الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

السيرة الذاتية ـ محمود البدوى فى مرحلة التعليم الجزء الثانى ص31 *

مرحلة التعليم

كتاب القريـــــة

بعد وفاة والدة محمود وما حدث فى جنازتها المفجعة والألم الذى أصابه وألم به ودفن داخل قلبه ، ظهر على السطح فى تصرفاته وافعاله ، وحينما بدأت تنقشع الغمه وترتاح نفسه قليلا ، ذهب كأخيه محمد وأعمامه الذين سبقوه إلى كتاب القرية ـ كتاب مسجد الخطباء ـ ليتعلم فيه القراءة والكتابه وليحفظ فيه القرآن الكريم .

التعليم الابتدائى فى مدينة أسيوط
تقدم محمود للالتحاق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، وكانت تجرى فى ذلك الوقت إختبارات تحريرية وشفوية لراغبى الالتحاق بهذه المرحلة من التعليم ، ويمر منها من يجيد القراءة والكتابة ويعرف قواعد الحساب وحلها ، وإجتاز الإمتحان ودخل المدرسة ، وكان يقيم فى المدينه شقيقه الاكبر محمد الذى كان يدرس بمعهد أسيوط الدينى الازهرى ، فأقام معه ، وكان يقوم على خدمتهما ورعاية شئونهما رجل من عند والده ومن أهل القرية ، وأنهى شقيقه دراسته من المعهد وإنتقل إلى القاهرة لاستكمال تعليمة قبل أن يتم محمود دراسته الإبتدائيه .

وجد محمود نفسه وحيداً ، وكانت تجربته الاولى التى يعيش فيها بمعزل عن أحد أفراد أسرته ، ومن هنا نشأت عنده ضرورة الاعتماد على النفس ، وكان والده يجئ للاطمئنان عليه والاطلاع على أحواله فى بعض أيام الأسبوع ..

يخرج محمود من المدرسة يوم الخميس ، يجد الحمار الأبيض الخاص به ، والذى كان يركبه وهو صغير مع أحد الخدم فى إنتظاره ليركبه ويصل به إلى القرية لقضاء ليلته فيها ـ كان يوجد لدى والده خيول ولكنه كان يخشى عليه من ركوبها ـ ويشعر بسعادة طاغيه ، فيركب الحمار ويستوى عليه ويتخذ هيئة الفارس ويحرك رجليه ليحثه على الاسراع ، ويسرع والغبار يتطاير من أرجل الدابه ، ويركب المعدية لعبور النيل وإختصار الطريق ، فالقرية فى العدوة الأخرى من النيل ، كل ذلك ليقضى ليلته فى الحقول ووسط الفلاحين ومع رفقائه فى القرية ، وكانت سعادته الحقه وهناؤه فى أثناء فترة الاجازه الصيفية ..

كان أهل القرية جميعا دون إستثناء رجالاً وأطفالاً يجيدون السباحة والغوص تحت الماء ، ومحمود يتسابق مع رفقائه ولا يشعرون بخوف ولا رعب ولا يرهبون الماء ولا يخافون الغرق ، وقد يخرجون بزورق صغير ويجدفون ويبعدون عن القرية ويتوغلون إلى الجانب الآخر من النيل ، إلى جزيرة القرية الصغيرة ( جزيرة الأكراد ) حيث يوجد جزء من أراضى العائلة ، وهناك يستقبلهم الفلاحون بالبشر والترحاب ويجلسون حولهم خارج العرائش ، ويتندرون ويفيضون بأعذب الاقاصيص والسير ويوقدون النار فى الدريس لعمل الشاى ، ويجذبون سمعه بحكاياتهم الشيقه ، ويمر عليهم فى جلستهم رجال الليل بأثوابهم الداكنه ، مغطين رؤوسهم وأعناقهم بالملاحف وهم مسلحين بأحدث طراز من البنادق وهم الذين اذا دخلوا قرية فى وضح النهار أرعبوها وأفزعوا أهلها والذين كانت الفرائص ترتعد لذكرهم والقلوب تنخلع لوقع أقدامهم ، ويجلسون معهم يشربون الشاى ويقصون عن مغامراتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب والمزارع الغنية لبعض الثراه ويحكون عن حوادثهم مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول والتجارالعائدين من الاسواق ..

وفى بعض الليالى يخرج محمود وحده بزورق صغير يجدف ويسير فى النيل إلى أن يصل إلى سد أسيوط فيمد الحبل ويربطه فى أحد الاشجار على الشط ، ويسير على الجسر حتى تنقضى فترة من الليل ويعود من حيث أتى مرتاح النفس ناعم البال ..

التعليم الثانوى فى القـــاهرة

بعد أن أتم محمود تعليمه الابتدائى ، إصطحبه والده إلى القاهرة ليلحقه بالمدرسة السعيديه الثانوية بالجيزه وليسدد له المصاريف ويشترى له حاجاته وليطمئن على مكان إقامته ـ وكان شقيقه الاكبر الذى شاركه بعض الوقت فى السكن بأسيوط وتركه ليكمل تعليمه بالأزهر عاد إلى القرية لمراعاة الارض والزراعة واكتفى بهذا القدر من التعليم ـ وكان والده كثير التردد على القاهرة لمقابلة اصحاب الشأن وانجاز بعض الطلبات التى تحتاجها القرية وحضور المناسبات التى يحضرها الملك والاعيان وذوى النفوذ ، ويعرف أماكن الإقامة والمبيت فيها من فنادق وبنسيونات ، فاختار لمحمود إحدى الغرف المفروشة بالقرب من المدرسة .
وأحس محمود بالفراغ وبحكم طباعه الريفية المتأصلة نفر من أهل المدن فلم يستطيب صحبتهم ، فكان يرى السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف الطريق ، وكان يفكر فى الحياة التى يعيشها هؤلاء الفلاحون وفى ليل الريف وظلامه وقارنها بحياة الناس فى المدينة ، ويشعر بالضيق الشديد ، ومع مرور الوقت رضخ لحكم الواقع ، ثم أخذ يحاول ان يرفع الحاجز بينه وبين أهل المدينة بالتدريج واستطاب العيش فيها إلا أن حنينه إلى الريف لم ينقطع .

دار الكتب المصرية

عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ، فكان يقرأ ويطالع كيفما أحب وشاء من كتب السيرة ومن الأدب العربى القديم ، فاختار لسكنه إحدى الغرف المفروشة بالحلميه الجديدة ليكون بجوار الدار وكانت هذه الغرف موجودة بكثرة فى قلب العاصمة فى حى عابدين وفى حى قصر النيل على الأخص حيث يكثر الافرنج ، فكانت هذه الأسر تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن اهليهم .. وكان كثير التنقل بينها ويستقر بعد أن يجد الاسر الهادئة الكريمة الخلق والحجرة الطيبه الهواء والمفروشة ببساطه وأناقة ..


تعلم الموســـيقى

كان محمود البدوى يجد لذته الكبرى فى الاستماع إلى الموسيقى .. فاجنر وبيتهوفن وتشايكوفسكى وهاندل ........ ولحبه وعشقه لها أراد أن يتعلمها ، وتعلمها فعلا على يد رجل موسيقى من أصل تركى ، وكان يذهب اليه بعد الفراغ من دروسه المدرسيه وبعد أن تقفل دار الكتب أبوابها ، ويسكن المعلم قريبا من الدار ، ثم جاءت فرصته فى أن يتعلمها بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية ..

المرور على المكتبات

كان يهوى المرور على المكتبات ويتفحص عناوين الكتب دون كلل أو ملل ولوظل نهار اليوم كلة يسير على قدميه ، فكان مغرما بقراءة الكتب القديمة النادرة الطبع واقتنائها ، فهى فى نظره تحمل فى طياتها أسرار القرون وعبير الدهور ، فيشترى منها ما يستطيع دفع ثمنه ..

وفى أحد الأيام وكان يسير فى مدينه أسيوط أثناء عطلة الأجازة الصيفية ، ذهب إلى مكتبه أدبيه يمت له صاحبها بصله قرابه لشراء بعض الكتب الأدبية فوجد عنده داخل المكتبه شخصين معممين جالسين ويقرأ الأول فى كتاب البيان والتبين للجاحظ وبجواره الثانى ينصت ويستمع اليه وعرفه صاحب المكتبه بهما ، والأول هو محمد على غريب المحرر فى جريدة عظمة الشرق بأسيوط والثانى هو أحمد الحجار من تلاميذ الجاحظ ومن أشد الناس إعجابا به، وتوطدت بين الجميع صداقه قويه ( إستمرت حتى نهاية العمر ) ..

كلية الآداب

نجح محمود فى إمتحان البكالوريا والتحق بكلية الأداب بالجامعة المصرية إبان عماده الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة ..

لم يشعر محمود بأى حب للجامعه ، فقد غمره تيار الأدب ، وكان يجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع ليزيد من ثقافته وليوسع مداركه فاستغرقت كل وقته ، وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا ، ويؤلمه عدم وجود الفراغ ليقرأ أو ليطالع من الكتب ما يشاء ويرغب ، فأصبح لا يذهب إلى الجامعة إلا قليلاً ثم إنقطع كلية عنها ..

ولم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القريه فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئاً ، وأن يخطو خطوة عمليه ، فاتجه إلى الوظيفه كغيرة من الشبان وترك الدراسة بالجامعة ..

يقول محمود « التحقت بكلية الآداب ولم اكمل المشوار لأننى إنتقلت إلى كلية الحياة وهى أرحب ولاشك من كلية الآداب ولم آسف على ذلك قط » ..

ويقول صديقه الناقد " علاء الدين وحيد " فى كتابه المعنون باسم " محمود البدوى " دار سنابل للنشر والتوزيع ط 2000 يقول :
" كان قد ترك الجامعة ـ كلية الآداب ـ فى عمليه رومانسية تستشعر ضرورة رفع الاثقال عن الأب فى المصاريف "

ولكن الناقد " رجاء النقاش " يقول فى مجلة الشهر عدد يناير 1959 تحت عنوان القصاص الشاعر :
" عرفت من بعض المتصلين به أنه أصيب بصدمة عاطفيه فى مطلع حياته وهو طالب فى الجامعة ، وقد أدت هذه الصدمة به إلى أن يترك الدراسه بل ترك مصر كلها وسافر لفترة إلى أوربا ، وكان لديه بعض المال فصرفه كله على هذه الرحلة التى أراد بها أن يجرب وينسى .. وربما تكون هذه التجربه هى السبب فى إنطوائه وعزلته "

ليست هناك تعليقات: