الاثنين، ١٨ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 55 القصة الحقيقية وراء قصة المشلولة

قصة القصة
المشلولة


خرجـت ذات ليلة صيفية من قطار الصعيد ، أحمل معى غبار السفر ، ومشقة الطريق ، وزادتنى محطة القاهرة على اتساعها غما على غم .. فلم أجد فى ساحتها من صنف العربات ما يحملنى إلى سكنى ..

وكنت أسكن فى عابدين فى عمارة كبيرة من ستة طوابق .. فاتجهت إليها ماشيا بعد أن عجزت عن الركوب .. وساعدنى على ذلك كونى لا أحمل جنس الحقائب فى أى سفر طال أو قصر ، وعلى الأخص إذا كانت وجهتى الصعيد ..!!

ومن باب العمـارة دخلت إلى المصعد ، وخرجت منه إلى باب الشقة ، وأخرجت المفتاح .. وقبل أن أديره فى القفل وجدت من يفتح لى الباب من الداخل فدخلت صامتا ..

واستقبلتنى الشغالة التى فتحت الباب صامتة أيضا .. وتحركت بسرعة إلى الداخل ..

وجلست على أول كرسى فى الصالة وأنا أدير بصرى فى المكان .. وأغلقت عينى وفتحتهما سبع مرات على الأقل .. وأنا أشعر بالدوار .. إنها ليست شقتى والكرسى الذى أجلس عليه ليس من الكراسى التى فى صالتى .. وان كانت الصالة هى هى فى طولها وعرضها .. واتساع أركانها ..

وظللت رغم مـا أدركته جالسا متخشبا ، وسمعت صوتا نسائيا يسأل :
ـ من الذى دخل يا سعدية ..؟
ـ دا البيه يا ستى ..
ـ طيب حضريله العشا ..!
ـ حاضر .. حالا ..

وتحركت أمامى سعدية مرة أخرى وكانت طويلة ملفوفة .. ودخلت المطبخ .. وخيم سكون شلنى لحظات ثم جعلنى أتحرك بسرعة ليست من طباعى فقد أحسست بأن الست خارجة من غرفتها .. لتستقبل البيه العائد من الخارج ..!

وحبست صوت أقدامى وخرجت من الشقة كالمطارد .. وحرصت على أن أغلق الباب بهدوء ..

وفى طرقة العمارة أدركت الخطأ .. فقد أخرجنى المصعد إلى الدور الثالث بدل الرابع .. وإلى الشـقة التى تحت شقتى تماما .. وكان ما كان ..

وبعد هذا بسنوات وجدت من السهل علىَّ جدا .. أن أكتب قصة " المشلولة " التى نشرت فى جريدة مايو ..

ومن الغريب أنه بعد نشرها .. وكنا فى مجلس أدبى من الأصدقاء وأكثرهم من كتاب القصة .. وجدت الأساتذة حسين الطوخى .. وأمين ريان .. وعزت ابراهيم .. يحكى ظروفا مشابهة حدثت له فى حياته .. أو دخل شقة أو بيتا وهو يتصور أنه بيته .. وحدثت له من ذلك أعاجيب أغرب مما وقع لى .. وكم فى الحياة من قصص أروع مما نبدع ..

====================================
*
نشرت قصـة القصة فى مجلة القصة ـ العدد 40 ـ أبريل 1984
* نشرت قصة " المشلولة " فى صحيفة مايو 19/4/1982 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " وفى كتاب " قصص من القاهرة " مكتبة مصر
====================================
المشلولة
قصة محمود البدوى


أعطانى الحاج أبو اسماعيل المفتاح .. وسافرت فى قطار الظهر .. وكانت الشقة فى شارع " المقريزى " وكنت أعرف الشارع والحى ولكن لم أدخل الشقة من قبل أبدا ..

وتأخر القطار خمس ساعات كاملة لانقلاب عربات بضاعة فى الخط .. ووصلت محطة القاهرة فى الثلث الأول من الليل بدل أن أصل قبل الغروب ..

وركبت المصعد إلى الشقة .. وضغطت على الزرار وكانت فى الدور الخامس .. ولما وضعت المفتاح فى القفل استعصى علىّ .. وسمع حركة القفل فى الباب شخص فى الداخل .. ففتح لى الباب وهو يقول :
ـ تفضل ..
وجرت الشغالة إلى الداخل بعد أن فتحت الباب وهى تصيح :
ـ البيه .. وصل يا ستى ..
ـ البيه .. وصل ..

وجلست على أول مقعد فى الصالة .. وأنا أحاول أن أحدد كل ما وقع من خطأ .. فأنا أخطأت فى الشقة .. وقد أكون أخطأت فى العمارة كذلك .. فالعمارات فى هذا الشارع متشابهة فى الطراز والحجم .. ومع يقينى بوقوع الخطأ ولكنى بقيت فى مكانى .. أتطلع إلى ما حولى على ضوء ثلاثة مصابيح أشعلتهم الشغالة مرة واحدة .. كأنها تحتفل بقدومى .. ساعة حائط كبيرة تدق .. وصورة زيتية لمنظر فى النيل ..

ثم صورة لشاب فى الثلاثين من عمره .. وقد تهندم أمام المصور وبرز فى أحسن حالاته .. وكان وجها سمينا .. وعيناه تتطلعان إلى شخصى ، مهما حاولت الابتعاد عنه .. ومن الغريب أننى وجدته قريب الشبه منى إلى حد مذهل ..

وكنت قد وضعت جانبا .. كيسا من التفاح اشتريته وأنا خارج من المحطة فى ميدان رمسيس .. فأخذته الشغالة إلى المطبخ وهى تصيح ..
ـ البيه .. جاء لك بتفاح حلو .. يا ستى ..
ـ مرسى .. خليه .. يتفضل يا سنية .. أنا صاحية ..

وعادت الشغالة تقول لى :
ـ تفضل .. عند الست .. هى صاحية ..
ـ حاضر .. بعد قليل .. لتأخذ هى راحتها أولا ..

وأدركت من مصدر الصوت أن الست مستريحة فى أول باب فى مواجهتى من الصالة .. وبعد أن فتحت الشغالة الباب ودخلت وخرجت منه .. استطعت أن أرى بعض محتويات الحجرة .. كالسرير .. وطاولة الزينة .. ومرآة الدولاب .. التى تكاد تعكس الشخص النائم فى الفراش ..

ولم يكن طابع الفضول هو الذى أبقانى فى المكان بعد أن أدركت مقدار ما وقعت فيه من خطأ .. وأننى دخلت مكانا لايمت لى بأية صلة .. ولا أعرف أحدا فيه ..

وإنما وجدت شيئا رهيبا .. فوق طاقتى يسمرنى بالمقعد الذى أجلس عليه .. كما أن التعب وسوء الحظ لازمنى طوال السفر .. بعد أن تعطل القطار جعلانى فى حالة من البلادة التى تلازم الكثير من الناس إذا وضعتهم الأقدار فى مثل موقفى ..

فقد وجدت بعد التعب ومشقة السفر .. مقعدا مريحا أرحت جسمى عليه فى شقة جميلة .. هادئة .. ليس فيها صراخ أطفال ، ولا صوت راديو .. ولامأتم وندب تليفزيونى ..

جلست فى مكانى شبه نائم وشبه حالم .. ونسيت كل ما يترتب على وجودى فى هذا المكان من عواقب .. فمجرد صرخة فزع من السيدة التى بالداخل إذا وقع بصرها على شخصى .. سيكون فيها هلاكى ..!

دار هذا الخاطر فى رأسى وأنا جالس ، ودار ما هو أكثر منه احتمالا .. ولكن مع ذلك بقيت ساكنا أتطلع إلى ضوء المصابيح الثلاثة التى تتراقص فى الصالة .. وقدرت انقطاع النور .. وهذا يحدث الآن فى أحياء القاهرة فى كل ساعة وحين ..

وفى الظلام الأسود تكون كل أركان الجريمة قد نسجت خيوطها حولى .. بإحكام يفوق كل تطلعات الذهن البشرى ..

وفى جيبى المسدس .. وأنا كريفى أتحرك به دائما لصق محفظتى .. ولكن من يفهم هذا .. من يفهم .. إذا دارت عجلة الظلام .. وطال دوارها .. وامتد وامتد ..

ولكن النور لم ينقطع .. وظلت مصابيح الكهرباء تتلألأ ..

***

وطلبت من الشغالة كوب ماء .. فنظرت إلى وجهى وقالت بنعومة :
ـ سأعمل لك قهوة .. يا بيه .. ظاهر عليك التعب .. وكانت نصف .. ووديعة ..
وقلت لها وهى تتحرك :
ـ كتر خيرك ..

وغابت تصنع القهوة .. وخيم السكون المطبق على الشقة .. ولم أعد أسمع كلام السيدة .. ولم أر من مكانى حركة لفراشها على السرير .. لعلها نامت أو استسلمت لرقادها ..

وجاءت الشغالة بالقهوة وهى تقول :
ـ أتريد حضرتك شيئا آخر ..؟ أنا مروحة ..
ـ مروحة ..؟
ـ نعم .. والعشاء .. على السفرة ..
ـ مروحة .. الآن .. كيف ..؟
ـ أروح بالليل لأولادى .. يا بيه ..
ـ والست تعرف هذا ..؟
ـ نعم وسأحضر بدرى .. قبل الشمس .. لأن الست تعبانة وحضرتك رايح شغلك .. فلا نتركها وحدها ..
ـ وكيف تتركينها الآن وحدها .. وهى تعبانة ..؟
ـ لأن حضرتك عدت من السفر .. جاء للست خطاب بأنك ستحضر مساء اليوم ..
ـ مساء اليوم ..!!
ـ وقرأته الست بدرية .. قريبة الست .. ولما علمت بحضورك مساء اليوم روحت .. وجعلتنى أبقى إلى أن تحضر ..
ـ والست تعبانة إلى هذه الدرجة ..؟
ـ إنها لاتتحرك من سريرها .. ركبها ..
ولم تشأ كشابة من بنات البلد الحسنة التهذيب والتى تحسن انتقاء الألفاظ .. أن تقول مشلولة .. بل اكتفت بأن قالت ركبها تعبانة ..

وقلت لسنية .. حتى لا أكشف نفسى بأنى غريب ومتورط ..!
ـ والسيدة بدرية لاتزال فى مسكنها القريب منا ..
ـ إنها فى العمارة 34 جنبنا على طول ..
ـ جنبنا على طول .. إذن أنا أخذت مفتاح الشقة فى العمارة 32 ولم يحدث أى خطأ .. وقد أكون فى شقة توفيق .. ولكن توفيق أعزب .. ويعيش وحده .. وسافر منذ سنتين .. وقد ترك المفتاح لأبيه الحاج أبو اسماعيل لينزل فيها فى غدوه ورواحه إلى القاهرة .. وليحافظ عليها .. وعلى نظافتها .. ولم يشأ قط أن يؤجرها مفروشة .. لأن فى هذا ما يعد ابتذالا لوضع الأسرة فى الصعيد .. لأن الحاج أبو اسماعيل نفسه لايحب أن ينزل فى فنادق القاهرة بعد أن لمت كل من هب ودب ..!

وظلت الشغالة تعود وتذهب إلى المطبخ .. ثم دلفت إلى حجرة الست .. وعادت مرة أخرى إلى المطبخ ..
وسمعتها تقول وهى على الباب الخارجى :
ـ تصبح على خير .. يا بيه ..
ـ تصبحى على خير .. يا سنية .. تعالى بدرى ..
ـ قبل الشمس .. وسأصحيك ..
وسحبت الباب الخارجى وراءها وخرجت ..

***

وبقيت وحدى .. اتطلع إلى الجدران .. وإلى السكون المخيم .. وخيل إلىَّ أن الست نامت .. ولكنى سمعت صوتها وهى تقول :
ـ تعال .. يا منير .. أنا مشتاقة إايك .. وصاحية .. وطيبة ..
ـ كنت عندك .. منذ لحظات .. ووجدتك نائمة ولم أشأ أن أوقظك .. ورأيتك أكثر جمالا ونضارة مما كنت .. وليس على وجهك أى علامة للمرض ..
ـ دخلت .. ورأيتنى ..؟
ـ نعم .. منذ لحظات ..
ـ ولم أحس بك ..!
ـ كنت نائمة ..
ـ إننى دائما .. أنام وأصحو .. وعيناى سادرتان هدمنى المرض .. بعد زواجنا بستة أشهر فقط سافرت يا منير ولم أشأ أن أحرمك من هذه المنحة .. منحة ألمانيا الغربية .. إنها فرصة العمر ..
ووجدت لسانى يردد كلامها :
ـ فرصة العمر ..
ـ ولكن فرصة العمر .. انقلبت علىَّ .. وطحنتنى .. ثلاثون يوما مرت كثلاثين سنة من العذاب .. وأنا على هذه الحالة .. لا أقوى على الحركة .. ولا حتى التفكير .. تعطلت فيها كل خلايا حياتى ..
وانقطع صوتها ..

وسألت نفسى منذ شهور وهى مريضة ومشلولة هذه المسكينة .. وفى غياب زوجها ، أى عذاب تتحمله الأنثى وأى مشقة .. وتظل صابرة ..

وسألتها :
ـ والدكتور .. ما رأيه ..؟
ـ دكتور .. إيه .. يا منير .. الدكاترة كانوا زمان .. الله يرحم الدكتور عبد العزيز إسماعيل عالج المرحوم والدى من الجلطة فى اسبوع .. قضى عليها تماما .. وقال له روح بقيت كالحصان ..!
الدكاترة كانوا زمان .. الدكتور الذى كان سيعطينى الحقنة اليوم لم يحضر .. لازم كان بيتفرج على الكرة .. فيه لعب اليوم ..!
ـ أنزل وأجىء لك بواحد ..
ـ بقينا فى نص الليل .. ليس كل واحد ينفع .. إنه متخصص ويعطى الحقنة فى عظم الركبة .. وأعطيه خمسة جنيهات على كل حقنة .. ولكن رأى مع ذلك أن الفرجة على الكرة أنفع وأحسن ..! الكل وحياتك يا منير .. يكتب روشتات .. نفس الدواء ونفس النوع .. شهر وأنا فى عذاب .. رحم الله أنور المفتى .. كان فخرا لمصر .. ولكنه ذهب .. كما يذهب كل طيب ونافع .. ويبقى
ـ ولكنى رأيتك متقدمة .. ووجهك أكثر جمالا ..
ـ صحيح ..؟
ـ حقا .. هذا ما رأيته ..
ـ لكن صوتك متغير .. يامنير .. يا منير .. من البرد هناك ..
ـ ثلج ..

ووقع علىَّ السؤال كلوح الثلج .. وكيف ميزت الآن .. والآن فقط بعد كل هذا الحوار الذى دار بيننا اختلاف صوتى .. كيف أدركت الآن فقط .. لعله تأثير المرض عليها .. أو لعل صوتى فى جرسه قريب من صوت زوجها .. أو لعل المرض فى شدة وطأته عليها جعلها تنسى صوت زوجها .. وشكل زوجها .. كل ذلك شبه ..

وعاودت تقول :
ـ كنت أرعى همك وتعبك وأقول ملعون أبو الوظيفة والبعثات التى تجعل الزوج يترك زوجته فى الشهور الأولى من زواجهما ويغيب سنة وسنة .. وسنة ..
ـ والآن الحمد لله لقد رجعت ..
ـ رجعت بعد إيه ..
ـ كله خير .. والخير فى ارادة الله ..
ـ أشعر الآن بقرب الشفاء .. بل لقد شفيت .. وعندما قرأت عمتى بدرية رسالتك التى تعلن فيها قدومك اليوم .. سرت فى كيانى رعشة .. وأحسست بساقى ينبض فيهما الدم .. وتندفعان للحركة .. هذا ما سيحدث هذا ما سيحدث ..

وصمت .. وسرحت أنا فى دوامة الأحداث .. ثم سمعتها تقول بغيرة الأنثى .. وبلهجة مؤكدة :
ـ والحقائب لن يفتحها سواى ..!
ـ بالطبع لن يفتحها غيرك ..
ـ وأين هى ..؟
ـ وضعتها سنية فى غرفة المكتب ..
ـ هذا أحسن .. ويدل على حسن تصرف .. إنها مدربة جاءت اليوم .. وجاء الخير على قدومها .. جئت معها فى نفس اليوم ..
ـ بنت طيبة ..
ـ آه .. لو شفت .. رأيت منهن العذاب .. كل واحدة بشكل .. التى تنظف لاتطبخ .. والتى تطبخ لا تنظف .. والتى تجىء برضيعها والتى تذهب بدون سبب .. والتى تخلف الميعاد .. والكاذبة واللصة على طول الخط .. وأخيرا جاءت الست مفيدة بهذه وتبدو طيبة .. ما الذى نعمله بعد أن عدت بالسلامة كله يهون ..

سمعت منها كل هذا الكلام .. وحرصت كل الحرص على ألا أكشف نفسى ..
أقول لها بأنى دخلت شقتها غلط فى غلط .. وأننى لست منيرا .. ولست زوجها ولا أمت له بأية صلة .. وأننى مجرد عابر .. جاء فى سماء القاهرة لمدة يومين أو ثلاثة ليشترى جرارا .. وما يحمله من نقود فى جيبه جعلته لاينزل فى فندق والشكر للحاج أبو إسماعيل صاحب الفضل والمروءة ..
إن كشفت نفسى سيؤذيها .. وهى فى أشد حالات مرضها وربما قضت عليها المفاجأة ..

***

ودقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. وانقطع ما بيننا من حوار ..

وأيقنت هى أننى دخلت عليها .. واطمأنيت على صحتها .. وأن حالتها الصحية هى التى جعلتنى لا أثقل عليها بالكلام .. ولا أقرب منها أكثر مما اقتربت لأن كل ذلك فى الساعات الأولى من اللقاء قد يؤذيها .. وقد يسبب لها النكسة .. وما هو شر منها ..

***

وبعد دقات الساعة جالت عيناى فى الصالة ورأيت صورة لسيدة .. معلقة فى اطار ذهبى .. وكانت فوق رأسى مباشرة ..

فلما نهضت رأيتها .. إنها هى دون شك .. فما من أنثى تحمل مثل هذه الفتنة .. وهذه النضارة فى العينين والشفتين .. وهذه البشاشة فى الوجه ..

إنها صورتها هى وحدها .. وقدرت أنها بعد الزواج .. أو قبل الزواج بسنة على الأكثر .. وكانت فى فستان وردى وعلى الصدر مشبك من الزمرد الأخضر .. وفى الأذنين قرط مما تلبسه الإسبانيات .. وهن فى ساعة الذروة من البهجة والإحساس بنشوة القلب ..

يا إله السموات والأرض .. من الذى يشل هذه الحسناء وهى فى أوج نضرتها .. وأوج شبابها .. سوء الإدارة .. حادث فى السوق .. فى الطريق .. سارق سلسلة .. سائق تاكسى يشتغل بلطجيا فى ظل رخصة ..

يا إله السموات والأرض .. أى جمال خلقت وأى إبداع فى الأنثى كونت وأعطيت الحياة ..

رأيت نظرة متأنية فى عينيها تحمل معنى التأنيب .. جعلتنى أخجل من وقفتى فجلست .. عدت كما كنت إلى مقعدى .. وأنا ما زلت فى كامل ملابسى ..

***

كانت الشقة من ثلاث حجرات والصالة التى أجلس فيها .. وكان كل شىء أنيقا ولامعا .. ولم يكن ذلك من سنية ولا لأن البيت ليس فيه أطفال .. وإنما لأن الست كما خمنت كانت تحرص على الهدوء وعلى نظافة بيتها إلى حد كبير ..

ولم أكن وأنا جالس أسمع حركة الشارع .. ولا حركة البيوت .. كان السكون يخيم إلى درجة الموت .. ومن خلال هذا السكون الشامل سمعت صوتها :
ـ أجئت بكل ما طلبته منك يا منير ..؟
ـ بالطبع .. بالطبع .. وهى فى حقيبة يدى ..!
ـ تصورتك ستنسى .. سيمفونيات بيتهوفن .. وبشارف تركية حتى لو ذهبت من أجلها إلى استانبول ..
ـ وكيف أنسى لك طلبا .. وأنت مهجة حياتى .. وأعرف تعلقك بالموسيقى التركية .. منذ الصغر .. ومعى شريط .. لبعيون .. عازف الطنبور ..
ـ بعيون أنه كنز .. أو تعلم .. وسيريح سماعه أعصابى .. أحسن من ألف حقنة ودواء والآن تعال لتنام ..
ـ حاضر .. سأتوضأ .. أولا .. وأصلى .. وأقرأ لك سورة من القرآن ..
ـ سنقرأها معا ..

ونهضت كأنى ذاهب لخلع بدلتى .. وسألتها وأنا أتثاءب ..
ـ المهندس توفيق لايزال ساكنا هنا فى العمارة ..؟
ـ المهندس توفيق فى الشقة التى فوقنا على طول ..! لكنه مسافر فى بعثة .. والشقة فاضية .. وأبوه يأتى من وقت لآخر ..

وشعرت بما يشبه الدوار .. بعد أن أدركت خطأ فعلتى .. فقد أدرت المفتاح فى الشقة التى تحتها مباشرة .. لأن المصعد أخرجنى فى الطابق الرابع بدل الخامس .. لأنى ضغطت على الزر خطأ ..
هكذا دخلت كصاحب بيت فى شقة سيدة مريضة .. فأى عبث للأقدار ..

ان السيدة المريضة تنتظر زوجها .. وقد وصل الزوج فى شخصى .. طبقا لمواصفات الخطاب .. فهل أكشف نفسى الآن ..؟ لا .. ثم .. لا .. قد يكون فى ذلك هلاكها .. ليست المسألة إلى هذا الحد من البساطة فى مواجهة الحدث ..

ان أى تبسيط للأمر سيجر إلى عواقب وخيمة .. وما دمت قد أخذت على أننى الزوج العائد فلأظل فى الدور إلى النهاية ..!

ولكن أى عبث للأقدار .. من الذى كتب الخطاب .. أهو زوجها حقا ..؟ وإذا كان قد فعل ذلك فلماذا لم يحضر كما وعد ..

إن تخلفه كان من أجلى .. ليعطينى الصورة ولينفسح لى المجال لأمثل الدور كاملا ..

***

عدت إلى المقعد ووضعت يدى على رأسى .. كاد رأسى أن ينفلق من فرط احساسى بالموقف الصعب .. ما الذى يفعله الإنسان فى مثل هذه المواقف .. سيترك الأمور تجرى فى أعنتها ..

واسترخيت .. وغلبنى النعاس وأنا جالس وتنبهت على صرخة مفزعة .. صرخة خرجت منها ..

وجريت إلى غرفتها .. وصدمنى وأنا أجرى شبح رآنى وأنا أتقدم نحوه وبيدى المسدس فأشهر فى وجهى سلاحا .. فأطلقت عليه النار طلقة واحدة فسقط خارج بابها ..

***

وخيم السكون من جديد وسمعتها تقول بعد دقائق وثوان حسبتها دهرا :
ـ قتلته .. يا منير ..
ـ نعم ..
ـ حرامى ..؟
ـ نعم .. حرامى ..

وسألتها :
ـ أسرق منك شيئا ..؟
ـ أبدا .. عبث فى الدولاب ..
ـ أدخل .. من المنور ..؟
ـ أو من باب المطبخ .. أو أى مكان ..

وأضافت بهدوء :
ـ أتبقيه هنا ..؟
ـ لا .. سأخرجه .. حتى لايزعجك ..
وسحبته على البلاط .. إلى خارج شقتها .. ووضعته فى المصعد ..

وسمعت صوتها .. تنادينى وأنا أغلق بابها الخارجى ولكنى لم أرد .. لأنى سمعت حركة أقدامها ورائى ..
وأنستنى الفرحة بشفائها .. كل ما حدث لى فى هذه الليلة ..

================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو بعددها الصادر بتاريخ 19 أبريل 1982
================================

ليست هناك تعليقات: