟
ــ الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..
ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
ــ إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
ــ ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .
وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..
وسألتنى :
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..
وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..
وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..
بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .
وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..
وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..
وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
ــ أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
ــ سأذهب معك ..
وحاولت أن أقول شيئًا ..
ــ لا تفتح فمك ..
وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..
وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..
ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .
وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .
قالت بظل ابتسامة :
ــ تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
ــ أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
ــ سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
ــ ما عمله .. ؟
ــ إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .
لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
ــ وابنك .. كبير .. ؟
ــ عمره ست سنوات
وأحسست بالأرض تدور
ــ أحب أن أراه .
فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
ــ أمعك صورة له ..!
ــ معى ..
ــ أرينيها .. أرجوك ..
ــ أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..
وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..
===============================
نشرت القصة بصحيفة أخبار اليوم 30/6/1984 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص من اليابان 2001 من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
فتاة من جنزا
قصة محمود البدوى
سكان طوكيو تسعة ملايين منهم ربع مليون على الأقل يلعبون القمار بحى شمباسى .. فى لعبة جهنمية ليس لها ضريب ..
آلة أتوماتيكية تسقط فيها القطعة من العشرة ينات فتأتى لك بخمسين قطعة فى لمح البصر .. بشرط أن تقطع أنفاسك وأنت تحركها وتلمس بأصابعك لولبها ..
وقد تسقط فيها مائة قطعة ولا يأتى لك شىء أبدا .. ولا تسمع أى رنين للعملة على الإطلاق .. ومع ذلك تظل واقفا تلعب .. وبجانبك مئات الآلات.. ومئات من المهووسين مثلك يراودهم الأمل للكسب السريع .. ولشىء يعجز عن تعليله حتى أدلر ..
تستغرق فى اللعبة وتنسى نفسك .. وتستمر فى المقامرة فى هوس المخبول غافلا عن كل شىء ناسيا الطعام والشراب إلى الصباح .. ملتذا بضجيج الآلات وحركتها الأتوماتيكية وهى تبلع الينات وتفتح فاها لتصيح هل من مزيد ..
رأيت هذا المكان وأنا أعبر الطريق متجها إلى حى ، جنزا .. وسحرنى جوه الغريب والضجيج المنبعث منه ورأيت اللاعبين واقفين أمام الآلات لا يبرحونها لحظة كأنما ربطوا بها بسلاسل من حديد ..
وبارحت الملعب وعدت إليه بعد أربع ساعات .. فرأيت نفس الوجوه واقفة على الآلات وقد انتابتها حمى اللعب ..
والغالبية من هؤلاء المقامرين لم تكن تكسب أى شىء على الإطلاق .. وكانت تذهب لتحرق أعصابها وتمزق روحها ..
وأخذت أدور فى الملعب كما يدور الفراش حول النار .. وكنت أود أن أدخل فى الصف .. ولكنى لم أجد آلة واحدة خالية .. كانت كلها مشغولة.. عن يمينى وعن يسارى وفى كل صف وقف الرجال والنساء فى استغراق عجيب ..
وغادرت المكان واتجهت إلى الشارع الخلفى .. وأنا أضرب فى الأرض على غير وجهة فى ليل طوكيو الحالم .. وكانت البالونات تدور فى سماء المدينة متألقة زاهية .. ورأيت الساعة المضيئة فى البرج تقترب عقاربها من نصف الليل ..
وأخذ الجو يبرد ولم أكن أرتدى معطفا .. فبدا لى أن أذهب إلى الفندق .. وكان قريبا لألبس معطفى ثم أعود ..
واجتزت نفق المترو .. وتحت الضوء الشاحب .. برزت لى فتاة .. وكنت أتصور .. أنها تقف تحت الباكية .. تستهوى المارة كما تفعل الفتيات فى هذا المكان .. ولكنى لمحت بابا صغيرا من الزجاج الملون عليه ستار كثيف .. فأدركت أن الفتاة خرجت من هذا الباب ..
وابتسمت لى وأحنت رأسها وقالت برقة :
ــ تفضل ..
وحركت لى الباب .. فدخلت دون تردد وكان المكان من الصغر .. بحيث تحيرت كيف يمكن أن يقوم ملهى فى برميل ..
كان أجوف ومستديرا كالبرميل تماما ..
وصدم بصرى أول ما توسطت القاعة شاب يابانى .. يجلس أمام البنك وأمامه فتاة تساقيه الشراب فى هذا الجو الشاحب ..
وكانت الستر مسدلة على النوافذ والرسومات تزين المكان .. والبالونات الصغيرة المضيئة من كل الألوان تسبح فى الجو ..
والضوء المغشى يضفى ظلا جميلا على الأركان تستريح إليه العين والنفس.. وشممت رائحة العنبر .. وأنا أجلس على كرسى مغطى بالقطيفة الحمراء .. وأمامى منضدة مزركشة عليها مصباح بلورى يلقى سائلا من الشعاع الأزرق على هذا الركن الصغير .. وعلى وجه الفتاة التى ردت الباب وجلست أمامى تحيينى فى رقة .. لقد كانت الفتاة الأخرى تعد الشراب وتجالس الزبون اليابانى ..
وكان الكومينو يضم جسما دقيق التكوين بالغ الحد فى الدقة والوجه الصغير .. فيه شحوب العذراء التى تسهر الليل قبل الأوان ..
وكان أنفها الدقيق يكاد يلامس أنفى .. وهى تسألنى فى صوت خافت بإنجليزية سليمة :
ــ ماذا تشرب .. ؟
ــ كأس من النبيذ ..
ــ ألا تشرب الساكى .. ؟
ــ إنه ينزل فى جوفى كالنار ..
فابتسمت فى نعومة تجذب القلب .. وغابت وراء باب خلفى .. وتركتنى وحيدا أمام نظرات الشاب وزميلته ..
وكان اليابانى ربع القوام عريض الصدر .. فى يده سيجارة وأمامه كأس نصف ممتلئ .. والفتاة طويلة ملساء العود تلبس كومينو أزرق وشعر رأسها معقوص فوق جبينها كالتاج .. ولم تكن تشرب وكانت نظرات عينيها تقع على وجهى من حين إلى حين ثم تعود تؤانس صاحبها ..
وجاءت رفيقتى .. ووضعت الكأس وأنا أنظر إلى شعرها المتموج الشديد السواد ..
وسألتنى بدماثة :
ــ أقادم من مانيللا .. ؟
ــ من هونج كونج ..
ــ إيه .. إنها مدينة جميلة .. كما سمعت ..
ــ أجمل المدن .. بعد طوكيو ..
ــ أعجبتك طوكيو .. ؟
ــ إنها عروس المدن جمعاء .. وأنت أجمل من رأيت فيها من النساء ..
ــ أهذا إطراء .. ؟
ــ أبدا .. إننى أقول الحقيقة .. ولولا أن بهرنى جمالك .. مادخلت إلى هنا على التو ..
ــ هل زرت قصر الإمبراطور .. وبرج طوكيو .. وجنزا .. ؟
ــ زرتها كلها .. وأنا الآن أعاود التجول فى جنزا ..
ــ سائح .. ؟
ــ أجل ..
ــ وهذه أول مرة .. ؟
ــ أول مرة ..
ــ ستبقى طويلا .. ؟
ــ شهرا ..
ــ شهر لا يكفى .. ابق شهرين ..
ــ والنقود .. ؟
ــ سأريك الأماكن الرخيصة .. وستصرف القليل .. طوكيو ليست غالية ..
ــ هذا صحيح .. إلا شيئا واحدا ..
ــ ما هو .. ؟
ــ الخمر من أيدى الحسان ..
ــ لا تشربها إذن ..
وكانت تبتسم لى مفترة الشفتين ..
ــ سأشربها من يد ..
ــ جينا ..
ــ اسم جميل .. من جينا الحسناء فقط ..
ــ ستأتى كل ليلة .. ؟
ــ كل ليلة ..
وكان صوتها يفيض حنانا ..
ــ ما اسمك .. ؟
ــ مصطفى ..
ونطقته .. ثلاث مرات بصعوبة وهى تضحك ..
ــ مهندس .. ؟
ــ فى الواقع كل المهن التى تخطر على البال ..
ــ أقرأ هذا فى خطوط يديك ..
ــ أو تقرأين الكف .. ؟
ــ قراءة جيدة .. أعطنى يدك ..
ووضعت يدى فى يدها .. وكانت يدها رخصة ناعمة .. واقتربت منى بعينيها الباسمتين وأنفاسها المعطرة .. وقالت كلاما كثيرا لم أعره التفاتة .. وكنت أنظر إلى عينيها وهى تتحدث وفى صوتها نفس النبرات المثيرة .. وأشتم رائحة لحمها .. وكانت تحرك يدى فى راحتها وتنظر إلى نظرة لا يخطئها رجل ..
وسألتنى :
ــ أفهمت كل ما قلته .. ؟
ــ بالطبع ..
ــ ماذا قلت .. ؟
ــ إننى أحب فتاة فى حانة ...
ــ أهذا كل ما قلته .. ؟
ــ هذا زبدته ..
وضحكت وأخذنا نتحدث .. وكان الشاب اليابانى يتابعنا بنظراته ويقترب بأذنه كأنه ينصت لحديثنا .. فأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وأنا أفكر فى القمار .. فى الآلة الجهنمية ..
وسألتنى :
ــ لماذا أنت مستعجل .. والليل طويل وأنت وحيد فى المدينة ..
ــ تجولت كثيرا .. وأحس بالتعب ..
ــ ومتى أراك .. ؟
ــ غدا .. سأجىء بعد العاشرة مساء ..
ــ حقا .. ؟
ــ حقا ..
وسلمت عليها وخرجت من المكان والليل فى هزيعه الثانى .. وقد خفت حركة المواصلات ولكن المدينة ظلت ساهرة تتألق بأنوارها الساطعة ..
***
ولما دخلت ملهى القمار كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا وألفيت اللاعبين وقوفا على تلك الآلات الجهنمية ولكن الزحام قد خف .. وأشبعت رغبتى فى اللعب .. وأنا أتلذذ من الانفعال الذى كان يصيبنى بعد كل ضغطة على الزر .. ولقد عجبت جدا لطباع الإنسان وهوسه ..
وكانت قد انقضت ساعة كاملة وأنا ألعب دون أن أكسب شيئا .. وكلما هممت بالانصراف يعاودنى الأمل فى الكسب فأبقى وألعب ..
وانتابتنى حالة من الهياج وأنا أقرع الآلة بعنف بآخر قطعة فى جيبى من ذات العشرة ينات ..
وسمعت من ورائى بعد هذه الحركة صوتا هادئا يسألنى :
ــ هل خسرت كثيرا .. ؟
ــ كل ما معى من قطع برونزية ..
ــ وتريد أن تستمر فى اللعب .. ؟
ــ سأفك ورقة بمائة ين .. وألعب بها فإن خسرتها .. لن ألعب بعدها أبدا ..
وابتسم الرجل وهو يسمع منى هذا الكلام .. كان يعرف أننى لا أستطيع أن أنفذ هذا الوعد وأن المقامر لا إرادة له ..
وفككت الورقة ..
ولما هممت بأن أضع أول قطعة من البرونز فى ثقب الآلة سمعت الرجل يقول بصوته الهادئ :
ــ أتسمح بأن ألعب لك هذه المرة .. ؟
ووجدته يتقدم نحو الآلة .. فناولته القطعة ووضعها بيده وضغط على الزر ضغطة خفيفة .. ضغطة خبير .. فتساقطت مئات القطع .. فى الخزان ..
فقال وقد غلبه السرور :
ــ اجمع .. حظك ..
ــ إنها نقودك ..
ــ ألم أقل لك بأنى سألعب من أجلك .. خذ نقودك ..
وسألته وأنا أضع النقود فى جيبى ..
ــ هل أنت محظوظ دائما ..؟ وتكسب من أول جولة .. ؟
ــ إننى أكسب عندما ألعب للآخرين ..
ــ ولنفسك .. ؟
ــ لا أكسب قط ..
ــ لماذا .. ؟
ــ المسألة .. كقانون الجاذبية .. وتحتاج إلى شرح طويل ..
ــ هل هناك ما يمنع من شرحها لى .. خصوصا وأننى خسرت كثيرا هذه الليلة .. ؟
وضحك الرجل ..
ــ لست أول خاسر .. وأخاف إن شرحتها لك أن يلازمنى النحس دوما وأفقد السيطرة على الآلة فأرجو أن تعفينى .. وسيظل الأمر سرا مغلقا .. وأنت تعرف هواجس المقامر ...
وابتسم المستر تاكاشى الذى فى رأسه تجارب رجل الخمسين فى رقة وهو يقول هذا وتحرك بجسمه وكان ربعة وثيق التركيب عريض الصدر حتى تصورته يشتغل بالمصارعة ..
وقلت له وقد أحسست بالرغبة فى أن أجازيه على صنيعه .. وكنت قد شعرت بالجوع لأنى تعشيت فى الساعة السابعة ..
ــ هل تسمح بأن نشرب كأسين من النبيذ .. ونأكل شيئا ..
ــ لا بأس .. بشرط أن نذهب إلى مطعم شعبى .. فلا أحب أن أكلفك كثيرا ..
وخرجنا إلى الشارع .. وفى مطعم صغير .. جلسنا إلى مائدة من الرخام وجاءت شابة ترتدى المعطف الأبيض لتخدمنا ..
وكانت صبوحة الوجه ضاحكة .. فطلبنا نبيذا .. ولحما مشويا على النار وشوربة ساخنة ..
وسألت تاكاشى على الطعام :
ــ هل هذا هو المكان الوحيد الذى يلعب فيه مثل هذه اللعبة فى طوكيو..؟
ــ إنه أشهر مكان ..
ــ وهل تلعب فيه كثيرا .. ؟
ــ إنى دائم التردد عليه .. بعد قنبلة نجازاكى ..
وعلا وجهه السهوم فأطرق وهو يدير الكأس بين يديه ..
ثم استطرد :
ــ وجدته المكان الوحيد الذى أقضى فيه الليل .. مستغرقا وملتذا باللعبة نفسها .. ولم يكن فى مقدورى أن أفعل شيئا آخر ..
ــ هل خسرت تجارتك فى الحرب ..
ــ فقدت زوجتى .. وكانت كل شىء بالنسبة لى .. عروس فى شهرها الثانى .. ولم تصب بإصابة مباشرة ولكنها عانت من تأثير صدمة نفسية قاسية .. وعاشت أسبوعا فى عذاب لا يوصف ولا يحتمله بشر ثم ماتت فى ساعة رهيبة وأنا الآن أجتر الذكريات ..
ــ وما زلت تذكر الحادث .. ؟ .. رغم مرور كل هذه السنين .. ؟
ــ أجل كأن الأمر حدث بالأمس ولا زال فى أذنى الدوى المرعب .. ولقد تعذبت المسكينة طويلا وكانت أنضر من رأيت من النساء .. هل شاهدت (الكوين بى) ورأيت البنات الجميلات هناك فى هذا المرقص .. أحلى بنات طوكيو .. ولكن زوجتى كانت أجمل من هؤلاء جميعا .. لم يكن هناك من هو فى مثل جمالها ونضارتها ..
ولقد حصلت معها على أكثر مما حلق له خيالى .. عرفت طعم الحب .. وطعم السعادة .. تزوجنا على حب ملتهب جارف .. ثم أنبت هذا كله .. وأنسلخ فى لحظة دامية ..
ولقد أحسست بعذاب لا يوصف .. فكنت أهيم على وجهى فى الليل كالضال .. وأخيرا اخترت هذا المكان .. لأنسى نفسى .. وأنسى الحرب .. والذين يصنعونها ..
وسألته :
ــ وهل نسيت .. ؟
فوضع الكأس :
ــ أحاول أن أنسى .. وإننا لا نقاوم الشر .. بل نغذيه .. والحرب من صنع أيدينا نحن البشر .. وعلى الطبقات الكادحة من الشعوب فى العالم كله يقع العبء الأكبر فنحن الذين نصنع القنابل والمتفجرات بأيدينا .. ولذلك نتلقى كل ويلاتها ..
ــ وماذا تفعل إذا اعتدى عليك مثلما اعتدى علينا .. ؟
ــ أين .. ؟
ــ فى حرب السويس ..
ــ هذا شىء آخر .. هل أنت مصرى .. ؟
ــ أجل .. ولقد هوجمنا غدرا .. ولم نكن نفكر فى الحرب إطلاقا ..
ــ إن الموقف هنا يختلف .. وفى هذه الحالة نقاتل إلى آخر رمق ويقاتل معنا حتى الأطفال وأنت تعرف أن العالم كله كان معكم .. فى ذلك الوقت ..
وسألنى بعد أن فرغنا من الطعام وأشعل لنفسه سيجارة :
ــ هل اشتركت فى هذه الحرب كمقاتل .. ؟
ــ كنت فى الدفاع المدنى .. ولكنى لا أعصم نفسى من القلق .. كنت أفكر فى مصير الأسرة بعد أن يذهب عنها الرجل الذى يعولها ..
ــ هذا إحساس طبيعى .. إحساس كل إنسان مقاتل .. وكل ما نرجوه هو الاشتراك فى حرب أخرى .. وأن تعيش البشرية فى سلام ..
ونظر إلى الفتاة .. وهى تقدم لنا القهوة وسألنى :
ــ جميلة ..
ــ غاية فى الجمال .. والدماثة ..
ــ وطوكيو .. ؟
ــ إنها أجمل المدن على الإطلاق ..
ــ تصور هذا الجمال كله .. عندما يذهب به صاروخ واحد .. فى ليلة عاصفة ..
ــ إن هذا محزن حقا ..
ــ والتفكير فيه جنون مطبق .. ولماذا يعيش الناس على هذا الجنون .. وهذا القلق المدمر ..
ــ والخوف من الحرب هو الظاهر فى عصرنا ..
وقال تاكاشى :
ــ هذا صحيح إن القلق طابع العصر حقا .. وهو الذى يدمرنا .. ذهبت إلى هونج كونج فى عمل منذ سنوات .. وأحبتنى فتاة ..
ــ صينية .. ؟
ــ أجل صينية .. وكانت .. قلقة .. تخشى أهلها ... وكنا نتعذب .. ويظهر أثر ذلك فى نفسينا ..
كان الحب مشوبا بالمرارة وهذا عذاب غليظ ..
ــ ولماذا لا تتزوجها .. ؟
ــ إنها لا تحب أن تجىء إلى طوكيو .. وأنا لا أرغب فى العيش فى هونج كونج ..
ــ والنتيجة .. ؟
ــ العذاب .. وهذه هى الحياة ..
وخرجنا نتجول فى المدينة مع أنفاس الصباح .. وقبل أن يودعنى الرجل ويأخذ طريقه قدمت له هدية من صنع خان الخليلى علبة سجائر مفضضة .. فتناولها وهو ينحنى بقامته خمس مرات ..
***
وكنت خارجا عصر يوم من محطة المترو وصاعدا الدرجات سريعا .. عندما قابلت جينا فتاة الملهى هابطة السلم وحدقت فى وجهى وعرفتنى ..
وقالت بعذوبة :
ــ إنك لم تأت كما وعدت .. ؟
ــ سآتى الليلة ..
ــ سأنتظرك ..
ومضت سريعا .. وأنا أسمع وقع أقدامها على الدرج ..
***
وفى الليل ذهبت إلى الملهى .. وكان كعادته ساكنا .. وكان هناك أربعة من الرواد .. يرتدون جميعا الملابس الأوروبية وفى سن متقاربة .. يشربون الخمر ويحادثون فتاتين .. بخلاف جينا التى كانت تجالس الشاب اليابانى الذى رأيته أول مرة ..
فلما رأتنى استأذنت من الشاب وأسرعت نحوى .. فجلسنا فى ركن نتجاذب أطراف الحديث ..
وكان الدخان يملأ المكان .. والنوافذ كلها مغلقة وعليها الستائر الكثيفة.. فشعرت بالضيق .. خصوصا وأن الشاب اليابانى كان يتابعنا بنظرات المغتاظ وينصت لحديثى مع جينا .. ولم أمكث طويلا وهممت بالانصراف ..
فسألتنى :
ــ ذاهب .. ؟
ــ أجل ..
ـ هل أنت متضايق من المكان ..
ــ رائحة الدخان تهيج رئتى ...
ــ يمكن أن نصعد إلى الدور العلوى ...
ونظرت إلى السلالم الخشبية الدقيقة التى تتوسط البناية ..
وقلت لها :
ــ إننى جئت لأعرض عليك نزهة فى الضواحى ..
ــ متى .. ؟
ــ الآن ..
ــ إن الملهى يسهر طول الليل ..
ــ نذهب فى الصباح إذن ..
ــ فى الصباح أشتغل فى مطعم مارتا وأكون هناك فى الثامنة ..
وفكرت ..
تشتغل فى الصباح فى مطعم .. وفى الليل فى ملهى .. وهى فى هذه السن الصغيرة .. ولمن تكدح .. وتحمل نفسها هذا العذاب .. كانت قوية البنية موفورة الصحة وبشرتها الصفراء دافئة ..
وسألتنى :
ــ ما الذى تريده من النزهة فى الضواحى .. ؟
ــ أحب أن أشتم أنفاس الورود هناك وأنت معى .. وأرى بيتا يابانيا .. على حقيقته ..
ــ ترى بيتا يابانيا .. أترغب فى ذلك حقا .. ؟
ــ إنها أحب الرغبات إلى نفسى ..
ــ إذن سنرى بيتا فى ضاحية ..
ــ متى .. ؟
ــ سأحدث والدتى .. وأجيئك بالجواب غدا ..
وتركتها منشرح القلب ..
***
وفى المساء الثانى حدثتنى وهى مسرورة أن أمها ترحب بزيارتى ..
واتفقنا على أن نذهب إلى بيتهم فى يوم الاثنين .. ونتجول ساعة أو ساعتين بالتاكسى قبل الذهاب إلى الضاحية .. وستعفى نفسها من العمل فى الملهى فى هذه الليلة لتكون فى صحبتى ..
***
وانتظرتها يوم الاثنين فى محل أكيرا .. وجاءت فى الميعاد وكانت ترتدى ثوبا أوروبيا بسيطا للغاية .. يكشف عن قوامها النحيل وصدرها الناهد .. وبدت جذابة شهية ..
وركبنا تاكسى انطلق بنا خارج المدينة .. وكنت أحمل هدية لها وهدية لأمها ..
وكانت تود أن ترى هديتها وتفتح العلبة ولكنى أمهلتها إلى أن نصل إلى البيت فظلت تترقب المفاجأة ..
وكان الهواء شديدا فأخذ يداعب شعرها .. فكانت تدفع خصلته بيديها .. فأغلقت النافذة الزجاجية الصغيرة .. وأمسكت بيدها .. فتركتها فى يدى ..
وكان الجو قد تلبد بالغيوم وأخذت الأمطار تهطل بغزارة .. وبدت الأمطار الصغيرة عبر الزجاج وكان الطقس باردا .. وكنت أحس جسمها الحار إلى جانبى ..
وكنت عبر نافذة السيارة أرى البيوت اليابانية الخشبية من طابق واحد .. والبالونات الزاهية والقناديل من كل الألوان على الأبواب الصغيرة وفى مدخل الحدائق .. وكان الطريق يلمع زاهيا متألقا كالأبنوس ..
وكان سائق العربة رجلا مربوعا بيضى الوجه صامتا وكان قد تلقى التعليمات من جينا ثم انطلق لا يلوى على شىء ولامست بطرف شفتى أذنها الصغيرة فظلت جامدة وفمها مغلقا ثم ردتنى بلطف وهى تشير إلى السائق ومرآته ..
وتوقف التاكسى أمام بيت يابانى صغير .. وفتحت الباب جينا وهبطت على الأرض .. وكنت أتأمل قامتها وجمالها والحب الجديد الذى ملأ كيانى ..
وقابلتها سيدة مسنة على الباب انحنت لنا .. ودخلنا فى بهو فسيح تدور أبوابه بالأكر ثم انفرج الباب .. عن حجرة صغيرة أنيقة ذات نافذة زجاجية كبيرة تطل على الحديقة وبدت الورود والأزهار تعطر المكان كله ..
وجلسنا على الحشيات وجاءت لى بقدح الشاى بعد أن غيرت ثوبها الأوروبى ولبست الكومينو .. وتركتنا أمها وحدنا فى القاعة وأخذت جينا تغنى على القيثار .. وأنا أتأمل بشرتها الملساء .. من خلال ثوبها الحريرى .. ووجدت الفرصة مناسبة لأقدم لها الهدية وفتحت العلبة .. ووضعت العقد الماسى الذى اشتريته لها فى عنقها ..
ووضعت الآلة جانبا وهى تطير من الفرحة وأخذت تتزين .. وترجل شعرها .. وكانت هناك مرآة تعكس صورتها وكل جمالها ..
***
وجلسنا نتعشى إلى مائدة واطئة وكان معنا أمها وأخوها الصغير كوزو ..
وبعد العشاء تحدثنا فى كل الشئون وكانت تترجم لأمها حديثى .. واقترب الليل من منتصفه وكنا لا نزال نسمع صوت المطر غزيرا ومتدفقا ..
ومع انهطاله الشديد استأذنت لأعود إلى الفندق ..
ولكن جينا وأمها منعانى من الخروج فى المطر وأعدا لى غرفة خاصة ..
ووجدت نفسى فى غرفة صغيرة جميلة مفروشة بالحشيات على الأرض ..
ونمت بالكومينو .. ولعله من مخلفات المرحوم والد جينا .. وأغمضت عينى ملتذا .. وأنا أشعر بأنى أضع جسمى على ريش النعام ..
وأحسست بالباب الصغير ينفرج .. على الأكر .. ودخلت جينا وكانت قد نسيت أن تحمل الأزهار بعيدا عن الغرفة ..
وشعرت بى فاتحا عينى فسألتنى :
ــ هل أنت صاح .. ؟
ــ إنى أحلم بالمترو .. منطلقا فى الليل ..
ــ لم يعد هناك مترو ..
ورأيت العقد الماسى .. لا يزال على صدرها .. وكانت عيناها تشعان كأنهما جوهرتان فى الضوء الباهت ..
وسألتنى وهى تتثنى :
ــ أتريد شيئا .. ؟
ــ أتمنى لو جلست لنتحدث قليلا .. فلن يأتينى النوم فى هذه الليلة ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سأظل أحلم بك حلم اليقظة كما يحلم المؤمنون بالجنة ..
وجلست على طرف الحشية متربعة صامتة ..
وسألتها :
ــ هل ناموا .. ؟
ــ منذ ساعة ..
ــ ولماذا لم تنامى أنت ..
ــ فكرت فى الأزهار .. إن أنفاسها تؤذيك فى الليل ...
ــ هذا صحيح .. وأنا الآن أشتم عطرك وأنفاسك وحدك استريحى .. واسترخى ..
ووضعت وسادتين خلف رأسها .. ورحت أتأمل فى جيدها الماسى .. وكانت عيناها تلمعان كلؤلؤتين نادرتين .. أما صدرها الأبيض فلم يكن فى مثل هذه الاستدارة الشهية أبدا .. وكورت شفتين كحبة الكرز .. فلمستهما بطرف شفتى .. وأمسكت بيدها ..
وسبحت فى عينيها سحابة من الدموع .. وأنا أشدها إلى صدرى ..
ولقد أحسست بحريتى .. ككائن بشرى .. وبحقى أن أعيش ساعة من حياتى ..
***
وكان ندى الصباح يفضض المدينة وأنا وحدى أدفع الباب الدوار وأدخل فندق دايتشى ..
***
وفى الليل وأنا فى طريقى إلى الملهى الذى تعمل فيه جينا .. وقبل أن أجتاز النفق .. أنقض على الشاب اليابانى جليس جينا ليقتلنى .. وخلصنى منه فى وثبة سريعة تاكاشى وكان مارا فى نفس اللحظة وانتزع من يده النصل الذى كان سيغرسه فى قلبى .. وألقاه على الأرض ..
وتيقنت فى هذه الساعة أن الشاب يعشق الفتاة فى جنون .. وعذرته .. فإن كل إنسان فى العالم يعشق هذه الفتاة لو رآها واشتم رائحة عطرها ..
===============================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة 21/6/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة " عذراء ووحش " وبمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================
قصة محمود البدوى
سكان طوكيو تسعة ملايين منهم ربع مليون على الأقل يلعبون القمار بحى شمباسى .. فى لعبة جهنمية ليس لها ضريب ..
آلة أتوماتيكية تسقط فيها القطعة من العشرة ينات فتأتى لك بخمسين قطعة فى لمح البصر .. بشرط أن تقطع أنفاسك وأنت تحركها وتلمس بأصابعك لولبها ..
وقد تسقط فيها مائة قطعة ولا يأتى لك شىء أبدا .. ولا تسمع أى رنين للعملة على الإطلاق .. ومع ذلك تظل واقفا تلعب .. وبجانبك مئات الآلات.. ومئات من المهووسين مثلك يراودهم الأمل للكسب السريع .. ولشىء يعجز عن تعليله حتى أدلر ..
تستغرق فى اللعبة وتنسى نفسك .. وتستمر فى المقامرة فى هوس المخبول غافلا عن كل شىء ناسيا الطعام والشراب إلى الصباح .. ملتذا بضجيج الآلات وحركتها الأتوماتيكية وهى تبلع الينات وتفتح فاها لتصيح هل من مزيد ..
رأيت هذا المكان وأنا أعبر الطريق متجها إلى حى ، جنزا .. وسحرنى جوه الغريب والضجيج المنبعث منه ورأيت اللاعبين واقفين أمام الآلات لا يبرحونها لحظة كأنما ربطوا بها بسلاسل من حديد ..
وبارحت الملعب وعدت إليه بعد أربع ساعات .. فرأيت نفس الوجوه واقفة على الآلات وقد انتابتها حمى اللعب ..
والغالبية من هؤلاء المقامرين لم تكن تكسب أى شىء على الإطلاق .. وكانت تذهب لتحرق أعصابها وتمزق روحها ..
وأخذت أدور فى الملعب كما يدور الفراش حول النار .. وكنت أود أن أدخل فى الصف .. ولكنى لم أجد آلة واحدة خالية .. كانت كلها مشغولة.. عن يمينى وعن يسارى وفى كل صف وقف الرجال والنساء فى استغراق عجيب ..
وغادرت المكان واتجهت إلى الشارع الخلفى .. وأنا أضرب فى الأرض على غير وجهة فى ليل طوكيو الحالم .. وكانت البالونات تدور فى سماء المدينة متألقة زاهية .. ورأيت الساعة المضيئة فى البرج تقترب عقاربها من نصف الليل ..
وأخذ الجو يبرد ولم أكن أرتدى معطفا .. فبدا لى أن أذهب إلى الفندق .. وكان قريبا لألبس معطفى ثم أعود ..
واجتزت نفق المترو .. وتحت الضوء الشاحب .. برزت لى فتاة .. وكنت أتصور .. أنها تقف تحت الباكية .. تستهوى المارة كما تفعل الفتيات فى هذا المكان .. ولكنى لمحت بابا صغيرا من الزجاج الملون عليه ستار كثيف .. فأدركت أن الفتاة خرجت من هذا الباب ..
وابتسمت لى وأحنت رأسها وقالت برقة :
ــ تفضل ..
وحركت لى الباب .. فدخلت دون تردد وكان المكان من الصغر .. بحيث تحيرت كيف يمكن أن يقوم ملهى فى برميل ..
كان أجوف ومستديرا كالبرميل تماما ..
وصدم بصرى أول ما توسطت القاعة شاب يابانى .. يجلس أمام البنك وأمامه فتاة تساقيه الشراب فى هذا الجو الشاحب ..
وكانت الستر مسدلة على النوافذ والرسومات تزين المكان .. والبالونات الصغيرة المضيئة من كل الألوان تسبح فى الجو ..
والضوء المغشى يضفى ظلا جميلا على الأركان تستريح إليه العين والنفس.. وشممت رائحة العنبر .. وأنا أجلس على كرسى مغطى بالقطيفة الحمراء .. وأمامى منضدة مزركشة عليها مصباح بلورى يلقى سائلا من الشعاع الأزرق على هذا الركن الصغير .. وعلى وجه الفتاة التى ردت الباب وجلست أمامى تحيينى فى رقة .. لقد كانت الفتاة الأخرى تعد الشراب وتجالس الزبون اليابانى ..
وكان الكومينو يضم جسما دقيق التكوين بالغ الحد فى الدقة والوجه الصغير .. فيه شحوب العذراء التى تسهر الليل قبل الأوان ..
وكان أنفها الدقيق يكاد يلامس أنفى .. وهى تسألنى فى صوت خافت بإنجليزية سليمة :
ــ ماذا تشرب .. ؟
ــ كأس من النبيذ ..
ــ ألا تشرب الساكى .. ؟
ــ إنه ينزل فى جوفى كالنار ..
فابتسمت فى نعومة تجذب القلب .. وغابت وراء باب خلفى .. وتركتنى وحيدا أمام نظرات الشاب وزميلته ..
وكان اليابانى ربع القوام عريض الصدر .. فى يده سيجارة وأمامه كأس نصف ممتلئ .. والفتاة طويلة ملساء العود تلبس كومينو أزرق وشعر رأسها معقوص فوق جبينها كالتاج .. ولم تكن تشرب وكانت نظرات عينيها تقع على وجهى من حين إلى حين ثم تعود تؤانس صاحبها ..
وجاءت رفيقتى .. ووضعت الكأس وأنا أنظر إلى شعرها المتموج الشديد السواد ..
وسألتنى بدماثة :
ــ أقادم من مانيللا .. ؟
ــ من هونج كونج ..
ــ إيه .. إنها مدينة جميلة .. كما سمعت ..
ــ أجمل المدن .. بعد طوكيو ..
ــ أعجبتك طوكيو .. ؟
ــ إنها عروس المدن جمعاء .. وأنت أجمل من رأيت فيها من النساء ..
ــ أهذا إطراء .. ؟
ــ أبدا .. إننى أقول الحقيقة .. ولولا أن بهرنى جمالك .. مادخلت إلى هنا على التو ..
ــ هل زرت قصر الإمبراطور .. وبرج طوكيو .. وجنزا .. ؟
ــ زرتها كلها .. وأنا الآن أعاود التجول فى جنزا ..
ــ سائح .. ؟
ــ أجل ..
ــ وهذه أول مرة .. ؟
ــ أول مرة ..
ــ ستبقى طويلا .. ؟
ــ شهرا ..
ــ شهر لا يكفى .. ابق شهرين ..
ــ والنقود .. ؟
ــ سأريك الأماكن الرخيصة .. وستصرف القليل .. طوكيو ليست غالية ..
ــ هذا صحيح .. إلا شيئا واحدا ..
ــ ما هو .. ؟
ــ الخمر من أيدى الحسان ..
ــ لا تشربها إذن ..
وكانت تبتسم لى مفترة الشفتين ..
ــ سأشربها من يد ..
ــ جينا ..
ــ اسم جميل .. من جينا الحسناء فقط ..
ــ ستأتى كل ليلة .. ؟
ــ كل ليلة ..
وكان صوتها يفيض حنانا ..
ــ ما اسمك .. ؟
ــ مصطفى ..
ونطقته .. ثلاث مرات بصعوبة وهى تضحك ..
ــ مهندس .. ؟
ــ فى الواقع كل المهن التى تخطر على البال ..
ــ أقرأ هذا فى خطوط يديك ..
ــ أو تقرأين الكف .. ؟
ــ قراءة جيدة .. أعطنى يدك ..
ووضعت يدى فى يدها .. وكانت يدها رخصة ناعمة .. واقتربت منى بعينيها الباسمتين وأنفاسها المعطرة .. وقالت كلاما كثيرا لم أعره التفاتة .. وكنت أنظر إلى عينيها وهى تتحدث وفى صوتها نفس النبرات المثيرة .. وأشتم رائحة لحمها .. وكانت تحرك يدى فى راحتها وتنظر إلى نظرة لا يخطئها رجل ..
وسألتنى :
ــ أفهمت كل ما قلته .. ؟
ــ بالطبع ..
ــ ماذا قلت .. ؟
ــ إننى أحب فتاة فى حانة ...
ــ أهذا كل ما قلته .. ؟
ــ هذا زبدته ..
وضحكت وأخذنا نتحدث .. وكان الشاب اليابانى يتابعنا بنظراته ويقترب بأذنه كأنه ينصت لحديثنا .. فأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وأنا أفكر فى القمار .. فى الآلة الجهنمية ..
وسألتنى :
ــ لماذا أنت مستعجل .. والليل طويل وأنت وحيد فى المدينة ..
ــ تجولت كثيرا .. وأحس بالتعب ..
ــ ومتى أراك .. ؟
ــ غدا .. سأجىء بعد العاشرة مساء ..
ــ حقا .. ؟
ــ حقا ..
وسلمت عليها وخرجت من المكان والليل فى هزيعه الثانى .. وقد خفت حركة المواصلات ولكن المدينة ظلت ساهرة تتألق بأنوارها الساطعة ..
***
ولما دخلت ملهى القمار كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا وألفيت اللاعبين وقوفا على تلك الآلات الجهنمية ولكن الزحام قد خف .. وأشبعت رغبتى فى اللعب .. وأنا أتلذذ من الانفعال الذى كان يصيبنى بعد كل ضغطة على الزر .. ولقد عجبت جدا لطباع الإنسان وهوسه ..
وكانت قد انقضت ساعة كاملة وأنا ألعب دون أن أكسب شيئا .. وكلما هممت بالانصراف يعاودنى الأمل فى الكسب فأبقى وألعب ..
وانتابتنى حالة من الهياج وأنا أقرع الآلة بعنف بآخر قطعة فى جيبى من ذات العشرة ينات ..
وسمعت من ورائى بعد هذه الحركة صوتا هادئا يسألنى :
ــ هل خسرت كثيرا .. ؟
ــ كل ما معى من قطع برونزية ..
ــ وتريد أن تستمر فى اللعب .. ؟
ــ سأفك ورقة بمائة ين .. وألعب بها فإن خسرتها .. لن ألعب بعدها أبدا ..
وابتسم الرجل وهو يسمع منى هذا الكلام .. كان يعرف أننى لا أستطيع أن أنفذ هذا الوعد وأن المقامر لا إرادة له ..
وفككت الورقة ..
ولما هممت بأن أضع أول قطعة من البرونز فى ثقب الآلة سمعت الرجل يقول بصوته الهادئ :
ــ أتسمح بأن ألعب لك هذه المرة .. ؟
ووجدته يتقدم نحو الآلة .. فناولته القطعة ووضعها بيده وضغط على الزر ضغطة خفيفة .. ضغطة خبير .. فتساقطت مئات القطع .. فى الخزان ..
فقال وقد غلبه السرور :
ــ اجمع .. حظك ..
ــ إنها نقودك ..
ــ ألم أقل لك بأنى سألعب من أجلك .. خذ نقودك ..
وسألته وأنا أضع النقود فى جيبى ..
ــ هل أنت محظوظ دائما ..؟ وتكسب من أول جولة .. ؟
ــ إننى أكسب عندما ألعب للآخرين ..
ــ ولنفسك .. ؟
ــ لا أكسب قط ..
ــ لماذا .. ؟
ــ المسألة .. كقانون الجاذبية .. وتحتاج إلى شرح طويل ..
ــ هل هناك ما يمنع من شرحها لى .. خصوصا وأننى خسرت كثيرا هذه الليلة .. ؟
وضحك الرجل ..
ــ لست أول خاسر .. وأخاف إن شرحتها لك أن يلازمنى النحس دوما وأفقد السيطرة على الآلة فأرجو أن تعفينى .. وسيظل الأمر سرا مغلقا .. وأنت تعرف هواجس المقامر ...
وابتسم المستر تاكاشى الذى فى رأسه تجارب رجل الخمسين فى رقة وهو يقول هذا وتحرك بجسمه وكان ربعة وثيق التركيب عريض الصدر حتى تصورته يشتغل بالمصارعة ..
وقلت له وقد أحسست بالرغبة فى أن أجازيه على صنيعه .. وكنت قد شعرت بالجوع لأنى تعشيت فى الساعة السابعة ..
ــ هل تسمح بأن نشرب كأسين من النبيذ .. ونأكل شيئا ..
ــ لا بأس .. بشرط أن نذهب إلى مطعم شعبى .. فلا أحب أن أكلفك كثيرا ..
وخرجنا إلى الشارع .. وفى مطعم صغير .. جلسنا إلى مائدة من الرخام وجاءت شابة ترتدى المعطف الأبيض لتخدمنا ..
وكانت صبوحة الوجه ضاحكة .. فطلبنا نبيذا .. ولحما مشويا على النار وشوربة ساخنة ..
وسألت تاكاشى على الطعام :
ــ هل هذا هو المكان الوحيد الذى يلعب فيه مثل هذه اللعبة فى طوكيو..؟
ــ إنه أشهر مكان ..
ــ وهل تلعب فيه كثيرا .. ؟
ــ إنى دائم التردد عليه .. بعد قنبلة نجازاكى ..
وعلا وجهه السهوم فأطرق وهو يدير الكأس بين يديه ..
ثم استطرد :
ــ وجدته المكان الوحيد الذى أقضى فيه الليل .. مستغرقا وملتذا باللعبة نفسها .. ولم يكن فى مقدورى أن أفعل شيئا آخر ..
ــ هل خسرت تجارتك فى الحرب ..
ــ فقدت زوجتى .. وكانت كل شىء بالنسبة لى .. عروس فى شهرها الثانى .. ولم تصب بإصابة مباشرة ولكنها عانت من تأثير صدمة نفسية قاسية .. وعاشت أسبوعا فى عذاب لا يوصف ولا يحتمله بشر ثم ماتت فى ساعة رهيبة وأنا الآن أجتر الذكريات ..
ــ وما زلت تذكر الحادث .. ؟ .. رغم مرور كل هذه السنين .. ؟
ــ أجل كأن الأمر حدث بالأمس ولا زال فى أذنى الدوى المرعب .. ولقد تعذبت المسكينة طويلا وكانت أنضر من رأيت من النساء .. هل شاهدت (الكوين بى) ورأيت البنات الجميلات هناك فى هذا المرقص .. أحلى بنات طوكيو .. ولكن زوجتى كانت أجمل من هؤلاء جميعا .. لم يكن هناك من هو فى مثل جمالها ونضارتها ..
ولقد حصلت معها على أكثر مما حلق له خيالى .. عرفت طعم الحب .. وطعم السعادة .. تزوجنا على حب ملتهب جارف .. ثم أنبت هذا كله .. وأنسلخ فى لحظة دامية ..
ولقد أحسست بعذاب لا يوصف .. فكنت أهيم على وجهى فى الليل كالضال .. وأخيرا اخترت هذا المكان .. لأنسى نفسى .. وأنسى الحرب .. والذين يصنعونها ..
وسألته :
ــ وهل نسيت .. ؟
فوضع الكأس :
ــ أحاول أن أنسى .. وإننا لا نقاوم الشر .. بل نغذيه .. والحرب من صنع أيدينا نحن البشر .. وعلى الطبقات الكادحة من الشعوب فى العالم كله يقع العبء الأكبر فنحن الذين نصنع القنابل والمتفجرات بأيدينا .. ولذلك نتلقى كل ويلاتها ..
ــ وماذا تفعل إذا اعتدى عليك مثلما اعتدى علينا .. ؟
ــ أين .. ؟
ــ فى حرب السويس ..
ــ هذا شىء آخر .. هل أنت مصرى .. ؟
ــ أجل .. ولقد هوجمنا غدرا .. ولم نكن نفكر فى الحرب إطلاقا ..
ــ إن الموقف هنا يختلف .. وفى هذه الحالة نقاتل إلى آخر رمق ويقاتل معنا حتى الأطفال وأنت تعرف أن العالم كله كان معكم .. فى ذلك الوقت ..
وسألنى بعد أن فرغنا من الطعام وأشعل لنفسه سيجارة :
ــ هل اشتركت فى هذه الحرب كمقاتل .. ؟
ــ كنت فى الدفاع المدنى .. ولكنى لا أعصم نفسى من القلق .. كنت أفكر فى مصير الأسرة بعد أن يذهب عنها الرجل الذى يعولها ..
ــ هذا إحساس طبيعى .. إحساس كل إنسان مقاتل .. وكل ما نرجوه هو الاشتراك فى حرب أخرى .. وأن تعيش البشرية فى سلام ..
ونظر إلى الفتاة .. وهى تقدم لنا القهوة وسألنى :
ــ جميلة ..
ــ غاية فى الجمال .. والدماثة ..
ــ وطوكيو .. ؟
ــ إنها أجمل المدن على الإطلاق ..
ــ تصور هذا الجمال كله .. عندما يذهب به صاروخ واحد .. فى ليلة عاصفة ..
ــ إن هذا محزن حقا ..
ــ والتفكير فيه جنون مطبق .. ولماذا يعيش الناس على هذا الجنون .. وهذا القلق المدمر ..
ــ والخوف من الحرب هو الظاهر فى عصرنا ..
وقال تاكاشى :
ــ هذا صحيح إن القلق طابع العصر حقا .. وهو الذى يدمرنا .. ذهبت إلى هونج كونج فى عمل منذ سنوات .. وأحبتنى فتاة ..
ــ صينية .. ؟
ــ أجل صينية .. وكانت .. قلقة .. تخشى أهلها ... وكنا نتعذب .. ويظهر أثر ذلك فى نفسينا ..
كان الحب مشوبا بالمرارة وهذا عذاب غليظ ..
ــ ولماذا لا تتزوجها .. ؟
ــ إنها لا تحب أن تجىء إلى طوكيو .. وأنا لا أرغب فى العيش فى هونج كونج ..
ــ والنتيجة .. ؟
ــ العذاب .. وهذه هى الحياة ..
وخرجنا نتجول فى المدينة مع أنفاس الصباح .. وقبل أن يودعنى الرجل ويأخذ طريقه قدمت له هدية من صنع خان الخليلى علبة سجائر مفضضة .. فتناولها وهو ينحنى بقامته خمس مرات ..
***
وكنت خارجا عصر يوم من محطة المترو وصاعدا الدرجات سريعا .. عندما قابلت جينا فتاة الملهى هابطة السلم وحدقت فى وجهى وعرفتنى ..
وقالت بعذوبة :
ــ إنك لم تأت كما وعدت .. ؟
ــ سآتى الليلة ..
ــ سأنتظرك ..
ومضت سريعا .. وأنا أسمع وقع أقدامها على الدرج ..
***
وفى الليل ذهبت إلى الملهى .. وكان كعادته ساكنا .. وكان هناك أربعة من الرواد .. يرتدون جميعا الملابس الأوروبية وفى سن متقاربة .. يشربون الخمر ويحادثون فتاتين .. بخلاف جينا التى كانت تجالس الشاب اليابانى الذى رأيته أول مرة ..
فلما رأتنى استأذنت من الشاب وأسرعت نحوى .. فجلسنا فى ركن نتجاذب أطراف الحديث ..
وكان الدخان يملأ المكان .. والنوافذ كلها مغلقة وعليها الستائر الكثيفة.. فشعرت بالضيق .. خصوصا وأن الشاب اليابانى كان يتابعنا بنظرات المغتاظ وينصت لحديثى مع جينا .. ولم أمكث طويلا وهممت بالانصراف ..
فسألتنى :
ــ ذاهب .. ؟
ــ أجل ..
ـ هل أنت متضايق من المكان ..
ــ رائحة الدخان تهيج رئتى ...
ــ يمكن أن نصعد إلى الدور العلوى ...
ونظرت إلى السلالم الخشبية الدقيقة التى تتوسط البناية ..
وقلت لها :
ــ إننى جئت لأعرض عليك نزهة فى الضواحى ..
ــ متى .. ؟
ــ الآن ..
ــ إن الملهى يسهر طول الليل ..
ــ نذهب فى الصباح إذن ..
ــ فى الصباح أشتغل فى مطعم مارتا وأكون هناك فى الثامنة ..
وفكرت ..
تشتغل فى الصباح فى مطعم .. وفى الليل فى ملهى .. وهى فى هذه السن الصغيرة .. ولمن تكدح .. وتحمل نفسها هذا العذاب .. كانت قوية البنية موفورة الصحة وبشرتها الصفراء دافئة ..
وسألتنى :
ــ ما الذى تريده من النزهة فى الضواحى .. ؟
ــ أحب أن أشتم أنفاس الورود هناك وأنت معى .. وأرى بيتا يابانيا .. على حقيقته ..
ــ ترى بيتا يابانيا .. أترغب فى ذلك حقا .. ؟
ــ إنها أحب الرغبات إلى نفسى ..
ــ إذن سنرى بيتا فى ضاحية ..
ــ متى .. ؟
ــ سأحدث والدتى .. وأجيئك بالجواب غدا ..
وتركتها منشرح القلب ..
***
وفى المساء الثانى حدثتنى وهى مسرورة أن أمها ترحب بزيارتى ..
واتفقنا على أن نذهب إلى بيتهم فى يوم الاثنين .. ونتجول ساعة أو ساعتين بالتاكسى قبل الذهاب إلى الضاحية .. وستعفى نفسها من العمل فى الملهى فى هذه الليلة لتكون فى صحبتى ..
***
وانتظرتها يوم الاثنين فى محل أكيرا .. وجاءت فى الميعاد وكانت ترتدى ثوبا أوروبيا بسيطا للغاية .. يكشف عن قوامها النحيل وصدرها الناهد .. وبدت جذابة شهية ..
وركبنا تاكسى انطلق بنا خارج المدينة .. وكنت أحمل هدية لها وهدية لأمها ..
وكانت تود أن ترى هديتها وتفتح العلبة ولكنى أمهلتها إلى أن نصل إلى البيت فظلت تترقب المفاجأة ..
وكان الهواء شديدا فأخذ يداعب شعرها .. فكانت تدفع خصلته بيديها .. فأغلقت النافذة الزجاجية الصغيرة .. وأمسكت بيدها .. فتركتها فى يدى ..
وكان الجو قد تلبد بالغيوم وأخذت الأمطار تهطل بغزارة .. وبدت الأمطار الصغيرة عبر الزجاج وكان الطقس باردا .. وكنت أحس جسمها الحار إلى جانبى ..
وكنت عبر نافذة السيارة أرى البيوت اليابانية الخشبية من طابق واحد .. والبالونات الزاهية والقناديل من كل الألوان على الأبواب الصغيرة وفى مدخل الحدائق .. وكان الطريق يلمع زاهيا متألقا كالأبنوس ..
وكان سائق العربة رجلا مربوعا بيضى الوجه صامتا وكان قد تلقى التعليمات من جينا ثم انطلق لا يلوى على شىء ولامست بطرف شفتى أذنها الصغيرة فظلت جامدة وفمها مغلقا ثم ردتنى بلطف وهى تشير إلى السائق ومرآته ..
وتوقف التاكسى أمام بيت يابانى صغير .. وفتحت الباب جينا وهبطت على الأرض .. وكنت أتأمل قامتها وجمالها والحب الجديد الذى ملأ كيانى ..
وقابلتها سيدة مسنة على الباب انحنت لنا .. ودخلنا فى بهو فسيح تدور أبوابه بالأكر ثم انفرج الباب .. عن حجرة صغيرة أنيقة ذات نافذة زجاجية كبيرة تطل على الحديقة وبدت الورود والأزهار تعطر المكان كله ..
وجلسنا على الحشيات وجاءت لى بقدح الشاى بعد أن غيرت ثوبها الأوروبى ولبست الكومينو .. وتركتنا أمها وحدنا فى القاعة وأخذت جينا تغنى على القيثار .. وأنا أتأمل بشرتها الملساء .. من خلال ثوبها الحريرى .. ووجدت الفرصة مناسبة لأقدم لها الهدية وفتحت العلبة .. ووضعت العقد الماسى الذى اشتريته لها فى عنقها ..
ووضعت الآلة جانبا وهى تطير من الفرحة وأخذت تتزين .. وترجل شعرها .. وكانت هناك مرآة تعكس صورتها وكل جمالها ..
***
وجلسنا نتعشى إلى مائدة واطئة وكان معنا أمها وأخوها الصغير كوزو ..
وبعد العشاء تحدثنا فى كل الشئون وكانت تترجم لأمها حديثى .. واقترب الليل من منتصفه وكنا لا نزال نسمع صوت المطر غزيرا ومتدفقا ..
ومع انهطاله الشديد استأذنت لأعود إلى الفندق ..
ولكن جينا وأمها منعانى من الخروج فى المطر وأعدا لى غرفة خاصة ..
ووجدت نفسى فى غرفة صغيرة جميلة مفروشة بالحشيات على الأرض ..
ونمت بالكومينو .. ولعله من مخلفات المرحوم والد جينا .. وأغمضت عينى ملتذا .. وأنا أشعر بأنى أضع جسمى على ريش النعام ..
وأحسست بالباب الصغير ينفرج .. على الأكر .. ودخلت جينا وكانت قد نسيت أن تحمل الأزهار بعيدا عن الغرفة ..
وشعرت بى فاتحا عينى فسألتنى :
ــ هل أنت صاح .. ؟
ــ إنى أحلم بالمترو .. منطلقا فى الليل ..
ــ لم يعد هناك مترو ..
ورأيت العقد الماسى .. لا يزال على صدرها .. وكانت عيناها تشعان كأنهما جوهرتان فى الضوء الباهت ..
وسألتنى وهى تتثنى :
ــ أتريد شيئا .. ؟
ــ أتمنى لو جلست لنتحدث قليلا .. فلن يأتينى النوم فى هذه الليلة ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سأظل أحلم بك حلم اليقظة كما يحلم المؤمنون بالجنة ..
وجلست على طرف الحشية متربعة صامتة ..
وسألتها :
ــ هل ناموا .. ؟
ــ منذ ساعة ..
ــ ولماذا لم تنامى أنت ..
ــ فكرت فى الأزهار .. إن أنفاسها تؤذيك فى الليل ...
ــ هذا صحيح .. وأنا الآن أشتم عطرك وأنفاسك وحدك استريحى .. واسترخى ..
ووضعت وسادتين خلف رأسها .. ورحت أتأمل فى جيدها الماسى .. وكانت عيناها تلمعان كلؤلؤتين نادرتين .. أما صدرها الأبيض فلم يكن فى مثل هذه الاستدارة الشهية أبدا .. وكورت شفتين كحبة الكرز .. فلمستهما بطرف شفتى .. وأمسكت بيدها ..
وسبحت فى عينيها سحابة من الدموع .. وأنا أشدها إلى صدرى ..
ولقد أحسست بحريتى .. ككائن بشرى .. وبحقى أن أعيش ساعة من حياتى ..
***
وكان ندى الصباح يفضض المدينة وأنا وحدى أدفع الباب الدوار وأدخل فندق دايتشى ..
***
وفى الليل وأنا فى طريقى إلى الملهى الذى تعمل فيه جينا .. وقبل أن أجتاز النفق .. أنقض على الشاب اليابانى جليس جينا ليقتلنى .. وخلصنى منه فى وثبة سريعة تاكاشى وكان مارا فى نفس اللحظة وانتزع من يده النصل الذى كان سيغرسه فى قلبى .. وألقاه على الأرض ..
وتيقنت فى هذه الساعة أن الشاب يعشق الفتاة فى جنون .. وعذرته .. فإن كل إنسان فى العالم يعشق هذه الفتاة لو رآها واشتم رائحة عطرها ..
===============================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة 21/6/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة " عذراء ووحش " وبمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================
حكاية من طوكيو
قصة محمود البدوى
جلست فى قاعة الشاى بفندق دايتشى ذات يوم من أيام الخريف .. أتأمل فى الجمال المحيط بى وأتطلع إلى الوجوه الجديدة التى تدخل من الباب الدوار..
وكان البهو مزدحما بالنزلاء .. والفتيات العاملات يدفعن العربات الصغيرة المحملة بالحقائب فى نشاط لا يوصف ..
وكانت الأجراس تدق والمصاعد طالعة نازلة .. كل شئ يتحرك بسرعة عجيبة كخلية النحل ..
وفجأة سمعت الفتاة التى اعتادت أن تنادى على النزلاء بالميكرفون تصيح بالإنجليزية :
ــ مستر .. إبراهيم كامل .. مطلوب فى التليفون ..
فرفعت رأسى .. متعجبا وأنا أسمع هذا الاسم فى مدينة طوكيو .. ونظرت إلى آلة التليفون الموجودة بجوارى .. وركزت البصر .. وبرزت شابة .. وتناولت السماعة سريعا ..
وظلت تتحدث دقيقتين .. وكان صوتها ضعيفا فلم أسمع كلمة من حديثها.. ولكننى أدركت أن لها علاقة بالشخص المطلوب .. وبعد أن انتهت المحادثة دخلت من سياج الممر .. وجلست إلى مائدة قريبة منى فى قاعة الشاى .. وكانت متوسطة الطول بيضاء .. تقص شعرها الاجارسون وترتدى فستانا من قطعة واحدة قصيرا إلى الركبة .. ومنسجما مع قوامها الجميل ..
وكانت عيناها سوداوين .. ووجهها طويلا وعلى خدها الأيمن شامة سوداء .. كغرسة دبوس كبير تركت الخد يدمى ..
وكانت تدخن وتنظر مثلى إلى الباب الخارجى ..
وتركت كرسيها أكثر من مرة لتتحدث فى التليفون .. ثم عادت إلى المائدة نفسها .. وفى المرة الأخيرة بدا على وجهها القلق ..
وحوالى الساعة الواحدة بعد الظهر ظهر شاب نحيف القوام .. وجلس بجوارها .. وكان يرتدى حلة رمادية ذات خطوط بيضاء خفيفة .. ويضع على عينيه منظارا سميكا ..
وكان يبدو خجولا وعينيه أبدا متجهتين إلى الأرض كأنها تبحث عن شئ ضاع منه .. منذ لحظات ..
وأخذ يحادثها بلهجة أهل القاهرة بصوت جعلنى أسمع الحديث كله .. وحدثته هى عن شركة السياحة التى طلبته فى التليفون .. وعن الصباح الذى ضاع بنومه ..
وسألت فى استغراب :
ــ كيف ينام إنسان فى طوكيو إلى الظهر هل نحن فى حلوان .. ؟
وكانت مستاءة .. ثم ضحكت وأشعلت سيجارة ..
وبعد نصف ساعة خرجا معا من الباب الدوار ..
***
وفى الليل .. رأيتهما يتقدمان فى اللحظة التى تقدمت فيها إلى مكتب الإستقبال يأخذان مفتاح غرفتهما .. وسمعت رقم الغرفة .. وأدركت أنهما فى الطابق السادس .. وهو الطابق الذى أقيم فيه ..
وفى المصعد .. تعارفنا .. واستغربا وجودى فى هذه المدينة .. فقد كانا يتصوران أنهما المصريان الوحيدان فيها .. وسرا لأنهما وجدا مواطنا فى الفندق نفسه ووقفنا نتحدث بحكم العادة المصرية قليلا فى الممر .. ثم حييتهما وانصرفت إلى غرفتى ..
***
وفى صباح اليوم التالى وجدت رجاء .. جالسة وحدها تتناول الإفطار فى قاعة الطعام .. فحييتها وأخذت أبحث عن مائدة خالية .. فقد كان المطعم ممتلئا ..
وقالت برقة :
ــ تفضل .. هنا .. معى ..
ــ وإبراهيم بيه .. ؟
ــ إنه نائم .. وسيضيع عليه الإفطار ككل يوم ..
ــ ولماذا لم توقظيه ..؟
ــ أيقظته .. ولكنه فتح عينيه .. ونام ..
ــ لعله يسهر كثيرا ..
ــ أبدا .. إنه نام بعد أن تركتنا أمس بلحظات ولكن هذه هى عادته .. ومن الصعب أن يتخلص المرء من عادة متمكنة منه ..
ورأيت أن أغير مجرى الحديث فسألتها :
ــ هل أعجبتك طوكيو ..؟
ــ أجل .. إنها جميلة ... جميلة ..
ــ وإلى متى ستبقون فيها ..
ــ إلى أن تفرغ النقود .. وأنت ..
ــ إنى مسافر فى نهاية الشهر ..
ــ سيكون لدينا وقت طيب .. نقضيه فى صحبتك إذن ..
ــ شكرا جميلا .. وإلى أين تذهبان هذا المساء ..؟
ــ سننتظر ما يقرره الدليل .. فالغريب .. لا يعرف طريقه فى هذه المدينة..
ــ هذا صحيح .. اذهبا إلى الكوين بى .. وإلى جولان جنزا .. وإلى ملهى السفينة .. وملهى الحريم .. وكابريه ميماتسو ..
ــ كل هذا شاهدته ..؟
ــ بالطبع ..
ــ هل ترغب فى أن تشعل سيجارة ..؟
ــ مرسى .. إننى لا أدخن ..
ــ يضايقك الدخان ..؟
ــ أبدا ... خدى راحتك ..
ولما جاءت الفتاة بفاتورة الطعام .. قيدت الحساب .. على رقم غرفتى .. ولم تكن المسألة على بساطتها تستحق المعارضة من جانبها ..
فابتسمت وشكرتنى ..
وخرجنا إلى الصالة .. وأستأذنت بعد ساعة لتصعد إلى زوجها بعد أن حاولت إيقاظه .. بالتليفون أكثر من مرة .. ولكنها لم توفق .. وكنت فى طريقى إلى جامعة طوكيو .. فبارحت الفندق ..
***
وأصبحت أقابل رجاء كل صباح فى قاعة الطعام .. حوالى الساعة السابعة.. وكنا نفطر فى نصف ساعة .. ولما كنا لا نستطيع أن نجلس فى قاعة الشاى قبل الساعة التاسعة فقد كنا نخرج ونجول فى المدينة .. أو نركب المترو.. فى نزهة قصيرة .. ونعود سريعا إلى الفندق لنوقظ زوجها إبراهيم ..
وكانت تدق له التليفون من مكتب الاستقبال ولكنه كان لا يرد .. ولا ينهض من فراشه أبدا .. فتضطر أن تصعد إليه .. وتعود بعد دقائق قليلة كاسفة البال .. وهى تقول لى :
ــ اعمل معروف .. اصعد معى .. ربما يخجل منك ..
وكنت أكتفى بأن أصعد معها .. إلى الجناح الذى فيه الغرفة .. وأقف فى مكتب الاستقبال هناك فى أنتظارها حتى توقظه أو أتصل به بالتليفون .. لأنى كنت لا أحب أن أدخل على شخص غريب غرفته وأراه فى مباذله ..
وكان فى سبع حالات من تسع لا يصحو ولا ينزل معها ..
وذات مرة ألحت على إلحاحا شديدا .. لأدخل عليه الغرفة .. فوقفت على الباب .. ورأيته يفتح عينيه بثقل شديد ولا يكاد يرانى .. وقد وضع المخدة على رأسه المصدوع .. وتكور كالشراب البالى ..
واضطرب لما سمع صوتى ووعد بأن يلبس وينزل إلينا فى صالة الفندق بعد ربع ساعة وتركناه ونزلنا ننتظره ..
وفى ساعة انتظاره أخذت رجاء تحدثنى عن سبب رحلتهما .. كانا فى زيارة قريب لهما موظف فى إحدى شركات الطيران الكبيرة بنيودلهى .. فرتب لهما زيارة هونج كونج .. ومن هونج كونج وجدا الفرصة سانحة .. لزيارة طوكيو ..
ولم يكن إبراهيم فى أول الأمر يحب المدينة .. فلما عرفها ووجد فيها بغيته من الخمر .. والملاهى .. أحبها .. حتى أصبح لا يبغى الرحيل عنها ..
وقالت لى إن زوجها يشتغل محاميا .. فى القاهرة .. ولكنه لم يذهب إلى المحكمة.. أكثر من خمس مرات طول حياته كمحام .. فهو دائما يوكل قضاياه إلى زميل له .. وكلما عرضت قضية هو موكل فيها طلب زميله التأجيل .. حتى إن القاضى عرفه .. وبمجرد أن يراه يقول ضاحكا :
ــ تأجيل يا استاذ .. ؟
وقالت لى إن زوجها كسلان جدا .. ولكنه طيب جدا .. أيضا ..
ولم أكن قد كونت فكرة صحيحة عنه .. وكان كل الناس طيبين فى نظرى .. حتى وإن سببوا لنا المتاعب فهى طيبة كذلك .. وإن كانت قد أخذت تقيدنى فى هذه المدينة الكبيرة ..
وكنت من قبل أنطلق على هواى من الساعة الثامنة صباحا ..
ولكننى بعد أن التقيت بها أصبحت مقيدا بحركاتها ورغباتها ..
وكنا نحاول بكل الوسائل .. أن يخرج معنا زوجها .. فى جولة الصباح .. ولكن كانت محاولتنا كلها تضيع هباء ..
ولما أخفقت وسائلنا كلها لإيقاظه .. أصبحت أشفق عليها من تركها وحدها .. تجول حزينة متألمة .. فى هذه المدينة الضخمة ..
وكنت أحيانا .. أزوغ منها لأنى شعرت بأنها تقيد حريتى تماما .. فسألتنى:
ــ هل أصبحت أضايقك ..؟
ــ أبدا .. كيف تفكرين فى هذا ..؟
ــ لماذا الهروب إذن ..؟
ــ كان علىّ بعض الدراسات .. وقد فرغت منها ..
ــ إذن .. فلن تتركنى .. وحدى .. لأحزانى ..؟
ــ أبدا .. لن يحدث هذا مرة أخرى ..
وتألمت .. وأصبحت معها كظلها .. وعجبت للأيام التى تجمع شخصين ولا رابطة بينهما .. وتفرق بين شخصين وبينهما كل الروابط الاجتماعية ..
وكان زوجها طيبا .. وديعا .. وبرغم كل ما كانت تبذله من عناية ورعاية.. فكنت ألاحظ أنه لا يحبها ولا يقابل عواطفها بمثلها .. كان معها جافا خشنا وكان يعيش معها .. كما قدر لكل زوجين مختلفين فى الأهواء والمشارب .. يعيشان عيشة فارغة .. من كل إحساس بسعادة القلب ..
وعرفت منه أن والدته ماتت وهو صغير فى السادسة من عمره .. فأدركت لماذا فشل زواجه من رجاء .. فقد كان يحتاج إلى حنان الأمومة الرقيق .. ويود أن يضع رأسه على صدر أم ..
فلما تزوج رجاء وكانت فى الثامنة عشرة من عمرها ، قليلة الخبرة والتجارب لم تبادله الحنان الذى كان يتوق إليه ويرغب فيه .. وشعر بفراغ موحش .. ونفر من البيت حتى لا يراها وأخذ يسكر .. ويسكر ..
وكان همها كله ، كسائر الفتيات الصغيرات .. أن تلبس أجمل الثياب .. وتزهو على قريناتها بما لديها من جواهر نادرة ومعاطف الفراء الغالية التى تأتيها خصيصا من الخارج .. وأن تسكن فى فيللا أنيقة بضاحية مصر الجديدة.. وأن يكون فى البيت أكثر من سيارة .. وأكثر من خادم ومربية .. حتى وإن لم يكن عندهم أطفال ..
ثم ما لبثت أن تبينت أن هذا كله هباء .. وقبض ريح .. وأن الشئ الوحيد الذى كانت تبحث عنه والذى تزوجت من أجله لم تجده .. فعاشت فى عذاب مدمر لأعصابها ..
والواقع أنها كانت السبب فى شقائه .. كما كان هو السبب المباشر لتعاستها ..
ولكن لا شئ يمكن أن يفعله الإنسان أمام حكم القدر ..
ووجدا أخيرا .. أن خير ما يفعلانه هو أن يسافرا .. ولعل السفر يقرب ما بينهما من مسافة ولعله يرجعهما إلى بعضهما .. ويردهما زوجين حبيبين ..
***
وكنت أسر وأنا أجد إبراهيم .. خارجا من المصعد فى العصر وهو فى أحسن حالاته .. وراءه رجاء أكثر سرورا منه ..
ونجلس فى صالة الفندق قليلا لنشرب القهوة .. ثم نخرج ونجوس فى أنحاء المدينة .. ونزور المتاجر الكبيرة ومنها ننطلق إلى الملاهى .. أو نذهب إلى الاوبرا ..
وكنا بعد أن نخرج من الأوبرا .. نجارى رغبته فى أن يدخل حانة ــ لأن منعه من هذا كان مستحيلا علينا ــ ليشرب كأسا .. فما كنا نحب أن نتركه وحده مخافة أن يحدث له حادث وهو ثمل .. فى مدينة تنطلق فيها السيارات فى الليل كالصواريخ ..
وكنا نحاول بكل الوسائل أن نجعله يقلل من الشراب ما استطعنا .. ولكنه كان ما يلبث أن يندفع على هواه ، ويطلب ثلاثة كئوس معا .. وكنت أتألم وهو يغازل فتيات الحانات أمام زوجته .. وكانت هى تجلس جامدة المحيا .. ووجهها لا يعبر عما فى نفسها من ألم قاتل .. وكنت أحاول أن أخفف عنها وقع المسألة .. بأن اقلب الجو كله إلى مزاح ومرح .. ولكنها كانت تفهم أننى أمثل أمامها هذه المسرحية وكان هذا يزيد الموقف حرجا .. ويزيدنا شعورا بالتعاسة التى يضع الإنسان فيها نفسه من حيث لا يحتسب ..
***
وذات ليلة انفلت منا إبراهيم .. ونحن فى ملهى .. ألكروف .. وخرجنا نبحث عنه ووجدناه فى ملهى الحريم .. وكان جالسا مع جارية حسناء كأنها من جوارى هارون الرشيد .. وتلبس ثياب الجوارى نفسها .. وزادها الثوب الشرقى فتنة على فتنتها ..
وكان المكان شاعريا وهادئا .. ولكن إبراهيم كان ثملا .. ويحاول لثم الفتاة فى صدرها .. وهى تدفعه عنها بدلال ..
وحاولت أن أمنع زوجته من رؤية هذا المشهد ..
ولا أدرى أشاهدته أم لا .. ولكن الشئ الظاهر لى أن وجهها ظل محتفظا بهدوئه ..
وخرج إبراهيم معنا .. والفتاة تتعلق به حتى الباب وكانت كاشفة عن كل مفاتنها وكل صدرها .. وتصورت أن رجاء صديقتى .. ولذلك لم تقلع عن مجونها إلى آخر لحظة ..
***
وكان الفندق قريبا منا .. فرأينا أن نقطع المسافة على أرجلنا .. وبعد خطوات قليلة ـ وكنت أسير متأخرا عن الزوجين ـ برز لى شاب يابانى .. يرتدى معطفا قصيرا أبيض .. وعرض أن يرينى مشاهد خاصة فى طوكيو .. وقابلته بالرفض ولكنه ظل يلاحقنى ويعرض مباذله ..
ورأيت أن أتأخر عن رجاء وإبراهيم بضعة خطوات حتى لا تسمع رجاء كلام الشاب .. وحتى لا يخدش حياءها وصرفته أخيرا .. بعد أن ظل يلاحقنى فترة طويلة .. وتحت نفق المترو ..
ورأيت سربا من الحسناوات اليابانيات من بنات الليل .. وهن فى حفل من الزينة .. وكانت وجوههن جميعا ... كأنها مطلية بالكريم الأبيض .. اللامع .. وكن مستغرقات تحت البواكى وملتصقات بالحائط ..
وكن فى معاطف من الفراء من كل الألوان .. وصحن بى بالإنجليزية واليابانية :
ــ تعال يا شاب .. نقضى ليلة ممتعة ..
فمررت مبتسما دون أن أبادلهن الكلام ..
ورأيت واحدة منهن حلوة ورقيقة المشاعر .. وكانت تقف دائما وحدها تحت باكية قريبة من الفندق صامتة .. وتكلمنى وأنا مار عليها بعينها دون أن تنطق حرفا .. وكانت صامتة فى وقفتها ولكنها متألقة .. ورفعت وجهى إليها هذه الليلة والتقت عيوننا بضعة ثوان .. ثم تركتها .. ودخلت الفندق لألحق بالزوجين ..
ووجدتهما ينتظران المصعد .. وصعدنا معا .. وقبل الدور الرابع ظهر على إبراهيم التعب ولم يستطع الوقوف .. فجلس على أرض المصعد .. وأغمض عينيه .. ونظرت إلىّ رجاء بتوسل وقد أصبح لون وجهها كالقرمز ..
وتعاونت مع عامل المصعد فاستند علينا حتى بلغنا به باب غرفته .. واضطررت لأول مرة أن أدخل غرفة الزوجين .. ووضعناه فى الفراش .. وخلعت رجاء سترته ودثرته .. وأغلق عينيه فخففت له الضوء فى الغرفة .. وبقيت معها قليلا ثم سلمت عليها وخرجت ..
ولكن بعد أن خلعت بذلتى وتهيأت للنوم .. سمعت نقرا على بابى .. ولما فتحته وجدت رجاء وعلى وجهها الذعر ..
وقالت باضطراب :
ــ إن إبراهيم يموت ..
ولما دخلت عليه .. كان وجهه يحكى وجوه الموتى .. فاضطربت ..
ورفعت السماعة .. وطلبت من مكتب الاستقبال أى طبيب ..
وقبل أن يجىء الطبيب .. تقيأ .. على حجر زوجته .. وحنت عليه .. ولم تتأفف من فعلته ..
وشعرت فى هذه الساعة بعطف شديد عليها .. وبغيظ يحملنى على ضربه ..
ولما جاء الطبيب .. أسعفه بالعلاج وطمأننا .. وقال لنا إنه فى الصباح سيكون فى أحسن حالاته ..
وجلست وبجوارى رجاء فى حجرة الفندق الصغيرة .. وأمامنا الرجل .. الذى عرفته من أيام فقط وتوطدت المعرفة إلى صداقة بسببها هى .. وبسبب ما وجدته فيه من طيبة .. تجل عن الوصف ... وكان المريض قد نام .. وبقيت أنظر إلى رجاء فى صمت .. مخافة أن يوقظه حديثنا ..
وكان جهاز التكييف يشتغل فى الغرفة ونحن غير منتبهين إليه من غمرة ما مر بنا من ذعر واضطراب على المريض .. ولم تشأ رجاء .. أن تتعب أحدا من خدم الفندق فى هذه الساعة المتأخرة من الليل .. فصعدت .. على الكرسى.. لتوقف الجهاز ..
ولا أدرى لماذا رفعت رأسى .. وأخذت أرقبها وهى تقوم بهذا العمل ..
هل كنت أخشى عليها من السقوط .. أم لأنى كنت أتحرك بإحساس لا أقوى على رده ..
ورأيت ذيل قميصها التحتى .. ورأيت كل ساقيها .. وما فوق الركبة .. ونكست رأسى .. أمام كل ما رأيته من فتنة .. كراهب تاييس .. وهو يدخل عليها المخدع لأول مرة ..
وعندما أوقفت الجهاز ونزلت .. جلست بجوارى صامتة .. وكانت مضطربة وتعانى مثل صراعى .. وما هو أشد منه .. فاعترانا وجوم مطبق .. وخيل إلينا فى غمرة هذا الصمت الأخرس .. أن المدينة الكبيرة التى لا تنام أبدا .. قد توقفت كل حركة فيها .. من أجل صمتنا ..
وخرجنا من هذا الصمت .. عند ما تحرك إبراهيم فى فراشه بحركة عصبية ووقع الغطاء .. وتململ فكأنه سيسقط .. فذهبنا إليه فى وقت واحد .. ودثرناه .. وتحت الغطاء لامست يدى يدها .. فألقتها تحت يدى .. والتصقت بها .. وشعرت فى هذه اللحظة بأنها كانت فى حاجة إلى هذه اليد الغريبة .. لتمسح على يدها بحنان ..
وأحسست بنار تكوينى ولكننى لم أستطع أن أبتعد عنها ولم تلاحظ رجاء الرجفة التى اعترتنى وكنت أرتدى الروب .. على البيجامة .. وقد جعلنى هذا أشعر باضطراب أكثر .. وأبديت لها رغبتى فى أن أخرج لأرتدى بدلتى ..
فقالت باستغراب :
ــ لماذا .. لقد قربنا من الصبح ..؟
ــ ربما جاء الطبيب مرة أخرى .. ولا أحب .. أن يرانى بهذه الملابس ..
ــ استرح .. ويكفيك تعبا .. إنه بخير ..
ــ ربما نمت ..
وتركتها .. وعدت إليها بعد ربع ساعة مرتديا بذلتى ..
وخمدت بهذه الحركة الصراع الذى كان يعصف بكيانى ..
وفى اليوم التالى كانت صحة إبراهيم قد تحسنت ولكنه لم يخرج من الفندق طول اليوم .. وفى الليل أبدت رجاء رغبتها .. فى أن تجول فى المدينة .. وكنت لا أحب أن أخرج معها فى هذه الليلة وفى الوقت نفسه .. لا أحب أن أتركها تذهب وحدها ..
وبعد جذب وشد وجدنا نفسينا نسير فى الطريق ..
وعبرنا النفق .. ثم اتجهنا إلى الترعة التى تشق المدينة .. وعلى حافتها وجدنا مقهى صغيرا .. فجلسنا قريبا من الماء .. نرى البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية .. تتراقص على صفحة الغدير .. ومصابيح الورق من كل الألوان تشع نورا يبهج النفس ..
كانت وجوه الفتيات العاملات .. مشرقة وفى أحسن زينة .. والشعر أسود لامعا ..
وكان المكان هادئا .. وانتحينا جانبا .. كأننا نختار خلوة عاشقين ..
وكانت صورة إبراهيم .. تروح وتجئ فى رأسى وأنا جالس مع زوجته .. وظل حديثنا يسير على وتيرة واحدة مملة .. وكانت تثيرنى وتحاول أن تعرف مكنون قلبى .. ولكننى كنت ألف وأدور كالساقية الفارغة دون أن أعطيها أى شئ يشفى غليلها ..
وخرجنا مرة أخرى إلى الطريق .. ووجدنا بجوار محطة المترو ... فى حى شمباسى .. مطاعم صغيرة شعبية .. تشوى اللحم .. على النار الخافتة ، فوقفنا .. نأكل مع الواقفين ..
وقالت بابتهاج :
ــ لم أشعر .. بمثل هذه الأكلة الشهية فى حياتى ..
وكان شعورى بالمثل .. ولكننى لم أعقب واكتفيت بالابتسام ..
واشتريت تفاحتين .. بثمانين ينا .. وكان البائع مهذبا .. ويريد أن يلفهما فى ورق ناعم .. فلما قضمنا منها أمامه ضحك .. وشيعنا بانحناءاته المتكررة ..
وكانت أنوار السيارات القوية .. تغشى البصر وكنا لا نستطيع أن نتجاوز الرصيف قيد شعرة .. لأننا لو تركناه سنكون عرضة لحوادث السيارات ..
وكنا نشاهد ونحن ماشيان على الرصيف الغانيات .. متزينات .. ولابسات الفراء .. وفى انتظار الرجل .. فى المواقف التى اخترنها لأنفسهن .. ولم يوجهن إلىَّ أى كلام وأنا مار وبجوارى رجاء ..
وفى محل للحلوى وقفت أشترى شيئا .. ولما عدت وجدت رجاء .. واقفة مع الشاب اليابانى اللابس المعطف الأبيض الذى اعترض طريقى منذ أيام .. ولما رآنى اقترب ابتعد عنها .. ولم أشأ أن أسألها بما دار بينهما من حديث ..
***
وفى الصباح خرجنا نجول فى المدينة نحن الثلاثة وتأخرنا وتغدينا فى الخارج وعدنا نستريح فى الفندق ..
ونزلت إلى قاعة الشاى بعد الساعة السابعة ... ومرت على وأنا جالس رجاء .. وجلست قليلا ثم نهضت وقالت لى انها ذاهبة تشترى شيئا لإبراهيم من محل دايمارو ..
وفكرت فى جولة شاعرية فى المترو الذى تحت الأرض .. وحدى فى الليل الحالم .. وسرت قليلا فى حى جنزا .. ومن هناك نزلت لأركب المترو ..
وهناك فى المحطة وجدتها تركب المترو مع الشاب ذى المعطف الأبيض .. ولم أكن أعرف إلى أين هى ذاهبة معه .. وأدركت أن الفضول والحرمان هما اللذان دفعاها إلى هذه المغامرة ..
وجلست منزويا أراهما ولا يريانى .. .. وفى المحطة التى نزلا فيها .. نزلت .. وجعلت لقاءهما مصادفة .. وأحمر وجهها ولم تنبس .. ومشت بجوارى صامتة وزاغ الدليل ..
وعندما رجعنا إلى الفندق .. كنا كأنما عائدين من تشييع جنازة ..
***
وفى صباح اليوم التالى .. تقابلنا وحيتنى فى فتور .. وقال لى زوجها إنها تشكو من زمن من روماتزم فى الساق .. واشتد عليها أمس حتى إنها لم تنم قط .. واقترحت عليهما فتاة من العاملات فى الفندق أن يذهب بها إلى حمام تركى مشهور .. لعلاج مثل هذه الحالة .. واتفقنا على أن نذهب ثلاثتنا فى الساعة الخامسة مساء .. وأن نتقابل قبل ذلك فى بهو الفندق ..
ولما عدت إلى الفندق فى الساعة المحدودة .. لم أجد زوجها ووجدتها هى.. وقالت لى انه خرج فى جولة سياحية نظمتها شركة من شركات السياحة .. على أن يعود فى الساعة الرابعة .. وانتظرنا إلى السادسة .. وأصرت على أن تذهب إلى الحمام .. وخوفا من أن تلجأ إلى الدليل .. رافقتها إلى هناك ..
وتصورت الفتاة التى فى الاستقبال أننا زوجان .. فأدخلتنا فى مكان واحد .. ولكن عندما أخذت رجاء تخلع ملابسها فى الغرفة الداخلية .. خرجت هاربا.. وجلست فى البهو الخارجى أحتسى القهوة .. وخرجت رجاء وهى حافية ومدثرة بالبرنس تبحث عنى .. فلما وجدتنى بكامل ملابسى وأحادث العاملة على الباب بالإشارة ..
سألتنى :
ــ لماذا لم تذهب إلى الحمام ..؟
ــ سآخذ حماما سريعا ساخنا بعد لحظات .. وأنتظرك هنا ..
ومشت رشيقة .. تتأود أمامى وقد حلت البرنس .. قبل أن تدخل من باب الحمام فأغلقت عينى ..
وجاءت بعد ساعة مشرقة .. باسمة .. كأنها ولدت من جديد .. وغسلت كل أحزانها وسألتنى بدلال :
ــ هل التى كانت معك فى الحمام فتاة ..؟
ــ بالطبع ..
ولم أقل لها إنى لم أدخل الحمام ولم أتحرك من مكانى وسألتها :
ــ وأنت ..؟
ــ رجل بالطبع ..
وشعرت بأنياب حادة تنهش لحمى ..
ــ رجل .. وتقبلين هذا ..؟
ــ ولم لا ..؟ انها رياضة ..
وشعرت بالنار .. وكنت أعرف أنها تكذب وأنه لا يوجد رجل فى الحمام ..
ولكننى كنت أود أن أعود إلى المكان لأستوثق من ذلك ..
وتعشينا فى الخارج .. ولما عدنا إلى الفندق وصعدنا إلى غرفتها وجدنا إبراهيم نائما ... ودخلت هى الغرفة .. ووقفت على الباب معتمدا على الأكرة ..
وقالت برقة :
ــ أدخل نتحدث برهة ..
ــ إنى تعب .. سأنام ..
وكانت النار لا تزال مشتعلة فى رأسى .. وأغلقت عليها الباب .. ونزلت.. وخرجت إلى الطريق وهناك وجدت المرأة الوحيدة تقف تحت الباكية كأنها فى انتظارى ..
واستقبلتنى بابتسامتها ووداعتها وصمتها .. وتأبطت ذراعها وعدت بها إلى الفندق ..
***
ولما صعدت بها إلى الطابق الذى فيه غرفتى .. وفتحت الباب سمعت فى اللحظة نفسها بابا آخر يفتح من الداخل .. وأطلت منه رأس رجاء .. ولمحتنا ونحن ندخل .. ولكننى تجاهلت المسألة .. وأشعلت النور الجانبى ..
وأخذت المرأة اليابانية .. تفك أزرار معطفها ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 12/1/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " و بمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================
قصة محمود البدوى
جلست فى قاعة الشاى بفندق دايتشى ذات يوم من أيام الخريف .. أتأمل فى الجمال المحيط بى وأتطلع إلى الوجوه الجديدة التى تدخل من الباب الدوار..
وكان البهو مزدحما بالنزلاء .. والفتيات العاملات يدفعن العربات الصغيرة المحملة بالحقائب فى نشاط لا يوصف ..
وكانت الأجراس تدق والمصاعد طالعة نازلة .. كل شئ يتحرك بسرعة عجيبة كخلية النحل ..
وفجأة سمعت الفتاة التى اعتادت أن تنادى على النزلاء بالميكرفون تصيح بالإنجليزية :
ــ مستر .. إبراهيم كامل .. مطلوب فى التليفون ..
فرفعت رأسى .. متعجبا وأنا أسمع هذا الاسم فى مدينة طوكيو .. ونظرت إلى آلة التليفون الموجودة بجوارى .. وركزت البصر .. وبرزت شابة .. وتناولت السماعة سريعا ..
وظلت تتحدث دقيقتين .. وكان صوتها ضعيفا فلم أسمع كلمة من حديثها.. ولكننى أدركت أن لها علاقة بالشخص المطلوب .. وبعد أن انتهت المحادثة دخلت من سياج الممر .. وجلست إلى مائدة قريبة منى فى قاعة الشاى .. وكانت متوسطة الطول بيضاء .. تقص شعرها الاجارسون وترتدى فستانا من قطعة واحدة قصيرا إلى الركبة .. ومنسجما مع قوامها الجميل ..
وكانت عيناها سوداوين .. ووجهها طويلا وعلى خدها الأيمن شامة سوداء .. كغرسة دبوس كبير تركت الخد يدمى ..
وكانت تدخن وتنظر مثلى إلى الباب الخارجى ..
وتركت كرسيها أكثر من مرة لتتحدث فى التليفون .. ثم عادت إلى المائدة نفسها .. وفى المرة الأخيرة بدا على وجهها القلق ..
وحوالى الساعة الواحدة بعد الظهر ظهر شاب نحيف القوام .. وجلس بجوارها .. وكان يرتدى حلة رمادية ذات خطوط بيضاء خفيفة .. ويضع على عينيه منظارا سميكا ..
وكان يبدو خجولا وعينيه أبدا متجهتين إلى الأرض كأنها تبحث عن شئ ضاع منه .. منذ لحظات ..
وأخذ يحادثها بلهجة أهل القاهرة بصوت جعلنى أسمع الحديث كله .. وحدثته هى عن شركة السياحة التى طلبته فى التليفون .. وعن الصباح الذى ضاع بنومه ..
وسألت فى استغراب :
ــ كيف ينام إنسان فى طوكيو إلى الظهر هل نحن فى حلوان .. ؟
وكانت مستاءة .. ثم ضحكت وأشعلت سيجارة ..
وبعد نصف ساعة خرجا معا من الباب الدوار ..
***
وفى الليل .. رأيتهما يتقدمان فى اللحظة التى تقدمت فيها إلى مكتب الإستقبال يأخذان مفتاح غرفتهما .. وسمعت رقم الغرفة .. وأدركت أنهما فى الطابق السادس .. وهو الطابق الذى أقيم فيه ..
وفى المصعد .. تعارفنا .. واستغربا وجودى فى هذه المدينة .. فقد كانا يتصوران أنهما المصريان الوحيدان فيها .. وسرا لأنهما وجدا مواطنا فى الفندق نفسه ووقفنا نتحدث بحكم العادة المصرية قليلا فى الممر .. ثم حييتهما وانصرفت إلى غرفتى ..
***
وفى صباح اليوم التالى وجدت رجاء .. جالسة وحدها تتناول الإفطار فى قاعة الطعام .. فحييتها وأخذت أبحث عن مائدة خالية .. فقد كان المطعم ممتلئا ..
وقالت برقة :
ــ تفضل .. هنا .. معى ..
ــ وإبراهيم بيه .. ؟
ــ إنه نائم .. وسيضيع عليه الإفطار ككل يوم ..
ــ ولماذا لم توقظيه ..؟
ــ أيقظته .. ولكنه فتح عينيه .. ونام ..
ــ لعله يسهر كثيرا ..
ــ أبدا .. إنه نام بعد أن تركتنا أمس بلحظات ولكن هذه هى عادته .. ومن الصعب أن يتخلص المرء من عادة متمكنة منه ..
ورأيت أن أغير مجرى الحديث فسألتها :
ــ هل أعجبتك طوكيو ..؟
ــ أجل .. إنها جميلة ... جميلة ..
ــ وإلى متى ستبقون فيها ..
ــ إلى أن تفرغ النقود .. وأنت ..
ــ إنى مسافر فى نهاية الشهر ..
ــ سيكون لدينا وقت طيب .. نقضيه فى صحبتك إذن ..
ــ شكرا جميلا .. وإلى أين تذهبان هذا المساء ..؟
ــ سننتظر ما يقرره الدليل .. فالغريب .. لا يعرف طريقه فى هذه المدينة..
ــ هذا صحيح .. اذهبا إلى الكوين بى .. وإلى جولان جنزا .. وإلى ملهى السفينة .. وملهى الحريم .. وكابريه ميماتسو ..
ــ كل هذا شاهدته ..؟
ــ بالطبع ..
ــ هل ترغب فى أن تشعل سيجارة ..؟
ــ مرسى .. إننى لا أدخن ..
ــ يضايقك الدخان ..؟
ــ أبدا ... خدى راحتك ..
ولما جاءت الفتاة بفاتورة الطعام .. قيدت الحساب .. على رقم غرفتى .. ولم تكن المسألة على بساطتها تستحق المعارضة من جانبها ..
فابتسمت وشكرتنى ..
وخرجنا إلى الصالة .. وأستأذنت بعد ساعة لتصعد إلى زوجها بعد أن حاولت إيقاظه .. بالتليفون أكثر من مرة .. ولكنها لم توفق .. وكنت فى طريقى إلى جامعة طوكيو .. فبارحت الفندق ..
***
وأصبحت أقابل رجاء كل صباح فى قاعة الطعام .. حوالى الساعة السابعة.. وكنا نفطر فى نصف ساعة .. ولما كنا لا نستطيع أن نجلس فى قاعة الشاى قبل الساعة التاسعة فقد كنا نخرج ونجول فى المدينة .. أو نركب المترو.. فى نزهة قصيرة .. ونعود سريعا إلى الفندق لنوقظ زوجها إبراهيم ..
وكانت تدق له التليفون من مكتب الاستقبال ولكنه كان لا يرد .. ولا ينهض من فراشه أبدا .. فتضطر أن تصعد إليه .. وتعود بعد دقائق قليلة كاسفة البال .. وهى تقول لى :
ــ اعمل معروف .. اصعد معى .. ربما يخجل منك ..
وكنت أكتفى بأن أصعد معها .. إلى الجناح الذى فيه الغرفة .. وأقف فى مكتب الاستقبال هناك فى أنتظارها حتى توقظه أو أتصل به بالتليفون .. لأنى كنت لا أحب أن أدخل على شخص غريب غرفته وأراه فى مباذله ..
وكان فى سبع حالات من تسع لا يصحو ولا ينزل معها ..
وذات مرة ألحت على إلحاحا شديدا .. لأدخل عليه الغرفة .. فوقفت على الباب .. ورأيته يفتح عينيه بثقل شديد ولا يكاد يرانى .. وقد وضع المخدة على رأسه المصدوع .. وتكور كالشراب البالى ..
واضطرب لما سمع صوتى ووعد بأن يلبس وينزل إلينا فى صالة الفندق بعد ربع ساعة وتركناه ونزلنا ننتظره ..
وفى ساعة انتظاره أخذت رجاء تحدثنى عن سبب رحلتهما .. كانا فى زيارة قريب لهما موظف فى إحدى شركات الطيران الكبيرة بنيودلهى .. فرتب لهما زيارة هونج كونج .. ومن هونج كونج وجدا الفرصة سانحة .. لزيارة طوكيو ..
ولم يكن إبراهيم فى أول الأمر يحب المدينة .. فلما عرفها ووجد فيها بغيته من الخمر .. والملاهى .. أحبها .. حتى أصبح لا يبغى الرحيل عنها ..
وقالت لى إن زوجها يشتغل محاميا .. فى القاهرة .. ولكنه لم يذهب إلى المحكمة.. أكثر من خمس مرات طول حياته كمحام .. فهو دائما يوكل قضاياه إلى زميل له .. وكلما عرضت قضية هو موكل فيها طلب زميله التأجيل .. حتى إن القاضى عرفه .. وبمجرد أن يراه يقول ضاحكا :
ــ تأجيل يا استاذ .. ؟
وقالت لى إن زوجها كسلان جدا .. ولكنه طيب جدا .. أيضا ..
ولم أكن قد كونت فكرة صحيحة عنه .. وكان كل الناس طيبين فى نظرى .. حتى وإن سببوا لنا المتاعب فهى طيبة كذلك .. وإن كانت قد أخذت تقيدنى فى هذه المدينة الكبيرة ..
وكنت من قبل أنطلق على هواى من الساعة الثامنة صباحا ..
ولكننى بعد أن التقيت بها أصبحت مقيدا بحركاتها ورغباتها ..
وكنا نحاول بكل الوسائل .. أن يخرج معنا زوجها .. فى جولة الصباح .. ولكن كانت محاولتنا كلها تضيع هباء ..
ولما أخفقت وسائلنا كلها لإيقاظه .. أصبحت أشفق عليها من تركها وحدها .. تجول حزينة متألمة .. فى هذه المدينة الضخمة ..
وكنت أحيانا .. أزوغ منها لأنى شعرت بأنها تقيد حريتى تماما .. فسألتنى:
ــ هل أصبحت أضايقك ..؟
ــ أبدا .. كيف تفكرين فى هذا ..؟
ــ لماذا الهروب إذن ..؟
ــ كان علىّ بعض الدراسات .. وقد فرغت منها ..
ــ إذن .. فلن تتركنى .. وحدى .. لأحزانى ..؟
ــ أبدا .. لن يحدث هذا مرة أخرى ..
وتألمت .. وأصبحت معها كظلها .. وعجبت للأيام التى تجمع شخصين ولا رابطة بينهما .. وتفرق بين شخصين وبينهما كل الروابط الاجتماعية ..
وكان زوجها طيبا .. وديعا .. وبرغم كل ما كانت تبذله من عناية ورعاية.. فكنت ألاحظ أنه لا يحبها ولا يقابل عواطفها بمثلها .. كان معها جافا خشنا وكان يعيش معها .. كما قدر لكل زوجين مختلفين فى الأهواء والمشارب .. يعيشان عيشة فارغة .. من كل إحساس بسعادة القلب ..
وعرفت منه أن والدته ماتت وهو صغير فى السادسة من عمره .. فأدركت لماذا فشل زواجه من رجاء .. فقد كان يحتاج إلى حنان الأمومة الرقيق .. ويود أن يضع رأسه على صدر أم ..
فلما تزوج رجاء وكانت فى الثامنة عشرة من عمرها ، قليلة الخبرة والتجارب لم تبادله الحنان الذى كان يتوق إليه ويرغب فيه .. وشعر بفراغ موحش .. ونفر من البيت حتى لا يراها وأخذ يسكر .. ويسكر ..
وكان همها كله ، كسائر الفتيات الصغيرات .. أن تلبس أجمل الثياب .. وتزهو على قريناتها بما لديها من جواهر نادرة ومعاطف الفراء الغالية التى تأتيها خصيصا من الخارج .. وأن تسكن فى فيللا أنيقة بضاحية مصر الجديدة.. وأن يكون فى البيت أكثر من سيارة .. وأكثر من خادم ومربية .. حتى وإن لم يكن عندهم أطفال ..
ثم ما لبثت أن تبينت أن هذا كله هباء .. وقبض ريح .. وأن الشئ الوحيد الذى كانت تبحث عنه والذى تزوجت من أجله لم تجده .. فعاشت فى عذاب مدمر لأعصابها ..
والواقع أنها كانت السبب فى شقائه .. كما كان هو السبب المباشر لتعاستها ..
ولكن لا شئ يمكن أن يفعله الإنسان أمام حكم القدر ..
ووجدا أخيرا .. أن خير ما يفعلانه هو أن يسافرا .. ولعل السفر يقرب ما بينهما من مسافة ولعله يرجعهما إلى بعضهما .. ويردهما زوجين حبيبين ..
***
وكنت أسر وأنا أجد إبراهيم .. خارجا من المصعد فى العصر وهو فى أحسن حالاته .. وراءه رجاء أكثر سرورا منه ..
ونجلس فى صالة الفندق قليلا لنشرب القهوة .. ثم نخرج ونجوس فى أنحاء المدينة .. ونزور المتاجر الكبيرة ومنها ننطلق إلى الملاهى .. أو نذهب إلى الاوبرا ..
وكنا بعد أن نخرج من الأوبرا .. نجارى رغبته فى أن يدخل حانة ــ لأن منعه من هذا كان مستحيلا علينا ــ ليشرب كأسا .. فما كنا نحب أن نتركه وحده مخافة أن يحدث له حادث وهو ثمل .. فى مدينة تنطلق فيها السيارات فى الليل كالصواريخ ..
وكنا نحاول بكل الوسائل أن نجعله يقلل من الشراب ما استطعنا .. ولكنه كان ما يلبث أن يندفع على هواه ، ويطلب ثلاثة كئوس معا .. وكنت أتألم وهو يغازل فتيات الحانات أمام زوجته .. وكانت هى تجلس جامدة المحيا .. ووجهها لا يعبر عما فى نفسها من ألم قاتل .. وكنت أحاول أن أخفف عنها وقع المسألة .. بأن اقلب الجو كله إلى مزاح ومرح .. ولكنها كانت تفهم أننى أمثل أمامها هذه المسرحية وكان هذا يزيد الموقف حرجا .. ويزيدنا شعورا بالتعاسة التى يضع الإنسان فيها نفسه من حيث لا يحتسب ..
***
وذات ليلة انفلت منا إبراهيم .. ونحن فى ملهى .. ألكروف .. وخرجنا نبحث عنه ووجدناه فى ملهى الحريم .. وكان جالسا مع جارية حسناء كأنها من جوارى هارون الرشيد .. وتلبس ثياب الجوارى نفسها .. وزادها الثوب الشرقى فتنة على فتنتها ..
وكان المكان شاعريا وهادئا .. ولكن إبراهيم كان ثملا .. ويحاول لثم الفتاة فى صدرها .. وهى تدفعه عنها بدلال ..
وحاولت أن أمنع زوجته من رؤية هذا المشهد ..
ولا أدرى أشاهدته أم لا .. ولكن الشئ الظاهر لى أن وجهها ظل محتفظا بهدوئه ..
وخرج إبراهيم معنا .. والفتاة تتعلق به حتى الباب وكانت كاشفة عن كل مفاتنها وكل صدرها .. وتصورت أن رجاء صديقتى .. ولذلك لم تقلع عن مجونها إلى آخر لحظة ..
***
وكان الفندق قريبا منا .. فرأينا أن نقطع المسافة على أرجلنا .. وبعد خطوات قليلة ـ وكنت أسير متأخرا عن الزوجين ـ برز لى شاب يابانى .. يرتدى معطفا قصيرا أبيض .. وعرض أن يرينى مشاهد خاصة فى طوكيو .. وقابلته بالرفض ولكنه ظل يلاحقنى ويعرض مباذله ..
ورأيت أن أتأخر عن رجاء وإبراهيم بضعة خطوات حتى لا تسمع رجاء كلام الشاب .. وحتى لا يخدش حياءها وصرفته أخيرا .. بعد أن ظل يلاحقنى فترة طويلة .. وتحت نفق المترو ..
ورأيت سربا من الحسناوات اليابانيات من بنات الليل .. وهن فى حفل من الزينة .. وكانت وجوههن جميعا ... كأنها مطلية بالكريم الأبيض .. اللامع .. وكن مستغرقات تحت البواكى وملتصقات بالحائط ..
وكن فى معاطف من الفراء من كل الألوان .. وصحن بى بالإنجليزية واليابانية :
ــ تعال يا شاب .. نقضى ليلة ممتعة ..
فمررت مبتسما دون أن أبادلهن الكلام ..
ورأيت واحدة منهن حلوة ورقيقة المشاعر .. وكانت تقف دائما وحدها تحت باكية قريبة من الفندق صامتة .. وتكلمنى وأنا مار عليها بعينها دون أن تنطق حرفا .. وكانت صامتة فى وقفتها ولكنها متألقة .. ورفعت وجهى إليها هذه الليلة والتقت عيوننا بضعة ثوان .. ثم تركتها .. ودخلت الفندق لألحق بالزوجين ..
ووجدتهما ينتظران المصعد .. وصعدنا معا .. وقبل الدور الرابع ظهر على إبراهيم التعب ولم يستطع الوقوف .. فجلس على أرض المصعد .. وأغمض عينيه .. ونظرت إلىّ رجاء بتوسل وقد أصبح لون وجهها كالقرمز ..
وتعاونت مع عامل المصعد فاستند علينا حتى بلغنا به باب غرفته .. واضطررت لأول مرة أن أدخل غرفة الزوجين .. ووضعناه فى الفراش .. وخلعت رجاء سترته ودثرته .. وأغلق عينيه فخففت له الضوء فى الغرفة .. وبقيت معها قليلا ثم سلمت عليها وخرجت ..
ولكن بعد أن خلعت بذلتى وتهيأت للنوم .. سمعت نقرا على بابى .. ولما فتحته وجدت رجاء وعلى وجهها الذعر ..
وقالت باضطراب :
ــ إن إبراهيم يموت ..
ولما دخلت عليه .. كان وجهه يحكى وجوه الموتى .. فاضطربت ..
ورفعت السماعة .. وطلبت من مكتب الاستقبال أى طبيب ..
وقبل أن يجىء الطبيب .. تقيأ .. على حجر زوجته .. وحنت عليه .. ولم تتأفف من فعلته ..
وشعرت فى هذه الساعة بعطف شديد عليها .. وبغيظ يحملنى على ضربه ..
ولما جاء الطبيب .. أسعفه بالعلاج وطمأننا .. وقال لنا إنه فى الصباح سيكون فى أحسن حالاته ..
وجلست وبجوارى رجاء فى حجرة الفندق الصغيرة .. وأمامنا الرجل .. الذى عرفته من أيام فقط وتوطدت المعرفة إلى صداقة بسببها هى .. وبسبب ما وجدته فيه من طيبة .. تجل عن الوصف ... وكان المريض قد نام .. وبقيت أنظر إلى رجاء فى صمت .. مخافة أن يوقظه حديثنا ..
وكان جهاز التكييف يشتغل فى الغرفة ونحن غير منتبهين إليه من غمرة ما مر بنا من ذعر واضطراب على المريض .. ولم تشأ رجاء .. أن تتعب أحدا من خدم الفندق فى هذه الساعة المتأخرة من الليل .. فصعدت .. على الكرسى.. لتوقف الجهاز ..
ولا أدرى لماذا رفعت رأسى .. وأخذت أرقبها وهى تقوم بهذا العمل ..
هل كنت أخشى عليها من السقوط .. أم لأنى كنت أتحرك بإحساس لا أقوى على رده ..
ورأيت ذيل قميصها التحتى .. ورأيت كل ساقيها .. وما فوق الركبة .. ونكست رأسى .. أمام كل ما رأيته من فتنة .. كراهب تاييس .. وهو يدخل عليها المخدع لأول مرة ..
وعندما أوقفت الجهاز ونزلت .. جلست بجوارى صامتة .. وكانت مضطربة وتعانى مثل صراعى .. وما هو أشد منه .. فاعترانا وجوم مطبق .. وخيل إلينا فى غمرة هذا الصمت الأخرس .. أن المدينة الكبيرة التى لا تنام أبدا .. قد توقفت كل حركة فيها .. من أجل صمتنا ..
وخرجنا من هذا الصمت .. عند ما تحرك إبراهيم فى فراشه بحركة عصبية ووقع الغطاء .. وتململ فكأنه سيسقط .. فذهبنا إليه فى وقت واحد .. ودثرناه .. وتحت الغطاء لامست يدى يدها .. فألقتها تحت يدى .. والتصقت بها .. وشعرت فى هذه اللحظة بأنها كانت فى حاجة إلى هذه اليد الغريبة .. لتمسح على يدها بحنان ..
وأحسست بنار تكوينى ولكننى لم أستطع أن أبتعد عنها ولم تلاحظ رجاء الرجفة التى اعترتنى وكنت أرتدى الروب .. على البيجامة .. وقد جعلنى هذا أشعر باضطراب أكثر .. وأبديت لها رغبتى فى أن أخرج لأرتدى بدلتى ..
فقالت باستغراب :
ــ لماذا .. لقد قربنا من الصبح ..؟
ــ ربما جاء الطبيب مرة أخرى .. ولا أحب .. أن يرانى بهذه الملابس ..
ــ استرح .. ويكفيك تعبا .. إنه بخير ..
ــ ربما نمت ..
وتركتها .. وعدت إليها بعد ربع ساعة مرتديا بذلتى ..
وخمدت بهذه الحركة الصراع الذى كان يعصف بكيانى ..
وفى اليوم التالى كانت صحة إبراهيم قد تحسنت ولكنه لم يخرج من الفندق طول اليوم .. وفى الليل أبدت رجاء رغبتها .. فى أن تجول فى المدينة .. وكنت لا أحب أن أخرج معها فى هذه الليلة وفى الوقت نفسه .. لا أحب أن أتركها تذهب وحدها ..
وبعد جذب وشد وجدنا نفسينا نسير فى الطريق ..
وعبرنا النفق .. ثم اتجهنا إلى الترعة التى تشق المدينة .. وعلى حافتها وجدنا مقهى صغيرا .. فجلسنا قريبا من الماء .. نرى البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية .. تتراقص على صفحة الغدير .. ومصابيح الورق من كل الألوان تشع نورا يبهج النفس ..
كانت وجوه الفتيات العاملات .. مشرقة وفى أحسن زينة .. والشعر أسود لامعا ..
وكان المكان هادئا .. وانتحينا جانبا .. كأننا نختار خلوة عاشقين ..
وكانت صورة إبراهيم .. تروح وتجئ فى رأسى وأنا جالس مع زوجته .. وظل حديثنا يسير على وتيرة واحدة مملة .. وكانت تثيرنى وتحاول أن تعرف مكنون قلبى .. ولكننى كنت ألف وأدور كالساقية الفارغة دون أن أعطيها أى شئ يشفى غليلها ..
وخرجنا مرة أخرى إلى الطريق .. ووجدنا بجوار محطة المترو ... فى حى شمباسى .. مطاعم صغيرة شعبية .. تشوى اللحم .. على النار الخافتة ، فوقفنا .. نأكل مع الواقفين ..
وقالت بابتهاج :
ــ لم أشعر .. بمثل هذه الأكلة الشهية فى حياتى ..
وكان شعورى بالمثل .. ولكننى لم أعقب واكتفيت بالابتسام ..
واشتريت تفاحتين .. بثمانين ينا .. وكان البائع مهذبا .. ويريد أن يلفهما فى ورق ناعم .. فلما قضمنا منها أمامه ضحك .. وشيعنا بانحناءاته المتكررة ..
وكانت أنوار السيارات القوية .. تغشى البصر وكنا لا نستطيع أن نتجاوز الرصيف قيد شعرة .. لأننا لو تركناه سنكون عرضة لحوادث السيارات ..
وكنا نشاهد ونحن ماشيان على الرصيف الغانيات .. متزينات .. ولابسات الفراء .. وفى انتظار الرجل .. فى المواقف التى اخترنها لأنفسهن .. ولم يوجهن إلىَّ أى كلام وأنا مار وبجوارى رجاء ..
وفى محل للحلوى وقفت أشترى شيئا .. ولما عدت وجدت رجاء .. واقفة مع الشاب اليابانى اللابس المعطف الأبيض الذى اعترض طريقى منذ أيام .. ولما رآنى اقترب ابتعد عنها .. ولم أشأ أن أسألها بما دار بينهما من حديث ..
***
وفى الصباح خرجنا نجول فى المدينة نحن الثلاثة وتأخرنا وتغدينا فى الخارج وعدنا نستريح فى الفندق ..
ونزلت إلى قاعة الشاى بعد الساعة السابعة ... ومرت على وأنا جالس رجاء .. وجلست قليلا ثم نهضت وقالت لى انها ذاهبة تشترى شيئا لإبراهيم من محل دايمارو ..
وفكرت فى جولة شاعرية فى المترو الذى تحت الأرض .. وحدى فى الليل الحالم .. وسرت قليلا فى حى جنزا .. ومن هناك نزلت لأركب المترو ..
وهناك فى المحطة وجدتها تركب المترو مع الشاب ذى المعطف الأبيض .. ولم أكن أعرف إلى أين هى ذاهبة معه .. وأدركت أن الفضول والحرمان هما اللذان دفعاها إلى هذه المغامرة ..
وجلست منزويا أراهما ولا يريانى .. .. وفى المحطة التى نزلا فيها .. نزلت .. وجعلت لقاءهما مصادفة .. وأحمر وجهها ولم تنبس .. ومشت بجوارى صامتة وزاغ الدليل ..
وعندما رجعنا إلى الفندق .. كنا كأنما عائدين من تشييع جنازة ..
***
وفى صباح اليوم التالى .. تقابلنا وحيتنى فى فتور .. وقال لى زوجها إنها تشكو من زمن من روماتزم فى الساق .. واشتد عليها أمس حتى إنها لم تنم قط .. واقترحت عليهما فتاة من العاملات فى الفندق أن يذهب بها إلى حمام تركى مشهور .. لعلاج مثل هذه الحالة .. واتفقنا على أن نذهب ثلاثتنا فى الساعة الخامسة مساء .. وأن نتقابل قبل ذلك فى بهو الفندق ..
ولما عدت إلى الفندق فى الساعة المحدودة .. لم أجد زوجها ووجدتها هى.. وقالت لى انه خرج فى جولة سياحية نظمتها شركة من شركات السياحة .. على أن يعود فى الساعة الرابعة .. وانتظرنا إلى السادسة .. وأصرت على أن تذهب إلى الحمام .. وخوفا من أن تلجأ إلى الدليل .. رافقتها إلى هناك ..
وتصورت الفتاة التى فى الاستقبال أننا زوجان .. فأدخلتنا فى مكان واحد .. ولكن عندما أخذت رجاء تخلع ملابسها فى الغرفة الداخلية .. خرجت هاربا.. وجلست فى البهو الخارجى أحتسى القهوة .. وخرجت رجاء وهى حافية ومدثرة بالبرنس تبحث عنى .. فلما وجدتنى بكامل ملابسى وأحادث العاملة على الباب بالإشارة ..
سألتنى :
ــ لماذا لم تذهب إلى الحمام ..؟
ــ سآخذ حماما سريعا ساخنا بعد لحظات .. وأنتظرك هنا ..
ومشت رشيقة .. تتأود أمامى وقد حلت البرنس .. قبل أن تدخل من باب الحمام فأغلقت عينى ..
وجاءت بعد ساعة مشرقة .. باسمة .. كأنها ولدت من جديد .. وغسلت كل أحزانها وسألتنى بدلال :
ــ هل التى كانت معك فى الحمام فتاة ..؟
ــ بالطبع ..
ولم أقل لها إنى لم أدخل الحمام ولم أتحرك من مكانى وسألتها :
ــ وأنت ..؟
ــ رجل بالطبع ..
وشعرت بأنياب حادة تنهش لحمى ..
ــ رجل .. وتقبلين هذا ..؟
ــ ولم لا ..؟ انها رياضة ..
وشعرت بالنار .. وكنت أعرف أنها تكذب وأنه لا يوجد رجل فى الحمام ..
ولكننى كنت أود أن أعود إلى المكان لأستوثق من ذلك ..
وتعشينا فى الخارج .. ولما عدنا إلى الفندق وصعدنا إلى غرفتها وجدنا إبراهيم نائما ... ودخلت هى الغرفة .. ووقفت على الباب معتمدا على الأكرة ..
وقالت برقة :
ــ أدخل نتحدث برهة ..
ــ إنى تعب .. سأنام ..
وكانت النار لا تزال مشتعلة فى رأسى .. وأغلقت عليها الباب .. ونزلت.. وخرجت إلى الطريق وهناك وجدت المرأة الوحيدة تقف تحت الباكية كأنها فى انتظارى ..
واستقبلتنى بابتسامتها ووداعتها وصمتها .. وتأبطت ذراعها وعدت بها إلى الفندق ..
***
ولما صعدت بها إلى الطابق الذى فيه غرفتى .. وفتحت الباب سمعت فى اللحظة نفسها بابا آخر يفتح من الداخل .. وأطلت منه رأس رجاء .. ولمحتنا ونحن ندخل .. ولكننى تجاهلت المسألة .. وأشعلت النور الجانبى ..
وأخذت المرأة اليابانية .. تفك أزرار معطفها ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 12/1/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " و بمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================
اللؤلؤة
قصة محمود البدوى
كان ذلك منذ خمسة أعوام .. وكنت قد دعيت إلى حفلة شاى خاصة فى نادى الكتاب بمدينة طوكيو فى اليوم الرابع من ديسمبر .. وكانت الحفلة شائقة حقا وممتعة للغاية كثر فيها الحديث عن السلام والحضارة وعن مستقبل الإنسانية .. وعن الأدب .. والفنون فى آسيا وأفريقيا وفى العالم أجمع ..
ولما جاء ذكر كتاب القصة تحدثنا عن تشيكوف .. وقلت للرفقاء حول المائدة .. إن العلوم الطبية كما يقول تشيكوف عن نفسه قد أثرت تأثيرا عظيما فى حياته الأدبية ووسعت ميدان ملاحظاته .. وإنه من دواعى سرورى وفخرى أننى بدأت أترجم لهذا الكاتب العظيم وأنا طالب صغير فى الجامعة ..
وإنه لفلتة من فلتات الدهر .. وفنان أصيل لا يشق له غبار .. ولا يمكن أن يقارن بغيره من كتاب القصة القصيرة كموباسان أو موم .. أو كوبرين .. أو اندريت .. إنه نسيج وحده ولقد عرف كيف ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية ..
وروحه العذبة قد جعلت منه أعظم كاتب على الإطلاق ..
وانحنى فى تلك اللحظة فنان يابانى يقرب من الخمسين من عمره ..
وقال فى تواضع ظاهر .. وأدب جم ..
ــ لقد ترجمت لتشيكوف مثلك أيها السيد .. وأنا صغير .. ومازلت أترجم ..
ــ ما أعظم سرورى .. !
ولما انتهينا من الشاى وقف معى ذلك الفنان فى زاوية من القاعة وخضنا فى مختلف الأحاديث عن الفن والحياة ..
وكان الرجل غزير المادة حقا يحيط بكل شئ علما ويعرف الكثير عن الشرق العربى وأدركت أنه فنان أصيل ولكننى قرأت على وجهه القلق والعذاب ..
وقلت لنفسى إنه أكثر عذابا من تشيكوف نفسه ..
وقال لى إنه يصدر مجلة الآداب والفنون .. وقدم لى نسخة منها .. فقلبت فيها وسألته ..
ــ وكم تطبع .. ؟
ــ ثلاثة آلاف ..
ــ فقط ..
ــ لابد أنك تخسر ..؟
ــ دائما .. خسارة مستمرة ..
ــ هل الأدب فى محنة .. وضائع فى هذه المدينة الكبيرة ..؟
ــ لا .. وإنما تعوزنى وسائل كثيرة لعرضها على القراء ..
وشعرت بالأسى للرجل المسكين الذى يضحى ويشغل نفسه بالأدب ويعيش فى فقر مر .. وأدركت قطعا أن شيئا ينقصه .. شيئا حيويا وهاما .. ففى طوكيو تطبع جريدة اساهى سبعة ملايين نسخة فى اليوم وجريدة يوميورى أربعة ملايين وهو شئ لا يحدث مثله فى أية مدينة فى العالم ..
وقلت للرجل إنه من السهل جدا .. أن نجد ثلاثين ألف قارئ فى مدينة كهذه .. وقال لى إنه سيجدد فيها ابتداء من العام الجديد ويخرجها بشكل آخر .. أكثر أناقة .. فهو يشعر بأنها جافة وينقصها شئ ..
وفى أثناء انشغالى بالحديث معه تقدمت لى سيدة شابة ممسكة بآلة تصوير صغيرة وقالت برقة ..
ــ أتسمح بأن آخذ لك صورة ..؟
ــ تفضلى ..
ــ وصورة أخرى مع زوجى ..
ــ تفضلى ..
ووقف الرجل بجانبى والتقطت لنا أكثر من صورة .. ونحن وقوف .. وجالسين ومطلين من الشرفة الواسعة على الشارع المتألق بالأنوار ..
وكانت السيدة سوجا ترتدى جاكتة واسعة الأكمام .. فى زى يابانى خالص .. وكانت رقيقة القد متألقة الوجه فائقة الجمال ويتوج رأسها باقة من الشعر الأسود المتموج الشديد اللمعان .. وكان فمها صغيرا .. وأسنانها صغيرة وفى صفاء اللؤلؤ .. وفى عينيها البراقة تلك الضمة الصغيرة التى تتميز بها اليابانيات على سائر البشر ..
وراحت وجاءت فى القاعة الصغيرة كالطاووس الجميل وهى تمسك بآلة التصوير فى يدها ..
ثم وقفت أخيرا بجانبنا .. وجذب انتباهى إليها .. صفاء عينيها ووجه لم أر له شبيها فى مدينة طوكيو كلها ..
وانطلقت أتحدث معها ووجدتها تجيد الإنجليزية إجادة تامة بغير اللكنة التى سمعتها من غيرها من اليابانيات ..
وكانت السيدة سوجا مسرورة فى الواقع لكونى أديبا مثل زوجها أداشى وكانت تخص هذا بكل مشاعرها فى كل لحظة .. محياها المتألق وعنقها الرقيق .. ويداها الناحلتان .. ودماثتها وحنانها .. كل هذه الأشياء تتجه إلى زوجها وأدركت أنها تعبده وتنظر إليه كعبقرى عديم النظير ..
وبقيت أصغى إليها طوال ساعة كاملة وهى تحدثنى عن الأدب وعن زوجها وكنت أكره الاجتماعات العامة والخاصة ولكننى استغرقت فى هذه الجلسة .. وخرجت منها بأن المستر اداشى إنسان يصرخ بالعذاب فى مدينة ضخمة تعصر روحه وتقف بجانبه زوجة جميلة تناصره بحنانها وتساعده على المضى فى طريقه برغم الفقر وانقطاع السبل ..
وقلت لها .. ونحن نتجه إلى الباب الخارجى .. وكانت قد طوت آلة التصوير ..
ــ إننى أريد صورة واحدة من هذه الصور على الأقل ..
ــ سنحمل لك المجموعة كلها .. أين تقيم ..؟
ــ فى فندق دايتشى ..
وأخرجت دفترا صغيرا .. وكتبت اسم الفندق ورقم الغرفة ..
وقال لى المستر اداشى إن زوجته مغرمة بالتصوير .. وبارعة فيه .. وإنه نشر لها عدة صور فى المجلة وإنه ينتقى بعض الصور لنا لينشرها فى العدد الذى يصدر فى أول يناير وكانت المجلة تصدر أربع مرات فى السنة ..
وشكرت المستر اداشى ودعوته وزوجته لتناول الشاى فى الفندق .. فى عصر الغد فقبلا الدعوة بسرور ..
وقدما فى الميعاد .. وكان هو يرتدى حلته الرمادية نفسها .. ويبدو بعينيه الشهلاوين أكثر تعبا مما رأيته بالأمس ..
وكانت هى ترتدى رداء أوربيا فى هذه المرة .. من بلوزة وجونلة من لون واحد ..
واقتعدنا مكانا فى قاعة الشاى وكنا قريبين من الباب الدوار .. واليوم يوم السبت والباب يقذف فى كل لحظة فوجا جديدا من الزوار ..
وفتاة على الميكرفون يجلجل صوتها فى القاعة تطلب بعض النزلاء إلى التليفون ..
وأخذ الرجل الفنان يحدثنى وسط هذا الضجيج عن رسالة الفكر فى الحياة .. وكانت زوجته تصغى إليه باهتمام زائد وهو يتحدث عن تحرير الإنسان من شبح الحرب .. ومن الخوف .. ومن الموت جوعا .. كما تحدث عن خلاص البشر من العمل الآلى وسألته وأنا أبتسم ..
ــ هل أنت من أنصار الطبيعة مثل روسو ..؟
ــ لا أقصد هذا وإنما يجب أن نحرر الإنسان من العمل المضنى ونعطيه فرصة للراحة ليفكر فى نفسه كإنسان .. وما قيمة الكهرباء إذا كان هو نفسه يعيش حياة كئيبة قاتمة ..
يجب أن يشعر الإنسان بسموه على الآلة وعلى أضرابها .. وعلى الذرة نفسها .. وأن يسخرها لمصلحته ..
وكانت سوجا تسمع وتؤمّن على كلامه .. وكانت تتصور أننا باعتبارنا أدباء .. نعرف أشياء لا حد لها .. عن العلم والذرة ومعجزات الإنسان ..
وكانت وجنتاها تتضرجان قليلا عندما ترانى أحد إليها النظر وأثنى على لهجتها السليمة فى الحديث ..
وكانت تسمع بشغف كل ما أتحدث به عن وطنى العربى ..
ولما قلت لهما ..
ــ إنى أتمنى أن أرى القاهرة يوما ما فى جمال طوكيو ..
ــ إن القاهرة جميلة .. كما نسمع ..
ــ ولكن لا توجد مدينة فى العالم مثل طوكيو .. لقد وضعتم كل ما عندكم من جمال وفن فى العاصمة ..
وبرقت عيناها وقالت ..
ــ قد يكون هذا صحيحا ..
وقدم لى المستر اداشى أعدادا من مجلته .. وكان يفتش بعينيه فى لهفة عظيمة عن رأيى ..
وزوجته تنصت إلى كل كلمة أقولها ..
ولم أكن أعرف اليابانية ولا كلمة واحدة منها .. ولكنها أخذت تترجم لى العناوين وتشرح لى ما فى داخل الصفحات ..
ووجدت فنا خالصا وعملا أدبيا بحتا .. وهنأت الرجل وشكرته .. وشكرت سوجا على ترجمتها وهى تنظر إلى بثبات ورقة ..
واستأذنا فى الانصراف بعد الغروب وهما يعدانى بإرسال الصور لى فى الغد .. أو بعد غد وسيتركانها لى إن لم يجدانى فى مكتب الاستقبال ..
وكانت لى رغبة عاتية فى الجولان فى المدينة فى تلك الساعة من الليل .. فرافقتهما إلى محطة شمباسى .. وكانت سوجا فى مشيتها وأناقتها وتسريحة شعرها تدل على أنها تنتسب إلى وسط رفيع وأنها حقا زوجة فنان ..
وكانت حيوية الناس ونظافة ثيابهم وحركتهم السريعة .. تثير إعجابى وتلهب حواسى ..
وهبطنا درجات المترو .. وهناك على الرصيف ودعتهما وأنا أشعر بأنى وجدت صديقين فى هذه المدينة الكبيرة .. وكنت فيها من قبل كسمكة تسبح فى محيط ..
***
وابتعد المترو سريعا واختفت أنواره فى لحظة وجيزة وتلاشت الضوضاء من حولى .. وقد بقيت وحيدا على الرصيف أحد النظر فيما حولى من أنوار براقة تخطف البصر .. وفى الآلات الأوتوماتيكية التى يسقط الجمهور فيها قطع « الينات » .. فتخرج التذاكر .. وفى القطارات الزرقاء .. المغطاة كراسيها بالقطيفة .. وفى كل ما حولى من جمال ..
وكانت رائحة الشتاء تغمر المحطة والأمسية باردة .. ولم أكن أرتدى معطفا فضممت سترتى وأنا أصعد سلالم النفق إلى أعلى .. وأستقبل الهواء البارد فى شارع جنزا ..
كانت الأنوار تسطع والبالونات الحمراء .. والزرقاء والبنفسجية .. تسبح على رءوس العمارات الشاهقة .. وأنوار النيون تغمر واجهة الحوانيت ..
والناس يسرعون رائحين غادين على الرصيف والنساء فى الكومينو وفى الزى الأوربى والرجال قصار ولكنهم مصبوبون صبا فى قوالب واحدة .. ويسرعون فى نشاط عجيب إلى بيوتهم .. كانوا خارجين من البنوك والشركات والبيوتات المالية الكبيرة .. ويتجهون إلى مساكنهم .. فى الضواحى وأطراف المدينة ..
وكانت صورة اداشى بذقنه الصغيرة المدببة وعينيه الشهلاوين لا تبرح ذهنى ..
وعندما أمسيت فى غرفتى فى الفندق اتجهت أفكارى إليه فأخرجت مجلته وأخذت استعرض ما فيها وأدخن .. وأفكر فى سلسلة الروابط .. التى تربط الفنان فى العالم بأخيه ..
***
وفى الصباح المبكر من اليوم التالى دق جرس التليفون فى غرفتى .. ولما رفعت السماعة وجدت .. سوجا على الخط وقالت لى إنها تتحدث من بهو الفندق وأنها جاءت إلى بالصور .. وكانت قاعة الشاى بالفندق لا تفتح قبل التاسعة صباحا .. واستحيت أن أطلب منها أن تصعد إلى غرفتى .. فقلت لها بأنى سأوافيها .. فى البهو الداخلى الصغير الذى بجوار المصاعد فى الحال ..
ونزلت مسرعا فوجدتها ترتدى الرداء اليابانى الواسع الأكمام .. وكنت أرى ذراعيها الرقيقتين الناحلتين فى كميها العريضتين ..
وجلسنا فى ركن من القاعة وأرتنى الصور .. وسررت بها جدا فقد كانت لقطتها رائعة .. وقرأت على وجه زوجها فى الصورة الأسى الذى رأيته عليه فى الحياة .. وسألتها عنه ..
فقالت لى إنه مشغول .. بإخراج المجلة .. لأنها ستصدر فى أول العام الجديد .. وقالت لى إنه يقاسى ويعانى كثيرا .. ولا يحس به إنسان ولا يجد صدى فى الحياة وإنه سر جدا عندما رآنى .. والحديث عن مجلته فى أية مجلة عربية سيسعده ..
وأضافت برقة ..
ــ حبذا .. لو ترجمت من أعماله شيئا وأرسلته له ..
ووعدتها بذلك وسرت كثيرا ..
وقلت لها إن أقسى شئ على الفنان أن لا يجد الصدى .. ولا الرنين لأعماله الكبيرة ..
وتشيكوف يقول على لسان أحد أبطاله :
« إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والعطف من أى إنسان .. »
ولعل زوجك ترجم هذا فيما ترجم لتشيكوف .. وأحس بالمرارة نفسها ..
وقالت برقة :
ــ لابد أن يكون قد ترجم هذا .. وأحس به فعلا .. كما تقول .. إلى أين ستذهب فى هذا الصباح ..؟
ــ سأجول فى المدينة .. أسير كيفا اتفق ..
ــ هل رأيت قصر الإمبراطور .. والتليفزيون والمحطة وجامعة طوكيو ..
ــ كل هذا رأيته .. وحتى كلية البنات ..
وضحكت .. وسألتنى باستغراب ..
ــ ولماذا ذهبت إلى هناك ..؟
ــ لأرى الفتاة اليابانية الصغيرة .. فى المدرسة .. وأعرف ما تتعلمه هناك .. لتواجه به الحياة ..
ــ وهل أعجبتك ..؟
ــ جدا .. إنها مثال الفتاة المهذبة النقية .. التى تسعد زوجها حقا ..
وكانت تبتسم ..
وظللنا نتحدث .. وكانت الساعة قد جاوزت التاسعة وافتتحت قاعة الشاى .. فعرضت عليها أن نجلس قليلا فى القاعة ..
فقالت برقة :
ــ أنا لا أود أن أحرمك من التمتع بمنظر المدينة فى الصباح .. وأحبسك بين هذه الجدران .. الأحسن أن نخرج ..
ونهضنا .. ونفذنا من الباب الدوار معا إلى الطريق .. واستقبلنا الصباح المشرق ببشاشته ..
وسرنا متمهلين تحت الكوبرى الذى يعبر فوقه المترو .. وكنا نسمع هزاته السريعة فوقنا ..
وكانت هذه أول مرة أخرج فيها بصحبة امرأة فى هذه المدينة الكبيرة .. كانت رقيقة وادعة وابتسامتها المؤثرة .. تمسح لواعج صدرى .. وكنت خائفا ومقرورا حتى فى الصباح الدافئ ..
وكانت الشمس تفضض الأرض وتذيب ندى الفجر .. وتطارد الضباب ..
واجتذبتنى المطاعم الصغيرة .. والحوانيت .. ودكاكين الشوكولاتة والسجائر .. والفاكهة .. التى على الجانبين .. بنظافتها والنساء الجالسات فى صف طويل يمسحن أحذية المارة .. فى براعة وأناقة ..
وقلت لسوجا :
ــ إن منظرهن ممتع ..
ــ ولكنى أشفق على الصبايا منهن من هذا العمل ...
وتنضر وجهها .. ونحن نقترب من حى جنزا .. وقد أغلقت أبواب ملاهيه.. الحى الذى ليس له ضريب فى العالم .. والذى يتألق فى الليل .. كالماس على صدر أجمل حسناء يلفظ الآن أنفاسه .. ولن تفتح أبوابه .. إلا بعد الخامسة مساء ..
إن الجمال الممتع فى الليل يتحول فى النهار إلى كآبة موحشة ..
وخرجنا من الحى ..
ودخلنا مكتبة على الطريق .. ومتجرا كبيرا من سبعة طوابق .. وركبنا السلم الكهربى كطفلين صغيرين ..
وكانت جذلانة وكنت أشد منها سرورا .. وعلى سطح المتجر جلسنا نشرب الشاى ..
وانتقت لى بعض القمصان الجاهزة والكرافتات .. وآلة حلاقة كهربية .. وكنت أود أن أشترى لها أى شئ بسيط .. ولكن رفضت بإلحاح أذهلنى ..
وسألتنى إن كنت قد رأيت .. مسرح كابوكى .. والسيزاما .. وذهبت إلى فوجى .. وهاكونو فلما قلت لها بأنى شاهدت كل هذه الأشياء ..
قالت ضاحكة ..
ــ أنت الآن تصلح لأن تكون دليلى ..
وكنت أشخص إلى الفنجان الذى تمسكه بيدها البضة .. وأبقى سادرا مشدوها وكانت خصل من شعرها الأسود تبدو من تحت وشاحها الحريرى وتلتصق بصدغيها ورائحة عبقة تمتزج مع أنفاسها رائحة البنفسج الممزوج بالمسك ..
وسألتنى :
ــ ما بالك صامتا ..؟
فقلت هامسا :
ــ كنت أفكر .. لماذا التقيت بك ..؟
وسألتنى وهى تقترب بوجهها منى :
ــ ماذا تقول ..؟
وكانت لم تسمع قولى .. وحمدت اللّه على ذلك وقلت ..
ــ إنى أفكر فى زيارة جريدة اساهى .. إن رقم توزيعها يذهلنى ..
ــ سيذهب معك زوجى .. وسأجعله يرتب الأمر مع الجريدة ..
ونظرت فى ساعتها .. وكانت الساعة تقترب من الحادية عشرة .. فاستأذنت وودعتها على محطة الأوتوبيس ..
***
وأخذت استقبل من طريقى ما استدبر .. كنت أسير فى الطريق الذى اجتزناه منذ لحظات .. وكان شعور شديد من الكآبة .. الممزوج بالفرح .. يجتاحنى ..
وعلى حاجز الكوبرى الصغير .. الذى تجرى تحته الترعة التى تشق المدينة وبجوار ملهى السفينة .. وقفت أرقب المياه الساكنة تحتى وأنا أحس بأنها تتحرك وتتحرك عن مثل الدوامة ..
ولما مر القطار .. فكرت أن أركبه لمدة ساعة وأرى ضواحى المدينة ثم وجدت نفسى أقتعد حجرا فى مقهى صغير على حافة الترعة وكانت على بعد نصف فرسخ من المحطة ..
وكانت فتاة المقهى لا تعرف الإنجليزية .. ولا الفرنسية .. فجذبتنى من كمى إلى الداخل لأختار ما أريده من الطعام والشراب .. وبعد قليل انزاحت عنى الكآبة وشعرت بأن ضحكتها الفضية ترقص قلبى ..
***
وزرت مع مستر أداشى جريدة أساهى .. والجامعة الأهلية .. وكل المكتبات الكبيرة فى المدينة .. وشكرت الرجل الفنان لأنه خصص لى كل هذا الوقت وتركنى وهو يحدثنى بأنه لا يزال يبحث عن العدد الأول من مجلته .. ليضمه الى المجموعة التى أهداها لى ..
واسترحت قليلا فى الفندق ..
***
وفى الليل خرجت إلى المدينة الرهيبة وحدى وكنت أسير كالضال فى الليل الحالم .. وجذبتنى ملاهى جنزا .. بأنوارها والستائر على الأبواب الزجاجية الصغيرة .. ودفعت بابا صغيرا فيها .. ودخلت فوجدت صبية على الباب تقول بلهجة مهذبة وهى تنحنى .. وتفتح لى الباب ..
ــ تفضل يا سيد ..
ووقفت على الباب لحظات من الخارج .. أنظر إلى الداخل .. وكان المكان صغيرا .. وبه حوالى عشر فتيات .. يرتدين زى الكومينو .. وبعضهن بالزى الأوربى وكن جالسات وواقفات خلف الطاولة المستديرة .. وعيونهن ترقب كل داخل .. ولم يكن بالمكان أحد .. فهممت أن أدخل ثم استحييت أن ينفردن بى ويتجمعن حولى وليست لى رغبة فى الشراب .. فرجعت عن الباب .. وفى تلك اللحظة لمحت سيدة تعبر الطريق .. ولما دققت النظر فيها عرفت أنها « سوجا » ..
ووقفت لما رأتنى كأنها تنتظرنى .. فأسرعت إليها ..
وسألتنى :
ــ هل كنت بالداخل ؟
ــ إننى لم أدخل بعد .. كنت أنظر من خلال الباب ..
ــ وأعجبك المنظر .. ؟
ــ جدا ..
وضحكت أنا .. واكتفت هى بالابتسام .. لكننى أحسست بعد بضع خطوات أنها تشعر بالزهو .. لأنها أبعدتنى عن هذا المكان ..
وكنت أعرف .. مشربا هادئا من مشارب الشاى .. قريبا من حى شمباسى .. فمشينا إليه .. ومشت بجوارى صامتة .. وأنا أحس بوقع خطواتها على الأرض الحجرية ..
وسألتها عن زوجها .. فقالت لى إنها تركته منذ نصف ساعة فى عمله .. وإنها فى طريقها إلى البيت ..
وجلسنا ساعة فى المشرب ثم خرجنا وقلت لها إننى أود أن أريها مجموعات من الصور .. اشتريتها من هونج كونج .. ومانيللا .. وبانكوك .. وشانغهاى .. ودلهى الجديدة .. وبومباى .. مادامت مغرمة بالتصوير .. فوافقت ..
ولما اقتربنا من باب الفندق .. دخلت معى .. وتناولت المفتاح واتجهنا توا.. إلى باب المصعد وهى بجوارى صامتة .. وصعدنا .. إلى الدور السابع .. ودخلنا غرفتى .. وكانت صغيرة وأنيقة .. فسرت منها وجلسنا قليلا نتحدث.. ثم أخرجت لها مجموعة الصور وتركتها تقلب فيها واتجهت إلى الحمام .. وكان من داخل الغرفة وقبل أن أدخله ملت إلى باب الغرفة الخارجى وأغلقته بالمفتاح من الداخل بحركة خفيفة حتى لا تحس بى ..
وشعرت وأنا أدير صنبور المياه الساخن الذى فى الحمام لأغسل وجهى أنها وضعت سماعة التليفون الذى فى الغرفة ..
فلما أسرعت وعدت إليها وجدتها منهمكة فى الصور .. وراقتها جدا .. صور شنغهاى .. بومباى ..
وجلست بجوارها .. أقلب معها فى الألبوم وأريها الصور الباقية ثم وجدت نفسى دون إدراك .. أضمها ألى صدرى وأقبل عنقها .. ووجهها ..
وأخذت تدفعنى بلطف وأنا أقترب ولما رأتنى لا أتراجع ازدادت مقاومتها وازداد تطويقى لها وأخذت أقبلها فى جنون .
واستفقت على قرع الباب الخارجى .. فنظرت إلى عينيها قليلا .. واتجهت إلى الباب .. فوجدت الخادمة تحمل صينية الشاى ..
ولم أكن قد طلبت شيئا .. وأدركت أنها هى التى طلبته بالتليفون وأنا فى الحمام وانها شعرت بى وأنا أغلق الباب من الداخل فتعمدت أن تأتى الخادمة وتقطع علينا هذه الخلوة لتمنعنى من حماقة ..
وشعرت بالخجل .. لما ذهبت الخادمة وظلت سوجا بجانبى وكنت أشعر بالقلق ..
وقلت لها :
ــ آسف لما حدث ..
ــ أنا أعرف أنك متعب الأعصاب يا سيد إبراهيم .. وما حدث كان نزوة أعصاب مرهقة ..
ــ شكرا .. ولكنك جعلتينى أعتقد خلاف ذلك ..
ــ ماذا ..؟
ــ اّننى أصبحت غير مرغوب فى من النساء ..
ــ لا تفكر فى هذا .. إن الخطيئة تحطمنى تماما ..
ــ لم يحدث شئ .. ولقد نسيت بحماقتى أنك تحبين زوجك .
ــ إننى الشئ الباقى له .. فى الحياة ..
وما زلت أحادثها حتى هدأت واطمأنت تماما .. إلى أن ما حدث كان عارضا وقتيا .. لا يتكرر ثانية ..
ثم رافقتها إلى الخارج ..
***
وبعد يومين زارنى المستر اداشى فى الفندق وهو يحمل لى العدد الأول من مجلته .. وكان الرجل منكسر النفس .. ورقيقا للغاية حتى جعلنى أشعر بالخجل .. وكان يزهو وهو يقدم لى هذا العدد بالذات كأنه يحمل كنزا ..
ولما قلت له .. إنى أود أن أشترى عقدا من اللؤلؤ لزوجتى من المدينة ولا أستطيع أن أميز بين اللؤلؤ الحقيقى واللؤلؤ الصناعى ..
قال لى بلطف :
ــ سترافقك سوجا فى الوقت الذى تختاره .. إنها خبيرة ..
***
ولما دخلت المتجر أنا وهى وعرضت علىّ البائعة الآلئ من كل الأحجام والألوان وانحنت سوجا على الطاولة لتفحصها كنت أعرف أنها هى اللؤلؤة الحقيقية .. النادرة الوجود .. وما عداها زائف ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة المساء 8/4/1960 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " وبمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================
التفاحــة
قصة محمود البدوى
ذات ليلة من ليالى السبت كنت أسير وحدى فى شارع جنزا .. ذلك الشارع المتألق بمدينة طوكيو دون وجهة معينة .. ودون رغبة .
وأخذت أستعرض واجهات المحلات التجارية بأنوارها الزاهية .. وأرقب المارة فى زيهم المختلف الأشكال وفى أناقتهم البالغة .
وكان منظر النساء فى لباس الكومينو يستهوى النفس ويأخذ بمجامع القلب . ورأيت فتاة يابانية فى زى أوروبى تقف على ناصية تحت مصباح أزرق وقفة رائعة ونظرها يتجه إلى بالون كبير مضىء يدور فوق إحدى السطوح !
ورأيت شابا على بعد امتار منها يلتقط لها صورة .
فوقفت أتأملها .. كانت الفتاة رائعة الحسن حقا ومن نوع جديد شديد الإثارة . لم تكن تسرف فى زينتها ككل اليابانيات .. بل كانت متأنقة فى جمال طبيعى وفتنة فى العينين الذابلتين وفى الشعر الأسود الشديد اللمعان وكانت تسريحتها يابانية جميلة ووجهها أبيض نضيرا ..
وكانت ترتدى جونلة وصديرا من الصوف البنى .. ينسجم انسجاما رائعا على جسمها الرشيق .. ووقفت أتأملها والمصور يلتقط لها الصورة ثم حركت قدميها الصغيرتين ومضت فى الشارع وحمل المصور آلته ومضى وراءها ..
ولما خرجت من هذا الشارع الكبير إلى الشوارع الجانبية الضيقة المتألقة فى الليل الحالم .. رأيت هذه الفتاة تقف نفس الوقفة للتصوير .
ثم رأيتها مرة ثالثة فى مكان آخر ، ولما وقفت أرقبها هذه المرة رمقتنى وابتسمت كانت تتصور أننى أتبعها عامدا .. مع أن لقاءنا فى كل هذه المرات.. كان من قبيل المصادفة البحتة وتركتها فى زحمة الناس وأنا مأخوذ بسحر جمالها ..
ومضيت أتجول فى المدينة الضخمة حتى أحسست بالتعب وجذبتنى قهوة صغيرة على الطريق فدخلتها لأستريح وسرنى الهدوء الذى لمسته فيها والموسيقى الخفيفة التى تنبعث من الجرامافون . وكان سقفها وأرضها وسلمها الداخلى من الخشب المزخرف المطعم . وعلى الحوائط رسومات زيتية رائعة .
وكانت القهوة من طابقين والموائد صغيرة وأنيقة والكراسى طويلة ومكسية بالقطيفة وأصص الزهور فى كل ركن وكان فيها سبع بنات حسان يقمن بالخدمة ..
وانحنت أمامى حسناء تسألنى فى أدب ورقة عما أطلب .. ولقد عرفتها فى الحال كانت هى الفتاة التى شاهدتها منذ ساعة تتصور فى الطريق ..
وقلت لها وأنا أنظر إلى السواد المتألق فى عينيها ..
ــ زجاجة صغيرة من البيرة ..
ــ لا يوجد هنا بيرة ..
ــ لا توجد بيرة .. ؟
ــ إطلاقا .. إنه مقهى كما ترى فيه قهوة وشاى .. وعصير فواكه ويمكن أن تطلب وجبة خفيفة ..
ــ إذن سأشرب قهوة ..
ــ حالا ..
واستدارت نصف دورة بين الكراسى والموائد .. ثم هبطت سلما خشبيا صغيرا وأخذت أعد ضربات أقدامها على الخشب وعادت بعد قليل تضع أمامى طبقا فيه فوطة بيضاء مبلولة .. يتصاعد منها البخار .
وكنت أعرف أن هذه الفوطة تقدم دائما فى طوكيو قبل الطعام والشراب وحتى عند الحلاق !
فقلت للفتاة مداعبا ..
ــ إن حى جنزا كالبلور .. فمن أين يأتينى العرق والتراب .
ــ ستشعر على أى حال بالراحة بعد مسح وجهك !
ولقد شعرت بالراحة فعلا منذ وضعت قدمى فى هذا المكان .. فجوه الشعرى الحالم .. يرخى الأعصاب .. ويهز المشاعر وكان هناك ثمانية من الرواد .. جلسوا فى هدوء وصمت .. والشىء المتحرك فى المكان .. كان شابا يابانيا ينهض كل دقيقة إلى التليفون .. ثم يعود إلى مائدته ، وكلما وضع السماعة كان يتحدث مع صاحبة القهوة وكانت جالسة على « البنك » تبتسم له وتحيى الداخلين والخارجين بابتسامة أيضا .. وانحناءة من رأسها .. وكانت هناك فتاة واقفة وراء الباب تفتحه للداخلين وهى تحييهم تحية الاستقبال ..
وجاءت فتاتى تتهادى وتحمل القهوة ..
وكان ثمن الفنجان 60 ينا ..
فأعطيتها قطعة بمائة ين .. ولما ردت الباقى قلت لها إنه بقشيش ..
وقالت برقة وقد أحمر خداها ..
ــ إننا لا نأخذ بقشيشا .. ؟
ــ لماذا ؟
ــ هذه تقاليد القهوة ..
وكانت صاحبة المحل ترقبنا بابتسامة فطويت الباقى فى جيبى ..
ولاحظت أن الفتيات الأخريات يحادثن الرواد ما دام ليس لديهن عمل ..
فقلت لفتاتى ..
ــ لقد شاهدتك تتصورين هناك ..
ــ وأنا رأيتك أيضا ..
ــ هل كانت الصورة .. كتذكار ؟ ..
ــ أبدا .. إن المصور يبيعها لمجلات أميركية .. فوج .. ولوك ..
ـ وكم تأخذين على الصورة .. ؟
ــ خمسمائة ين ..
ــ خمسمائة ين ؟ ( 50 قرشا ) إنه يبيعها بمئات الجنيهات !
ــ إن العملية .. لم تستغرق أكثر من نصف ساعة .. والخمسمائة ين لا بأس بها لفتاة مثلى ..
ونظرت إلى وجهها الضاحك .. وكنت أود أن أقول لها إنها تساوى كل ما فى الأرض من ذهب ..
وسألتنى ..
ــ هل تحب أن تسمع موسيقى شرقية ؟
ــ يسرنى هذا ..
وأذاعت بعض الموسيقى الهندية .
وسألتها ..
ــ إلى متى يبقى المقهى مفتوحا ؟
ــ حتى الحادية عشرة ..
ــ وبعد ذلك ؟
ــ نذهب لننام ..
وضحكت ..
ــ وإذا ذهبنا إلى السينما أو المسرح ..
ــ لا يوجد مسارح فى طوكيو فى مثل هذه الساعة .. والسينما .. ماذا يبقى على الفيلم ؟
ــ تكفينى نصف ساعة .. الغرض أن نتنزه معا ..
ــ تعال غدا .. وسأتفق مع إحدى زميلاتى .. ونخرج من الساعة التاسعة..
ــ فى الساعة التاسعة غدا سأكون فى المطار ..
ــ حقا .. راحل عنا سريعا ..
ــ بكل أسف .. يضطرنى عملى لهذا .. وأرجو أن تحققى رغبة شخص غريب يحب اليابان .
ــ ما هى رغبته ؟
ــ أن نتجول ساعة فى حى جنزا ..
وفكرت قليلا .. وهزت شعرها .. ودفعت سوالفها بيديها .. ثم قالت بنعومة ..
ــ انتظرنى على ناصية الشارع .. وسآتى بعد دقائق ..
وشكرتها بقلب حار .. وخرجت من المقهى .. وأنا أطير من الفرح ..
***
وانتظرتها وجاءت .. وأخذنا نتجول فى المدينة الحالمة .. ونرى الفوانيس من كل الألوان على واجهات البيوت .. والبالونات .. تضيئ بالألوان الزاهية..
وكانت السماء تمطر رذاذا ، وشىء خفيف كهزة الزلزال .. ترج المنازل..
وأمسكت بيديها .. ولم يكن هناك شىء فى الوجود يمكن أن يفصلنى عنها فى مثل هذه الساعة .
كنت لا أعرف اسمها .. وكانت لا تعرف اسمى .. ولكنا شعرنا بعاطفة قوية جمعتنا معا ..
وكنت أسمع دقات قلبى كأنها تناديها .. لتقترب منى أكثر وأكثر فى كل خطوة ..
ومشينا على مهل نتمتع بالجمال .. ثم دخلنا مرقصا من المراقص التى تسهر إلى الصباح لنجد وقتا طويلا نقضيه معا ..
وجلسنا متجاورين نتحدث ومن عجب أننى لم ألتفت إلى الرقص وكان المرقص يضم أشهر الراقصات فى طوكيو ..
وسألتنى .. بعد أن خرجنا ..
ــ هل أعجبك الرقص ؟
ــ إننى لم أشاهد شيئا ..
ــ لماذا ؟
ــ إن حواسى كلها كانت متجهة إليك ..
ــ إلى هذا الحد أنت معجب بى ؟
ــ اسمعى دقات قلبى ..
فضحكت
وقلت لها وأنا أضغط على يدها ..
ــ هل يمكن أن نختم هذه الجولة .. بفنجان من الشاى فى الفندق .
ــ كما تحب .. ولكن لا تؤخرنى كثيرا عن بيتى ..
وأحسسنا بالجوع .. فأكلنا لحما مشويا على النار .. ونحن وقوف فى مطعم شعبى قرب محطة شمباسى ..
واشترينا أربع تفاحات كبيرة لنأكلها فى الفندق ..
ولما وصلنا باب الفندق الدوار لم نجلس فى البهو بل وجدت نفسى .. أسير بها إلى المصعد .. ومشت بجوارى صامتة ..
ودخلنا غرفتى .. وجلست محمرة الوجه .. ساكنة .. وسألتها ..
ــ هل نطلب شايا ؟
ــ يكفى أن نأكل التفاح ..
وتناول كل منا تفاحة .. وأخذنا نأكل ونضحك ..
وخلعت بلوزتها .. وجلست بجوارى .. فكنت آخذ قضمة من التفاحة وأقبل فمها .. وكانت حلاوة فمها أحلى من التفاحة .
***
ولم يكن فى غرفتى الصغيرة مرآة .. فذهبت إلى الحمام لتتزين وعادت كالعروس .. فوجدتنى ألقى بالتفاحة الأخيرة والباقية منها فى سلة المهملات وكنت قد أخذت منها قضمة ..
ــ ولماذا تلقيها فى السلة ؟
ــ شبعت ..
ــ ولكنها خسارة ..
ووضعت يدها فى السلة وأخرجتها ولفتها فى ورقة ..
ــ لماذا فعلت هذا ؟ ..
ــ سأخذها لوالدتى .. إنها لم تذقه قط !
وكأنما لسعنى سوط .. فمزق لحمى .. وانتفضت .. وذابت كل عواطفى الجياشة فى تيه من المشاعر المتضاربة .
وأخذت أسائل نفسى .. هل والدتها فى حاجة إلى تفاحة معطوبة .. اشتريناها بأربعة قروش وهل هى فى حاجة إلى مثل هذا المبلغ وأقل منه لتأكل التفاح .. أى بؤس وأى حياة تاعسة تعيشها هذه المسكينة وأمها .. وأنا لا أدرى ولا أفكر إلا فى رغبات حواسى ونزواتى ..
وكانت الفتاة فى قميص النوم فى هذه اللحظة وقد تهيأت للفراش ولم تفهم ما دار فى رأسى ونظرت إليها كشىء ذليل يمزقه الفقر ويمنحنى نفسه .. عن حاجة وليس عن رغبة .. وليس عن حب ..
واستراحت على الفراش .. فأمسكت بيديها ..
وسألتنى بصوت خافت ..
ــ ألا تخلع سترتك ؟
ــ أبدا ..
ــ لماذا .. ؟
ــ لأننى سأرافقك إلى بيتك .. فى الحال وسأشترى لوالدتك صندوقا من التفاح ..
وفاضت عبراتها .. فأمسكت بيدها .. وضغطت على يدى وشعرت بالحرارة الإنسانية لأول مرة .. الحرارة الخالصة للنفس البشرية .. الحرارة المتدفقة من أعماق القلب ..
=================================
نشرت القصة بمجوعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " فى سنة 1960 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص من اليابان 2001 من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
قصة محمود البدوى
ذات ليلة من ليالى السبت كنت أسير وحدى فى شارع جنزا .. ذلك الشارع المتألق بمدينة طوكيو دون وجهة معينة .. ودون رغبة .
وأخذت أستعرض واجهات المحلات التجارية بأنوارها الزاهية .. وأرقب المارة فى زيهم المختلف الأشكال وفى أناقتهم البالغة .
وكان منظر النساء فى لباس الكومينو يستهوى النفس ويأخذ بمجامع القلب . ورأيت فتاة يابانية فى زى أوروبى تقف على ناصية تحت مصباح أزرق وقفة رائعة ونظرها يتجه إلى بالون كبير مضىء يدور فوق إحدى السطوح !
ورأيت شابا على بعد امتار منها يلتقط لها صورة .
فوقفت أتأملها .. كانت الفتاة رائعة الحسن حقا ومن نوع جديد شديد الإثارة . لم تكن تسرف فى زينتها ككل اليابانيات .. بل كانت متأنقة فى جمال طبيعى وفتنة فى العينين الذابلتين وفى الشعر الأسود الشديد اللمعان وكانت تسريحتها يابانية جميلة ووجهها أبيض نضيرا ..
وكانت ترتدى جونلة وصديرا من الصوف البنى .. ينسجم انسجاما رائعا على جسمها الرشيق .. ووقفت أتأملها والمصور يلتقط لها الصورة ثم حركت قدميها الصغيرتين ومضت فى الشارع وحمل المصور آلته ومضى وراءها ..
ولما خرجت من هذا الشارع الكبير إلى الشوارع الجانبية الضيقة المتألقة فى الليل الحالم .. رأيت هذه الفتاة تقف نفس الوقفة للتصوير .
ثم رأيتها مرة ثالثة فى مكان آخر ، ولما وقفت أرقبها هذه المرة رمقتنى وابتسمت كانت تتصور أننى أتبعها عامدا .. مع أن لقاءنا فى كل هذه المرات.. كان من قبيل المصادفة البحتة وتركتها فى زحمة الناس وأنا مأخوذ بسحر جمالها ..
ومضيت أتجول فى المدينة الضخمة حتى أحسست بالتعب وجذبتنى قهوة صغيرة على الطريق فدخلتها لأستريح وسرنى الهدوء الذى لمسته فيها والموسيقى الخفيفة التى تنبعث من الجرامافون . وكان سقفها وأرضها وسلمها الداخلى من الخشب المزخرف المطعم . وعلى الحوائط رسومات زيتية رائعة .
وكانت القهوة من طابقين والموائد صغيرة وأنيقة والكراسى طويلة ومكسية بالقطيفة وأصص الزهور فى كل ركن وكان فيها سبع بنات حسان يقمن بالخدمة ..
وانحنت أمامى حسناء تسألنى فى أدب ورقة عما أطلب .. ولقد عرفتها فى الحال كانت هى الفتاة التى شاهدتها منذ ساعة تتصور فى الطريق ..
وقلت لها وأنا أنظر إلى السواد المتألق فى عينيها ..
ــ زجاجة صغيرة من البيرة ..
ــ لا يوجد هنا بيرة ..
ــ لا توجد بيرة .. ؟
ــ إطلاقا .. إنه مقهى كما ترى فيه قهوة وشاى .. وعصير فواكه ويمكن أن تطلب وجبة خفيفة ..
ــ إذن سأشرب قهوة ..
ــ حالا ..
واستدارت نصف دورة بين الكراسى والموائد .. ثم هبطت سلما خشبيا صغيرا وأخذت أعد ضربات أقدامها على الخشب وعادت بعد قليل تضع أمامى طبقا فيه فوطة بيضاء مبلولة .. يتصاعد منها البخار .
وكنت أعرف أن هذه الفوطة تقدم دائما فى طوكيو قبل الطعام والشراب وحتى عند الحلاق !
فقلت للفتاة مداعبا ..
ــ إن حى جنزا كالبلور .. فمن أين يأتينى العرق والتراب .
ــ ستشعر على أى حال بالراحة بعد مسح وجهك !
ولقد شعرت بالراحة فعلا منذ وضعت قدمى فى هذا المكان .. فجوه الشعرى الحالم .. يرخى الأعصاب .. ويهز المشاعر وكان هناك ثمانية من الرواد .. جلسوا فى هدوء وصمت .. والشىء المتحرك فى المكان .. كان شابا يابانيا ينهض كل دقيقة إلى التليفون .. ثم يعود إلى مائدته ، وكلما وضع السماعة كان يتحدث مع صاحبة القهوة وكانت جالسة على « البنك » تبتسم له وتحيى الداخلين والخارجين بابتسامة أيضا .. وانحناءة من رأسها .. وكانت هناك فتاة واقفة وراء الباب تفتحه للداخلين وهى تحييهم تحية الاستقبال ..
وجاءت فتاتى تتهادى وتحمل القهوة ..
وكان ثمن الفنجان 60 ينا ..
فأعطيتها قطعة بمائة ين .. ولما ردت الباقى قلت لها إنه بقشيش ..
وقالت برقة وقد أحمر خداها ..
ــ إننا لا نأخذ بقشيشا .. ؟
ــ لماذا ؟
ــ هذه تقاليد القهوة ..
وكانت صاحبة المحل ترقبنا بابتسامة فطويت الباقى فى جيبى ..
ولاحظت أن الفتيات الأخريات يحادثن الرواد ما دام ليس لديهن عمل ..
فقلت لفتاتى ..
ــ لقد شاهدتك تتصورين هناك ..
ــ وأنا رأيتك أيضا ..
ــ هل كانت الصورة .. كتذكار ؟ ..
ــ أبدا .. إن المصور يبيعها لمجلات أميركية .. فوج .. ولوك ..
ـ وكم تأخذين على الصورة .. ؟
ــ خمسمائة ين ..
ــ خمسمائة ين ؟ ( 50 قرشا ) إنه يبيعها بمئات الجنيهات !
ــ إن العملية .. لم تستغرق أكثر من نصف ساعة .. والخمسمائة ين لا بأس بها لفتاة مثلى ..
ونظرت إلى وجهها الضاحك .. وكنت أود أن أقول لها إنها تساوى كل ما فى الأرض من ذهب ..
وسألتنى ..
ــ هل تحب أن تسمع موسيقى شرقية ؟
ــ يسرنى هذا ..
وأذاعت بعض الموسيقى الهندية .
وسألتها ..
ــ إلى متى يبقى المقهى مفتوحا ؟
ــ حتى الحادية عشرة ..
ــ وبعد ذلك ؟
ــ نذهب لننام ..
وضحكت ..
ــ وإذا ذهبنا إلى السينما أو المسرح ..
ــ لا يوجد مسارح فى طوكيو فى مثل هذه الساعة .. والسينما .. ماذا يبقى على الفيلم ؟
ــ تكفينى نصف ساعة .. الغرض أن نتنزه معا ..
ــ تعال غدا .. وسأتفق مع إحدى زميلاتى .. ونخرج من الساعة التاسعة..
ــ فى الساعة التاسعة غدا سأكون فى المطار ..
ــ حقا .. راحل عنا سريعا ..
ــ بكل أسف .. يضطرنى عملى لهذا .. وأرجو أن تحققى رغبة شخص غريب يحب اليابان .
ــ ما هى رغبته ؟
ــ أن نتجول ساعة فى حى جنزا ..
وفكرت قليلا .. وهزت شعرها .. ودفعت سوالفها بيديها .. ثم قالت بنعومة ..
ــ انتظرنى على ناصية الشارع .. وسآتى بعد دقائق ..
وشكرتها بقلب حار .. وخرجت من المقهى .. وأنا أطير من الفرح ..
***
وانتظرتها وجاءت .. وأخذنا نتجول فى المدينة الحالمة .. ونرى الفوانيس من كل الألوان على واجهات البيوت .. والبالونات .. تضيئ بالألوان الزاهية..
وكانت السماء تمطر رذاذا ، وشىء خفيف كهزة الزلزال .. ترج المنازل..
وأمسكت بيديها .. ولم يكن هناك شىء فى الوجود يمكن أن يفصلنى عنها فى مثل هذه الساعة .
كنت لا أعرف اسمها .. وكانت لا تعرف اسمى .. ولكنا شعرنا بعاطفة قوية جمعتنا معا ..
وكنت أسمع دقات قلبى كأنها تناديها .. لتقترب منى أكثر وأكثر فى كل خطوة ..
ومشينا على مهل نتمتع بالجمال .. ثم دخلنا مرقصا من المراقص التى تسهر إلى الصباح لنجد وقتا طويلا نقضيه معا ..
وجلسنا متجاورين نتحدث ومن عجب أننى لم ألتفت إلى الرقص وكان المرقص يضم أشهر الراقصات فى طوكيو ..
وسألتنى .. بعد أن خرجنا ..
ــ هل أعجبك الرقص ؟
ــ إننى لم أشاهد شيئا ..
ــ لماذا ؟
ــ إن حواسى كلها كانت متجهة إليك ..
ــ إلى هذا الحد أنت معجب بى ؟
ــ اسمعى دقات قلبى ..
فضحكت
وقلت لها وأنا أضغط على يدها ..
ــ هل يمكن أن نختم هذه الجولة .. بفنجان من الشاى فى الفندق .
ــ كما تحب .. ولكن لا تؤخرنى كثيرا عن بيتى ..
وأحسسنا بالجوع .. فأكلنا لحما مشويا على النار .. ونحن وقوف فى مطعم شعبى قرب محطة شمباسى ..
واشترينا أربع تفاحات كبيرة لنأكلها فى الفندق ..
ولما وصلنا باب الفندق الدوار لم نجلس فى البهو بل وجدت نفسى .. أسير بها إلى المصعد .. ومشت بجوارى صامتة ..
ودخلنا غرفتى .. وجلست محمرة الوجه .. ساكنة .. وسألتها ..
ــ هل نطلب شايا ؟
ــ يكفى أن نأكل التفاح ..
وتناول كل منا تفاحة .. وأخذنا نأكل ونضحك ..
وخلعت بلوزتها .. وجلست بجوارى .. فكنت آخذ قضمة من التفاحة وأقبل فمها .. وكانت حلاوة فمها أحلى من التفاحة .
***
ولم يكن فى غرفتى الصغيرة مرآة .. فذهبت إلى الحمام لتتزين وعادت كالعروس .. فوجدتنى ألقى بالتفاحة الأخيرة والباقية منها فى سلة المهملات وكنت قد أخذت منها قضمة ..
ــ ولماذا تلقيها فى السلة ؟
ــ شبعت ..
ــ ولكنها خسارة ..
ووضعت يدها فى السلة وأخرجتها ولفتها فى ورقة ..
ــ لماذا فعلت هذا ؟ ..
ــ سأخذها لوالدتى .. إنها لم تذقه قط !
وكأنما لسعنى سوط .. فمزق لحمى .. وانتفضت .. وذابت كل عواطفى الجياشة فى تيه من المشاعر المتضاربة .
وأخذت أسائل نفسى .. هل والدتها فى حاجة إلى تفاحة معطوبة .. اشتريناها بأربعة قروش وهل هى فى حاجة إلى مثل هذا المبلغ وأقل منه لتأكل التفاح .. أى بؤس وأى حياة تاعسة تعيشها هذه المسكينة وأمها .. وأنا لا أدرى ولا أفكر إلا فى رغبات حواسى ونزواتى ..
وكانت الفتاة فى قميص النوم فى هذه اللحظة وقد تهيأت للفراش ولم تفهم ما دار فى رأسى ونظرت إليها كشىء ذليل يمزقه الفقر ويمنحنى نفسه .. عن حاجة وليس عن رغبة .. وليس عن حب ..
واستراحت على الفراش .. فأمسكت بيديها ..
وسألتنى بصوت خافت ..
ــ ألا تخلع سترتك ؟
ــ أبدا ..
ــ لماذا .. ؟
ــ لأننى سأرافقك إلى بيتك .. فى الحال وسأشترى لوالدتك صندوقا من التفاح ..
وفاضت عبراتها .. فأمسكت بيدها .. وضغطت على يدى وشعرت بالحرارة الإنسانية لأول مرة .. الحرارة الخالصة للنفس البشرية .. الحرارة المتدفقة من أعماق القلب ..
=================================
نشرت القصة بمجوعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " فى سنة 1960 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص من اليابان 2001 من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق