الخميس، ٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 8 الأطباء فى الأدب العربى

القصص المنشورة
ــــــــــــــــــــ
ـ المنارة
ـ عضة الكلب
ـ المهاجر
ـ المعجزة
ـ أكسير الحياة
ـ الطبيب
ـــــــــــ
المنـارة
قصة محمود البدوى

كان الدكتور عبد الفتاح من أبرع الأطباء الشبان .. وكان قد قضى ثلاث سنوات فى الخارج يدرس طب المناطق الحارة .. فلما عاد إلى مصر اشتغل سنتين فى مستشفى الدمرداش بالقاهرة ثم انتقل طبيبا لوحدة مجمعة باحدى قرى الصعيد ..

وكان متزوجا من شابة جميلة ومتعلمة مثله .. ولكنها رفضت أن تذهب معه إلى الريف .. فسافر وحده وأقام فى البيت الذى أعدته له الحكومة ..

وكان يعمل باخلاص وعن عقيدة متمكنة ، وقد أفادته رحلته فى الخارج ، فأصبح أكثر تجربة ودراية بأحوال البشر ..

وكان هو المحرك فى الواقع للمجمع كله .. وعليه يتركز العمل .. لأن باقى الموظفين كانوا يتركونه بعد أن ينتهى عملهم ويسرعون إلى بيوتهم فى البندر .. أما هو فكان يبقى ويغرى الموظفين على البقاء .. لأنه كان يعتقد أن الريف المصرى لايمكن أن يتقدم أبدا .. مادام الموظفون يتركونه إلى المدينة ..


وكان يعتقد اعتقادا راسخا .. أن هذا المجمع نفسه .. سيخيم عليه الظلام وينسج عليـه العنكبوت خيوطه إذا ترك أمره للتمورجى والخفير .. وفراش المدرسة ..

وفى الشهر الأول من قدومه .. قابله الفلاحـون بالصدود والتوجس .. وكانوا يتركونه ويذهبون إلى أطباء البندر ..

وظل فى حيرة حتى عرف السبب .. فقد كان الطبيب الذى قبله يمتص دماءهم ويفرض عليهم أن يأتوا إلى عيادته ليتقاضى منهم أتعابه أضعافا مضاعفة .. فكره المرضى من الفلاحين المجمع .. وأصبح بناية بيضاء من غير روح تسيره ..

وظل الدكتور عبد الفتاح .. يقاوم هذا الجفاء بانسانيته وبصيرته حتى أعـاد ثقة الفلاحين إلى بناية الحكومة .. وتدفق عليه الناس كالسيل .. وكان المرضى يأتون إليه من كل القرى المجاورة ..

وكان إذا سمع بمريض عاجز عن الحركة يذهب إليه بنفسه .. ويظل يتردد عليه حتى يشفى ولا يتقاضى منه أجرا على الاطلاق ..

وإذا ذهب إلى البندر يكون كل همه أن يحصل على الأدوية النادرة التى تنفع الفلاحين .. وتعالج أمراضهم المزمنـة .. ويدفـع ثمنها من جيبه ..

وفى خلال فترة قليلة .. تحول الفلاحون إليه بقلوبهم .. وأصبح معبودهم وأدركوا أنه المصباح الحقيقى المنير فى القرية ..

وكان هو يشعر بسعادة غامرة .. وهو يرى الوجوه المنقبضة تتفتح للحياة وتتطلع إلى المستقبل ..

وكان الماضى يمزقهم .. خـداع الموظفين لهم .. واستغلالهم جهلهم .. وحيل الصراف عليهم .. وغشهم فى الشونة وسرقتهم فى الميزان .. عند توريد المحصول .. ومشاكل السماد والبذور .. ومياه الرى .. واضطرارهم .. إلى الاستدانة بالفائدة الباهظة ..

ثم الآفات الزراعية التى تنزل بهم .. كل هذه الأشياء حطمتهم .. وجعلتهم .. يمكرون .. ويسرقون .. ويكذبون .. ويخدعون .. ويقتل بعضهم بعضا ..
وكانوا يتوجسون شرا .. من كل شىء جديد ..

ولما قام المجمع .. بعيدا عن القرية .. تطلعوا إليه فى وجوم .. فلما سرت فيه الروح الإنسانية .. وأصبح منارة فى هذا الظلام .. أقبلوا عليه .. ونسوا الماضى كله ..

وسر الدكتور عبد الفتاح من نجاحه فى الريف .. سر لأنه استطاع أن يلمس قلوب الفلاحين .. وكان يزورهم فى القرية ويقضى الليل فى مجالسهم فى " المندرة " .. يستمع إلى شكاياتهم .. وأحاديثهم عن الزراعة وأحوال السوق ..

وكان الشىء الذى يحزنه .. أن زوجته بقيت فى القاهرة وتركته يجابه الحياة وحده ..

وكان يفكر فى أن يجعل حول البيت حديقة ناضرة .. وفى وسط الحديقة تكعيبة عنب ..

ويجعل من البيت جنة صغيرة تغنيه عن الذهاب إلى أى مكان ..

وكتب لزوجنه يصف أحلامه وما يعده لها ليحبب اليها الريف ويرجوها أن تحضر ولو فى زيارة قصيرة .. وردت عليه بأنها ستحضر فى يوم الخميس .. لتقضى معه أياما قليلة ..

وذهب ينتظرها على المحطة وعاد بها إلى بيته .. ورأت بعينيها البيت صغيرا ونظيفا .. ومضاء بالكهرباء .. وحوله الغيطان .. ولكن كيف تعيش وحيدة .. وسط أشجار النخيل .. ومع من تتحدث ومع من تقضى النهار .. وإلى أين تذهب فى الليل .. ولمن ترتدى الفساتين الشيك .. ولمن تتزين ..

قضت أربعة أيام فى عذاب وكأنها تعيش فى واحة .. وفى اليوم الخامس قررت أن تعود إلى القاهرة ..

وطلب الدكتور سيارة من البندر .. لتقلهما إلى المحطة ..

وفى الوقت الذى وصلت فيه السيارة .. جاءه خفير المجمع .. وأخبره أن فلاحا مريضا بالخارج فى حالة اعياء شديد يطلب الكشف ..

وأسرع إليه الطبيب فوجده بين الحياة والموت .. وكان قلبه فى حالة هبوط شديد فأعطاه حقنة مقوية ..

ولكن الرجل مات فى أثناء الحقنة .. وتألم الطبيب .. وصرخ أهل الميت .. وسرى خبر فى القرية .. أن الدكتور عبد الفتاح قتل الشيخ عبد الجليل بالحقنة التى أعطاها له ..

وتجمـع أهـل الميت .. وزحفوا على بيت الطبيب وفى عيونهم الشر .. وخرجت طلقة من أحد الفلاحين .. زادتهم هياجا .. ونسى الفلاحون كل حسنات الطبيب فى ساعة واحدة .. وتحولوا جميعا إلى وحوش ..

وبقى الطبيب فى الداخل يقابل هياجهم بالهدوء .. والصمت ..

وكان الخبر قد وصل إلى وكيل العمدة فأسرع إلى المكان .. ونهر الفلاحين وضرب الذى أطلق النار .. وقال لهم فى غضب :
ـ هل نسيتم كل ما فعله لكم الرجل .. انكم أنذال حقا .. ولا تستحقون الخير من انسان ..

واستمر يعنفهم ويوضـح لهم حقيقة الأمر .. حتى هدءوا وانصرفوا ..

***

وقالت ناهد لزوجها الطبيب .. بعد أن انصرف الفلاحون ..
ـ كيف تعيش وسط هؤلاء الوحوش ..؟
ـ هذا لامناص منه .. لأعيد إليهم انسانيتهم .. التى سلبت منهم على مدى السنين ..
ـ وهل أنت مسئول عن هذا ..؟
ـ إذا لم أكن مسئولا فمن هو المسئول ..؟
ـ ولكنك ستلاقى العذاب .. والأمر سيطول ..
ـ هذا صحيح .. ولكنى سأصـل إلى بغيتى حتما .. وأنا على يقين ..
ـ ألا تفكر .. فى النقل ..؟
ـ أبدا .. لن أفكر فى هذا .. سأبقى هنا .. لتظل هذه المنارة .. مضاءة ..
ـ إذن سأبقى معك .. لايمكن أن أتركك وحدك بعد اليوم ..

وسر منها وطوقها بذراعيه .. وطبع على فمها قبلة ..

وصرف العربة التى كانت ستقلهما إلى المحطة ..

====================================
نشرت فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " فى مايو 1960ومجموعة " قصص من القرية " ـ مكتبة مصر ط 2006
====================================






عضة الكلب

قصة محمود البدوى


فى شتاء عام 1964 نقل طبيب الأسنان الدكتور " حسن بهجت " من القاهرة إلى وحدة صحية فى الريف ..

وكان الطبيب الشاب على عكس الأطباء الذين هم فى سنه .. والذين ينقلون من المدينة إلى الريف دون رغبة .. ودون تمهيد .. فيشعرون بالمرارة والضيق النفسى والقلق .. كان على عكسهم تماما .. فقد شعر بالبهجة .. والتفتح النفسى والتطلع الواسع .. وكان فى أعماقه يتوق إلى هذه التجربة الحية .. إلى العيش فى قلب الريف .. مادام قد عاش إلى هذه اللحظة مدنيا صرفا .. ليخرج بشىء لايجد مثله فى الكتب .

ولما كان غير متزوج فقد أقام فى السكن المخصص له بالوحدة .. وكانت القرية التى تقع فيها الوحدة من القرى الكبيرة والمواصلات إليها سهلة .. فهى قريبة من محطة السكك الحديدية .. ومن الطريق العام لسيارات الأجرة .. وأهلها وادعون مسالمون يشتغلون بالزراعة وتجارة المواشى .. وفيها سوق كبير يتجمع فيه أهل القرى المجاورة فى يوم الإثنين من كل أسبوع .. ويتبادلون السلع بكل الوانها وأشكالها ..

***

ولاحظ الطبيب الشاب شيئا فى المرضى الذين يترددون على الوحدة .. شيئا لم يلتفت إليه أولا .. ثم شد انتباهه بعد أن برز بوضوح كطلعة الشمس ..

لاحظ ندبة فى الصدغ الأيمن من كل رجل يدخل الوحدة .. ورأى أن الندبة برزت وأصبحت كالدمل المقروح فى وجوه الرجال فقط .. ولم يرها فى وجوه النساء والأطفال ..

وأدركه العجب وخرج يمشى على جسر القرية وبين دروبها ليتأكد مما شاهد فوجد الندبة ظاهرة فى وجوه الرجال .. وبارزة بوضوح .. واضطر بعد هذا التعميم أن يسأل أحد مرضاه عن سببها فعرف أنها عضة كلب .

ودخل شيخ البلد العيادة فرآه الطبيب وفى صدغه العضة .. فسأله فى استغراب :
ـ حتى أنت ياشيخ على ..؟
ـ حتى أنا يادكتور .. لم يترك الكلب رجلا فى القرية إلا عضه .
ـ الرجال فقط ..؟
ـ أجل .. وبفراسة شديدة .. اختار الرجال لفعلته وترك النساء والأطفال .. لم يقترب من أحد من هؤلاء .

ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ منذ أكثر من سنتين .. وبنظام وترتيب .. بدأ بالذين فى البيوت والدروب ثم خرج إلى الغيطان .. وكان يثب كالليث .. ويتخطى الحواجز .. ولم يعض إنسانا مرتين أبدا .. فعلها مرة واحدة .

ـ وقتلتموه ..؟
ـ أبدا .. لقد كان فى ضراوة الأسد وشدة بأسه .. فمن الذى يجرؤ على الاقتراب منه .. إنه هو الذى كان يستطيع قتلنا .. ولكنه اكتفى منا بترك هذه العلامة .

ـ وهل لايزال فى القرية ..؟
ـ أبدا .. خرج فى ليل ولم نعد نراه ..

وشغلت هذه الظاهرة العجيبة بال الطبيب .. واستغرقت كل تفكيره .. وكلما مشى على الجسر وشاهد الفلاحين العائدين بدوابهم من الغيطان .. والسائرين فى الدروب وعلى وجوههم نفس الندبة فى الصدغ الأيمن يتعجب ويتساءل .. قد يكون كلبا مسعورا ككل الكلاب المسعورة .. انتابته حالة سعار من مرضه .. ولكن لماذا التعميم والتخصص ..؟ أهو شيطان فى جسم كلب ..؟

وأخذ الطبيب يسأل الموظفين فى الوحدة وزملاءه الذين جاءوا إلى القرية فى زمن قبله .

فعلم أنهم هبطوا القرية ووجدوا أهلها على هذه الصورة .. ولم يشغلهم الأمر أو يستلفت نظرهم لأنهم ظنوها خلقة طبيعية .. ومنهم من سمع أنها عضة كلب .. ومرت الأيام وألف من فى الوحدة هذه الوجوه على حالها .

***

ولكن الدكتور بهجت .. ظل فى حيرة من أمر هذه الظاهرة .. وتعجب كيف تكون عند الكلب هذه القدرة على ترك هذه العلامة فى رجال القرية جميعا أمام سطوته ..؟ وهم يعرفون أنه يطاردهم فى كل مكان .. قد تكون عضة واحدة فى صدغ رجل واحد وانتقلت بالتصور إلى جميع الوجوه .

***

وأخيرا قرر الطبيب أن يصلى الجمعة فى مسجد القرية الذى يجمع صورا مختلفة من أهلها .. الشيوخ والشبان .. ليتأكد من هذه العلامة الغريبة .. ولما دخل المسجد رأى الندبة برسمها وحجمها على وجوه المصلين جميعا .

وخرج المصلون من الجامع .. واختار الطبيب أكبر المصلين سنا .. وكان شيخا وقورا ..

مال به الطبيب إلى جلسة تحت المحراب وسأله وهو يشير إلى صدغه :
ـ وهل هذه الندبة عضة كلب أيضا .. ياشيخنا الكبير ..؟
ـ أجل .. يادكتور ..
ـ إنه شيطان إذن مادام يعض الصالحين المتوضئين من أمثالك ..
ـ إنه ليس بشيطان .. إنه نذير ..
ـ وهل إذا رأيت الكلب تعرفه ..؟
ـ بالطبع أعرفه .. وكل القرية تعرفه .. لقد كان من كلاب القرية .. وأخذه " عبد الجابر السحلاوى " وأصبح من زمرة كلابه .. إلى أن حدث ما حدث واختفى الكلب بعدها ..

ـ وما السبب الذى أهاج الكلب .. لقد سألت الكثيرين فلم أعرف السبب الحقيقى .. الأقوال متضاربه ..

ـ الناس يشعرون بالخجل يادكتور .. من تصرفاتهم .. عقدة الذنب .. استقرت فى أعماقهم .. فمنعتهم من الكلام .. لأن فى التصريح بالكلام ورواية الحقيقة عارا .. وعارا أبديا .. على أهل الريف .. أهل الريف الذين عاشوا طول عمرهم يتعاونون فى السراء والضراء .. ويغيثون الجار ويدافعون عن المظلوم .. ولكنهم تغيروا الآن يادكتور .. وانقلب حالهم .. وتسلطت عليهم الأنانية فى بشاعة .. حتى لاتجد فيهم من مروءة الرجال من يذوذ عن امرأة مسكينة .. لقد اقتص الكلب من أنانيتهم وانشغال كل منهم بحاله .. غافلا عن حالة أخيه .. مادام لايصيبه من أمرها مكروه .. فكر فى السلامة لنفسه .. ولم يفكر فى سلامة الآخرين الذين يعيشون بجواره وفى حضن قريته وزمامها ..

لقد كان " عبد الحافظ " مدرسا فى المدرسة الاعدادية بالقرية .. وغريبا عن أهل القرية .. جاء ليهديهم ويعلم أبناءهم .. ولكنهم خذلوه فى خسة وضعف .. أشفق المسكين على حالهم عندما رأى " السحلاوى " يستولى على ريع السوق ويتاجر فى سماد الجمعية المخصص لهم .. ويسرق قوتهم وقوت عيالهم .. ويسيطر على كل شىء بنفعية وتسلط .. فحرك الفلاحين ليقفوا فى وجهه .. ويطالبوا بحقهم .. ولكنهم تخاذلوا فى ضعف مشين ..

وطلب منهم أن يشتكوه لمن يرد لهم حقهم المسلوب .. ولكنهم كانوا يعرفون بالخبرة أن الشكوى لاتنفع وسترتد إلى صدورهم .. فسكتوا ..

ولم يرض " عبد الحافظ " بهذا وكتب هو الشكاوى بلسانهم .. ولكن الشكاوى كانت تموت لسطوة " السحلاوى " وكثرة معارفه من ذوى النفوذ ..

وعلم .. " السحلاوى " .. أن كاتب هذه الشكاوى هو " عبد الحافظ " .. وفكر فى الانتقام منه سريعا ..

وكان " عبد الحافظ " لأنه أعزب .. وليس من أهل القرية قد اختار مضيفة الحاج " حسانين " القريبة من المدرسة كمنزل إقامة ..

وكانت المضيفة قريبة من حوش البهائم الخاصة " بالسحلاوى " ومن منزله .. وعند " السحلاوى " كلاب شرسة مدربة على الحراسة ونهش من يقترب من البهائم .. وكل من سار فى الليل واقترب من حوش " السحلاوى " ومنزله يخافها لشراستها .. وكان " السحلاوى " لايريد اغتيـال المدرس الغريب مواجهة وإنما فكر فى تعذيبه وإذلاله .

وفى ليلة من ليالى الصيف أطلق عليه وهو نائم كلبا من كلابه الشرسة .. وشاءت إرادة الله أن يعرف الكلب " عبد الحافظ " ويحفظ له صنيعه عنده .. فقد أطعمه " عبد الحافظ " ذات ليلة من ليالى الشتاء الشديدة البرودة .. وأواه فى المضيفة .. وكان الكلب وقتها طريدا شريدا .

وعرفه الكلب .. فنام بجواره يحرسه بدلا من أن ينهش لحمه .. وجن جنون السحلاوى عندما رأى " عبد الحافظ " لم يمس بسوء .. وما كان يفعله مستخفيا .. أخذ يفعله علانية وهو فى حالة هياج .. فأخذ يضرب الكلب .. ويطلقه على المدرس .. ولكن الكلب لم يستجب له اطلاقا .. فرأى أن يضع مع الكلب كلبا آخر ليحرضه على افتراس المدرس المسكين الذى أخذ يستغيث بأهل القرية فلم يغثه أحد .. كانوا مشغولين بحالهم .. ويخافون من بطش " السحلاوى " فتخاذلوا عن غوث الغريب .

وأخذ " السحلاوى " بعين الوحش يرقب ما يجرى أمامه ولكن .. خاب فأله .. فقد افترس الكلب الأول الكلب الثانى وألقاه جثة هامدة .

ولمح " السحلاوى " عين الشر فى عين الكلب الأول فلم يقترب منه وإنما قرر أن يقتله بمسدسه .

وفى اللحظة التى فكر فيها أن يفعل هذا كان الكلب الأول قد وثب عليه وألقاه على الأرض .. بعد أن عضه فى صدغه تلك العضة .. ووضع فى وجهه تلك العلامة المميزة ..

وارتعب " السحلاوى " وغشى عليه .. ولما أفاق كان الكلب قد خرج من القرية ..

ولكنه عاد إليها وأخذ يعض الرجال من أهلها بالصورة التى رأيتها فى وجوههم .

وبعد هذه الحادثة لفق " السحلاوى " تهمة للمدرس المسكين ونقله من القرية ..

وسافر " السحلاوى " ليعالج نفسه من عضة الكلب وطال غيابه ..

وصمت الشيخ قليلا ليرى أثر حديثه فى وجه الطبيب الشاب ثم قال :
ـ هذه هى قصة " العضة " التى تراها فى وجوهنا يادكتور " بهجت " وأرجو أن تساعدنا أنت وزميلك الجراح على إزالتها ..!
ـ مع الأسف ياحاج .. لاأستطيع ذلك .. لاأنا .. ولا زميلى الجراح ..
ـ كيف .. يادكتور .. كيف ..؟
ـ لأنها من عملكم وخصائص نفوسكم .. ومتى تغيرتم ستزول ..
ـ بغير جراحة ..؟!
ـ بغير جراحة ..

وشكر الدكتور " بهجت " الشيخ الكبير على حديثه .. وأخذ طريقه إلى الوحدة ، وهو يفكر فى طريقة عملية ليخرج الخوف من نفوس هؤلاء المساكين الذين أصابهم الكلب بهذه الوصمة .. وتمنى أن يرى " السحلاوى " والكلب والمدرس وبعد هؤلاء الثلاثة سيعالج الخوف بطريقته .

***

ومع دوامة الحياة تصور " عبد الحافظ " أنه نسى ما حدث له .. ولكن تصوره كان خاطئا .. فقد كان الجرح عميقا وضاربا فى أعماق النفس .

وذهب يسأل عن " السحلاوى " فعلم أنه مات .. ومات مع قوته الانتقام .. ونسى عبد الحافظ ما حل ولكنه فوجىء بعد ذلك بمن يخبره أن " السحلاوى " حى وفى بلده .. فأشعلت فى نفسه جذوة الانتقام التى حسبها تحولت إلى رماد .. وقرر أن يغتاله فى نفس المكان الذى عذبه وأذله فيه .. نفس المضيفة .

وركب القطار إلى القرية بعد أن تسلح .. ووصل إلى بساتينها ساعة العصر .. ورأى أن يظل فى البستان إلى الساعة التى يختارها فى الليل للتحرك .

وبعد وصوله بأقل من ساعة شاهد جنازة طويلة تتجه إلى المقابر القريبة من البساتين .. فسأل عنها .. وعلم أنها جنازة " السحلاوى ".

وتعجب وقال لنفسه :
ـ مات " السحلاوى " فى اليوم الذى قصدته فيه .. ما أعجب الدنيا بتصاريفها ..

وتعجب أكثر من طول الجنازة وعرضها .. فقد خرج وراءه رجال القرية جميعا .

وردد لنفسه :
ـ إنهم يخافونه ميتا .. أكثر مما يخافونه حيا ..

***

ودخل " عبد الحافظ " فى خط الجنازة مع الرجال .. وتلفتوا بأصداغهم التى عضها الكلب .. وتهامسوا ..

ـ جاء المدرس .. يشترك فى الجنازة .. ونسى ما فعله فيه ..

ـ إنه نبيل ..

وفجأة اضطربت الصفوف المتراصة الواجمة .. ورفعت رؤوسها المنكسة .. وصاح الرجال :

ـ الكلب .. الكلب ..

وأصابهم الذعر .. ووضعوا النعش على الأرض .. وانطلقوا يمينا وشمالا فى الغيطان يسابقون الريح ..

ونظر " عبد الحافظ " فوجد الكلب واقفا على القنطرة التى سيعبر منها الرجال إلى المدافن .. إنه نفس الكلب ولكنه تضخم أكثر وغدا أشبه بالأسد فى ضراوته ..

تقدم " عبد الحافظ " نحوه بثبات وناداه :
ـ تعال .. يامبروك .. تعال إلى صاحبك ..

واتجه الكلب إليه بعد أن عرفه .. وهو يحرك ذنبه فرحا بلقاء صاحب قديم ..

ووضع " عبد الحافظ " يده على رأس الكلب ومسح على ظهره بنعومة .. وطوقه بذراعيه .. ثم أشار إليه بأن يبتعد ..

فانسحب الكلب وهو يشيع صاحبه بنظرة لم تصدر مثلها من إنسان ..

وانحنى " عبد الحافظ " على النعش ليحمله .. وشجعت هذه الحركة الرجال .. فعادوا إلى الجنازة من جديد ..

عادوا وهم يشعرون أن حركة الكلب قد فعلت شيئا فيهم لم يدركوه بعد .. وهم يتحركون فى صمت .. والمدرس الغريب بينهم وفى رأس الصفوف ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 20/4/1981 وأعيد نشرها فى مجموعة السكاكين لمحمود البدوى 1983
=================================





المهاجر
قصة محمود البدوى

الدكتور " صبحى " طبيب أسنان كهل يعيش وحيدا فى المنزل رقم 105 فى شارع سيدى جابر بمصر الجديدة .. عيشة رضية خالية من أمراض الشيخوخة ومتاعبها ..

واتخذ الطابق الأول من المنزل للعيادة والسكن معا .. أما الطابق الثانى فكان يسكنه شاب فى الثلاثين من عمره ويشتغل موظفا فى احدى الوزارات ..

والطبيب والموظف من العزاب وقد جمعتهما العزوبة فى بيت واحد فى شارع هادىء .. قليل الحركة خفيف الضوء ..

واتخذ الطبيب لنفسه نهجا منذ جاوز سن السبعين .. فقد خفف من عمله كطبيب وأصبح لا يستقبل إلا القليل النادر من مرضاه وكانوا يأتون إليه فى فترات متباعدة فى الصباح والمساء ..

ومنذ سنوات طويلة وهو يفكر فى السفر إلى الخارج كمهاجر ويعيش فى " لندن " فقد تعب من كد الحياة وأراد أن بذهب إلى هناك ويستريح من كل عمل ..

وعندما فرضت الحراسة على بعض الأفراد ضاعت الثقة بينه وبين البنوك فسحب أمواله من البنك الذى يتعامل معه وأودعها فى بيته واختار لها مكانا تصور فيه الأمان المطلق وهو أن يحشرها بعد وضعها فى ظرف كبير .. بين مراجعه العلمية فى مكتبته ولا أحد يفكر فى سرقة الكتب ..!

وأخذه الوسواس فكان يطمئن على هذا الظرف وما فيه من نقود فى الصباح والمساء وقد ربط كل الف جنيه فى ضمة واحدة ليسهل عليه العد والمراجعة ..

وكان قرار السفر قد جعله يستعجل كل الأمور .. كما كان من عادته أن يزور " لندن " كل عام وبقضى فيها شهرين على الأقل .. لأنه قضى فيها سنين الدراسة وهو طالب وله فيها من المعارف المصريين ما يؤنس وحدته ..

ولكنه أجل السفر فى هذا العام بعد أن قرر الهجرة إليها نهائيا واختار فى ذهنه الحى الذى سينزل فيه .. والبيت الذى سيأويه ..

واضطر وهو الطبيب المثقف الذى يؤدى عمله بكل أمانة أن يلجأ إلى وسيط ليستطيع أن يهرب كل المبلغ الذى معه بعد أن صفى جميع أعماله ..

وفى أثناء الدوامة التى انشغل فيها الطبيب مع كبر سنه لاستخراج اجراءات السفر وتصفية أموره .. جاءته قريبة له من " المنصورة " لتزوره لما علمت باعتزامه الهجرة ..

وأثناء صعودها سلالم البيت وجدت شابا يخرج من عيادة الطبيب فلم تكلمه لأنها حسبته من المرضى كما حسبها هو ..

ولما دخلت هى العيادة وجدت الدكتور " صبحى " فى مكتبه جالسا على كرسيه ولكنه مخنوق وحسبته أولا مغمى عليه .. ولما تبينت موته صرخت .. وجاء الناس على صراخها من الشارع على قلتهم .. وحدثت الناس والبوليس بالشاب الذى رأته يخرج مسرعا من العيادة وهى داخله ..

كما روت للبوليس أن الدكتور صبحى كان يحتفظ فى بيته بكل أمواله بعد سحبها من البنك .. ووجدت المكتبة والأوراق والكتب مبعثرة .. والنقود مسروقة ..

ولما كان القتل قد حدث للسرقة وليس لشىء آخر .. فقد أخذ البوليس يراجع أسماء المترددين على العيادة فى الأيام الأخيرة وكان الطبيب يقيد الأسماء والعناوين بدقة وعناية ولم يتعد عدد هؤلاء ثمانية أشخاص .. وبعد سؤالهم بعدت عنهم الشبهة ..

وحددت الشبهة فى الشاب الذى رأته السيدة " مديحة " قريبة الدكتور وهى طالعة السلم ..

وكان هذا الشاب هو آخر من تحرك وشوهد وأعطت أوصافه .. وتبين أنه الساكن الوحيد فى المنزل ويقيم فى الطابق الذى فوق الطبيب .. ولا طوابق بعده ..

ولما عرض عليها مع صف من الشباب فى مثل سنه .. أخرجته من بين الصفوف ثلاث مرات ..

وطالت الاجراءات وظل الشاب فى الحبس .. مع أن بصماته غير البصمات التى وجدت فى المكتبة التى سرق منها المبلغ .. كما أن تفتيش بيته لم يسفر عن شىء له علاقة بالحادث .. والتحريات عنه دلت على أنه مثال الاستقامة والأمانة فى عمله وسلوكه الخارجى ..

ولكن شهادة السيدة " مديحة " كانت قوية ضده .. فهو آخر من شاهدته خارجا من باب العيادة وهى طالعة السلم كما كان مسرعا ومضطربا ..

***

وكانت هناك شغالة تنظف عيادة الطبيب وبيته كل صباح وهى فى الوقت نفسه ممرضة فى مستشفى الدمرداش .. وتأتى مبكرة جدا لتستطيع أن تزاول عملها فى المستشفى بعد ذلك فى المواعيد المحددة لها واستجوبها البوليس وفتش بيتها ثم أخلى سبيلها بعد أخذ بصماتها ..

واعتاد الطبيب أن يتناول طعامه من مطعم قريب وكان عامل المطعم يأتى له بطعام الغداء .. فى الواحدة والنصف بعد الظهر .. وطعام العشاء بعد الساعة الثامنة مساء ..

ولكن الطبيب بعد أقل من ثلاثة أشهر استغنى عن هذا المطعم لأنه وجده يغش فى أصناف اللحوم وبعض الأصناف الأخرى دون رقيب وأخذ الدكتور يخرج بنفسه فى ساعة الغداء والعشاء ويختار ما يروقه من المطاعم ..

ولكنه فى اليوم الذى مات فيه أحس بتعب شديد ولم يستطع النزول ليأكل فى الخارج فاضطر أن يطلب طعام العشاء بالتليفون من المطعم الذى كان يتعامل معه من قبل ..

وجاء عامل المطعم يحمل الصينية وصعد السلالم فى الليل ووجد باب العيادة مفتوحا فدخل وألفى الطبيب جالسا على كرسيه فى حالة استرخاء فحسبه نائما ووجد درج المكتبه الذى على يمينه مفتوحا وتطل منه أوراق وكان العامل يرى الطبيب من قبل يفتح هذا الدرج ويقفله كثيرا فاقترب منه وأزاح مجلدا طبيا باللغة الإنجليزية غطى سطح الدرج .. وبرز الظرف .. وبحلق مذهولا فقد تكشفت له الأوراق المالية فى صفوف ..

جحظت عيناه وكف وجيب قلبه وتحول إلى الدكتور فألفاه لايزال مستغرقا فى نومه .. حدق فى وجهه طويلا .. ثم سحب سريعا الفوطة التى كانت على صينية الطعام ولف بها عنق الطبيب وضغط وأخرج حزم الجنيهات من الدرج بظرفها ووضعها فى صندوق أدوية ودلق الطعام الذى جاء به للطبيب فى صندوق الزبالة حتى لا يثير الشبهات .. ووضع صندوق النقود على صينية الطعام وغطاها بالمفرش .. ونزل سريعا .. وكان فى حالة فزع أولا .. ثم وقف على السلم قليلا ليستكن ويسترد أنفاسه ..

ووجد بائع كشك فى مواجهة البيت ينظر إليه .. ثم يسأله لما وجد الصينية كما هى مغطاة بالمفرش .. لأنه لم يكن من عادته أن يغطيها بعد الأكل .. وكان يطوى المفرش ..
سأله بائع الكشك :
ـ الم تجد الدكتور .. يا شعبان ..؟
ـ لا .. وجدته ..
ـ وأكل ..؟
ـ نعم .. أكل سريعا .. الظاهر .. عنده مشوار ..

واضطر أن يجارى بائع الكشك فى حديثه .. وأن يشترى منه زجاجة عصير .. ويشربها وهو واقف وعلى رأسه الصينية وسأل نفسه متعجبا لماذا يسألنى هذا الوغد هذه الأسئلة الآن ..؟ وما وجه إلىَّ من قبل سؤالا قط ..

ولما دخل بالصينية المطعم .. لم يجد صاحب المطعم .. ووجد الفتاة العاملة على الخزانة فأعطاها المبلغ الذى اعتاد الطبيب أن يدفعه لعشائه وقال لها أنه يشعر بالتعب وذاهب إلى البيت لينام .. وسيعود مبكرا فى الصباح ..

وسار فى شوارع مصر الجديدة فى الليل وهو يفكر فى المكان الذى سيخبىء فيه الصندوق .. فلو أخذه إلى البيت فسيراه زوج أمه ويضربه ويستولى عليه .. وإذا حمله إلى بيت رفيق له لم يأمن شره ..

وكان قد بصر بكوم عال من التراب عند مساكن الألف مسكن والمكان قريب أيضا من سكنه فاستقر رأيه على أن يدفن الصندوق فيه ..

وذهب إلى المكان وكانت الاضاءة معدومة فيه والظلام يخيم .. ووضع الصندوق جانبا وعاينه ولكنه رآه قريبا من مساكن الرحل الذين يجمعون الأوراق والحشائش على الحمير فى أحياء مصر الجديدة ويفتشون فى الأرض وينبشونها فخاف من شرهم وعدل عن هذه الفكرة ..

وشل تفكيره تماما وهو يحمل الصندوق بعيدا عن المكان الذى اختاره وعن بيته .. ان هذا الوحش الذى فى البيت والذى يضرب أمه فى الصباح والمساء لأنها دنست فراش أبيه وتزوجته ويضربه هو ويستلب منه أجره اليومى من المطعم ليس من الصواب أن يقترب منه ويراه مرة أخرى وسيفر منه الآن إلى الأبد ..

وأخيرا هداه تفكيره أن يذهب بالصندوق إلى خاله فى " طنطا " ..

***

ونزل من الأتوبيس ودخل محطة مصر وبيده الصندوق وكان الليل قد انتصف والأنوار متألقة فى الداخل والخارج وسأل عن قطار مسافر إلى " طنطا " فقيل له أنه لايوجد إلا قطار الصحافة وهو يتحرك فى الساعة الثالثة صباحا فجلس على قهوة هناك عند مكان قطع التذاكر ..

وكانت القهوة مزدحمة بالمسافرين إلى بحرى وقد وضعوا لفائفهم وسررهم وأقفاصهم بجانبهم ومنهم من نام فى مكانه وكان هناك بعض النسوة المسافرات بأطفالهن على صدورهن وبين أرجلهن وقد تجمعن فى ركن واحد على البلاط .. ومنهن من مدت رجلها وظهر خلخالها الفضى .. ومنهن من جلست متربعة ومنديلها يغطى شعرها .. بعد أن حسرت عنها الطرحة من شدة حر شهر يوليو الخانق ..

وكان الهواء راكدا فى القهوة مع أنها غربية وبناية المحطة لا تحجب عنها الهواء ..

وكان عامل القهوة يحمل كوب الشاى الأسود لكل الناس من يطلب ومن لايطلب .. بمجرد جلوسه على كرسى القهوة يأتى له بالكوب .. باردا .. أو ساخنا هذا لايهم .. ومر باعة السجائر بكثرة من بين الكراسى .. وباعة الطعام الجوالة فاشترى شعبان منهم وتعشى وقد شعر بنهم شديد فأكل رغيفين وطعمية وبيضة ومع هذا ظل شاعرا بالجوع ..

وشاهد وهو جالس رجلا يشترى " سبتا " من امرأة تبيع " السبات " خارج بوابة المحطة .. ففكر أن يضع فيه الصندوق ويكون أوفق وأضبط فى حمله واشترى " سبتا " من المرأة بأقل مساومة فقد كان يبحث عن الشىء الذى يريحه فى السفر .. وباعت المرأة ثلاثة أسبته أخرى لبعض الجالسين فى القهوة ..

ووجد " شعبان " نفسه بعد أن اشترى " السبت " ليس معه نقود يقطع بها تذكرة السفر .. ففكر أن يخرج ورقة بعشرة جنيهات من الصندوق .. أول ورقة فى ربطة على السطح .. ولكن كيف يخرجها أمام الناس ..

فمنذ دخل القهوة وهو يشعر وسط هؤلاء المسافرين بالأمان المطلق وبعدت عن رأسه كل الهواجس التى كانت تطن فى رأسه وتطارده فى المترو والأتوبيس والشارع إنه هنا وسط هؤلاء الناس من طبقته من ركاب الدرجة الثالثة فى كل قطار .. إنه هنا فى أمان مطلق ومسافر فى غير رجعة إلى مكان لاتقع عليه عين البوليس ولا عين الشيطان نفسه إذا فكر الشيطان أن يطارده ..

***

حمل " السبت " بعد أن وضع فيه الصندوق وخرج من القهوة ولف إلى الشمال ودخل من البوابة الكبيرة التى تدخل منها العربات وجلس تحت الباب المزخرف المعد لكبار المسافرين .. وبعيدا عن أعين الناس وضع يده فى داخل الصندوق وأخرج بحذر وخفة ورقة بعشرة جنيهات .. طواها بسرعة فى جيبه .. وعاد كما كان إلى القهوة ..

وبعد كل نصف ساعة كان يطلب الشاى ليظل متيقظا فى مكانه هذا فلو نعس فسيفقد كل شىء ..

ومرت لحظات رهيبة على عقله الممسوخ .. كانت فرحته بهذا المبلغ الكبير الذى يحمله .. والذى أصبح ملكا له قد أبعدت ذهنه المريض عن كل تفكير مما فعله فى الطبيب المسكين عندما طوى على عنقه الفوطة فى لحظة خبل .. الطبيب الذى كان يجزل له العطاء بعد كل وجبة ويعطيه بالعشرة قروش والعشرين قرشا وأكثر من هذا البقشيش ويعالج ألم أسنانه وأسنان من يعرفه دون أجر على الاطلاق ..

ما فعله الطبيب من خير وحسنات لم يخطر على باله .. ولم يفكر فيه بعقله الملوث قط .. مادام قد هرب وأفلت من التجريم فإن ذهنه لا يندم على شىء شرير فعله أبدا ..

إن الندم لايدور فى ذهن هؤلاء الناس أبدا .. والخوف من العقاب يأتى من الخوف من البوليس والوقوع فى قبضة القانون .. وغير ذلك لا شىء .. ولهذا يعودون إلى الجريمة ويكررونها بعد استعذاب وقعها فى نفوسهم ..

***

وجد الجمهور يقف على الشباك ليقطع التذاكر .. فوقف معهم .. ولما جاء دوره أخرج الورقة ذات العشرة جنيهات .. فبحلقت فى يده العيون ..

ورأى الورقة شخص كان لايزال جالسا على القهوة فظل فى مكانه يرقب بعين الصقر فريسته قبل أن تفلت منه ..

***

ودخلت الجموع المحطة لتركب القطار .. وكان الزحام على أشده .. فهناك أناس يركبونه ليدخلوا المدن فى الصباح الباكر مع الشمس .. وينجزوا عملهم ويعودوا إلى بيوتهم فى نفس اليوم .. دون حاجة إلى الفنادق والمصاريف الأخرى .. وهناك الذاهبون إلى البحر .. وهناك .. وهناك غيرهم ..

وعندما صعد " شعبان " إلى العربة كان كل من حوله من الصاعدين يحمل " سبتا " مثله ..! وبشق الأنفس كان قد استوى فى بطن العربة ولكن " السبت " أفلت من يده .. ثم عاد وأمسك به فى قوة ..
وعندما جلس أمسك به أيضا وشد من قبضته عليه ..

ووجد بعض الركاب والجنود يجلسون فوق الرفوف العلوية المعدة للحقائب والأمتعة .. وعلى الحواجز وقفوا .. ومن الشباك دخلوا .. وفى لمحة عين تحولت العربة إلى مركب ..

وتحرك القطار وأخذ الباعة الجائلون يجلجلون بالجرادل المملوءة بالزجاجات .. والمقاطف المحشوة بالطعام ويتحركون كالمردة فى بطن العربات ..

كان القطار يخرج من جو القاهرة الخانق فى ليل يوليو وهو يزفر .. كأنه يزمجر صارخا على مافعله وصنعه فيه الإنسان .. عندما أفسد عرباته ومقاعده ومقابضه ومصابيحه وأفسد طبعه أيضا ..

وكان هناك انسان واحد نزل من القطار وهو يتحرك قبل أن يخرج من دائرة الرصيف ..

وكان يسير وحده على ضوء المصابيح القوية خارجا من المحطة وبيده سبت ..
وكان السبت خفيفا ولكنه كان يعرف محتوياته ..

ومن الجذب والشد فى زحمة القطار برزت من الصندوق .. ورقة فى المجلد الطبى الإنجليزى .. كانت على السطح ..

وكان البهلوان يرقب عقرب الساعة فى محطة كوبرى الليمون وفى ذهنه خاطر جديد ..

كان فى أشد حالات الغبطة لأنه لم يبذل إلا أقل جهد فى هذه المرة ومع ذلك ظفر بأكبر غنيمة حصل عليها فى حياته .. وتحرك عقرب الساعة كما تحرك هو ..

***

وفى الأسبوع الذى أفرج فيه عن الشاب الذى أتهم فى هذه الجريمة وهو برىء طرقت " مديحة " هانم بابه .. وفتح لها واستقبلها بوجوم ..!
وقالت له فى خجل :
ـ أتسمح بدقيقة من وقتك ..؟
ـ نعم ..
ـ جئت أعتذر .. فلم أكن أعرف أنك تسكن هنا فوق المرحوم .. وكان الحادث مفاجئا لى وبشعا وأرجو أن تعذر ظروفى ..
ـ أنا يا سيدتى أعرف عذرك .. ولا داعى لتعبك والمسألة انتهت ..
ـ أبدا .. لقد سببت لك الكثير من المتاعب ةدوالآلام النفسية .. ولا أدرى كيف أمحو أثر هذا من نفسك وأرجو أن تسمح لى الآن بأن أدخل دقيقة ..
ـ أنا يا سيدتى أعيش وحدى ..
ـ وما دخل هذا فى مجرد الكلام ..؟
ـ دخولك فى شقة عازب سيعرضك للأقاويل والمسألة انتهت كما قلت ..
ـ أظن أنه ليس من الذوق أن ترفض استضافة سيدة أكبر منك سنا ..!!

ودخلت .. وكانت فى رداء أسود محكم التفصيل أبرز تقاطيع جسمها وأكسب وجهها الأبيض نضارة فوق نضارته .. وأخذت الشقة بنظرة سريعة وقالت برقة :
ـ ولكن شقتك جميلة ومرتبة ولابد أن يد أنثى هى التى تعمل كل هذا ..
ـ أبدا إنى أنظفها وأرتبها بنفسى ..

ودخل المطبخ وعاد بكوب من عصير الليمون فتناولته منه شاكرة .. وقالت :
ـ أكنت تعرف المرحوم ..؟
ـ كان من أعز أصدقائى .. وقد حزنت على مقتله كما لم يحزن إنسان .. ولو رأيت هذا المجرم لقتلته والنفس بالنفس ..
ـ إن الدكتور لم يقتل ..
ـ كيف .. هذا أغرب خبر أسمعه ..؟
ـ الدكتور كان ميتا .. عندما دخل عليه عامل المطعم بالصينية .. وقد حسبه نائما .. وأغراه المال الذى رآه .. أغراه بالقتل والسرقة .. وحسب حساب الوقت قبل أن يصحو الدكتور .. ولهذا أسرع ووضع فى عنقه الفوطة ليجهز عليه .. ولكنه فى الواقع .. كان ميتا منذ عشرين دقيقة ..
ـ ومن أين عرفت كل هذا ..؟
ـ من تقرير الطبيب الشرعى ..

وسألته وقد نكست رأسها :
ـ هل رأيت " شعبان " هذا ..؟
ـ طبعا رأيته .. وكان يحمل الطعام للدكتور .. ثم انقطع مدة طويلة لأن المرحوم غير المطعم .. واستبدله .. وأخذ يخرج بنفسه إلى مطاعم مصر الجديدة القريبة والبعيدة .. وشعبان هذا تافه وممزق وخائر النفس ولا يفكر أذكى الأذكياء بأنه يستطيع ارتكاب مثل هذه الجريمة ..
ـ ان الجرائم تأتى دائما من هؤلاء المرضى عقليا ونفسيا .. هؤلاء الذين تمزقوا فى داخل البيت وخارجه ..

وتطلعت إلى وجهه وقالت :
ـ أتعرف أن المبلغ سرق منه فى المحطة وهو يركب القطار ..
ـ نعم أعرف .. وقد اعترف " شعبان " بكل هذا بعد القبض عليه وأخذ بصماته ولولا اعترافه ما خرجت أنا من السجن فشهادتك ضدى كانت قوية جدا فأنا آخر شخص كان فى عيادة الدكتور .. وبعدها دخلت أنت وصرخت .. فمن يكون المجرم غيرى ..

وقالت معقبة وعلى فمها ظل ابتسامة :
ـ الحقيقة أن الأدلة كلها كانت ضدك وأنا معذورة .. واسمح لى أن أسألك الآن وقد انتهى كل شىء ..
ـ لماذا دخلت العيادة ..؟
ـ كان من عادتى وأنا نازل من شقتى أن أمر عليه واسأله إن كان فى حاجة إلى شىء .. ولما دخلت فى هذه الليلة .. وجدته نائما فلم أشأ أن أوقظه .. وقلت أتركه فى غفوته إلى وقت آخر .. ولهذا خرجت مسرعا .. وقابلتك على السلم وكانت مقابلة لها تاريخ ..!

ووضحت لها الصورة التى لم تدركها .. وتألمت وظهر أثر ذلك على وجهها ..

وقال وهو ناظرا إلى الأرض :
ـ ان أشد ما آلمنى هو جو الوظيفة الذى أعيش فيه وبعضهم صدق الخبر لما علم أن حادث القتل اقترن بسرقة مبلغ كبير خمسين ألف جنيه وحتى الأصدقاء استبشعوا الأمر أولا واستنكروه أن يحدث من مثلى ثم قبلوه بعد ذلك تحت اغراء الشيطان .. كأن الشيطان هو الذى يحرك مصيرنا على هذه الأرض ويقلب انسانا سويا فى لحظة إلى قاتل ولص ..
وذلك ما يحير الألباب فى تصرفات البشر أجمعين عندما تصادق إنسانا أمينا واخترته لنفسك لأمانته يجب ألا تتزعزع هذه الثقة أبدا مهما كانت الأحوال ..
ـ هذا حق فالأمانة لا توزع .. والذى يسرق القرش يسرق المليون .. والذى يسرق قلم الرصاص من جاره فى الفصل الابتدائى سيظل سارقا بعد ذلك فى كل مركز ووظيفة ..
وأرجو أن توافقينى على هذا ..
ـ طبعا أوافق ..
وضحكت ..
وقال هو مستطردا :
ـ منذ شهور كنت أشترى شيئا من بقال فى الشارع وعلى بابه جموع من الأهالى تصرف التموين .. وجاءت امرأة فقيرة حافية وقالت وهى تمد يدها بشىء :
" خد ياعم " حسين " هذا الجنيه .. "
" ماله ..؟ "
" أنت أعطيته لى زيادة فى الأسبوع الماضى وأنا أصرف التموين "
ونظر إليها الناس الواقفون على باب الدكان فى عجب وذهول فالمرأة لم تقبل الجنيه .. وهى حافية وفى حاجة إلى كل قرش منه وتعرف أن البقال لص والذى يوزع عليه التموين أكثر منه لصوصية ..
ـ ولكن لا شأن لهذا بأمانتها فهى أمينة وهى حافية وهى أمينة ولو ماتت جوعا ..
ـ صدقينى لقد احتقرت هؤلاء الزملاء بعد الذى حدث لى فأما أن تضع ثقتك المطلقة فى صديقك أو لاتكون هناك ثقة ولا صداقة اطلاقا ..
ان تهمتك يا سيدتى جرت علىَّ الوبال من الناس والناس فى مجموعهم تخرج من أفواههم ألسنة من النار .. إذا اجتمعوا انقلبوا إلى شياطين يطنون كالذباب ولا تستطيع أن توقف طنينهم قط ..
ـ ما الذى أفعله لتغفر لى ذنبى ..؟
ـ لا شىء يا سيدتى سوى العزاء .. والصبر .. لقد كان المرحوم من أخلص أصدقائى وموته أنسانى كل مصيبة حلت بى ..
ـ هل حدثك عن سفره ..؟
ـ بالطبع ورسم محل اقامته فى لندن .. وكان سعيدا بهذه الرحلة تواقا إليها ..
ـ نقوم بها نيابة عنه .. ارضاء لروحه ..
ـ من يدخل فى حرف الجمع ..
ـ أنا .. وأنت ..
ـ أنا لم أركب القطار حتى إلى بنها .. فمرة واحدة إلى لندن ..
ونظرت إليه فى استغراب وحسبته يسخر
ـ ألم تركب القطار إلى بنها .. هل هذا معقول ..؟
ـ هو الواقع ..!
ـ فى مثل سنك هذا كثير ..
ـ اننى بحق فى رونق شبابى وأستطيع أن أتحرك مع وثبة الشباب وطوحه .. ولكن الفقر يعصرنى .. هل تعرفين معنى الفقر .. الذى يخيم على أسرة بأكملها ..؟
ـ فى سنك هذا درت حول العالم ..
ـ المال زينة الحياة وحياتك ناعمة وسهلة فلماذا تدخلين معى فى حرف الجمع .. لقد أصبح الحرف كئيبا لأول مرة ..
ـ لا أستطيع أن أجاريك فى الكلام ولكن أشعر بثقل الذنب وحسبت السفر يخفف عنك ..
وسألها وقد رآها تملأ بصرها منه :
ـ السيدة أخت المرحوم ..؟
ـ أبدا أنا قريبة له فقط وعدت من لندن منذ اسبوع ولما علمت باعتزامه الهجرة جئت لأراه قبل السفر .. كان ودودا وطيبا للغاية ..
ـ وكنت فى سياحة هناك ..؟
ـ لا .. كنت أعيش .. عشت خمس سنوات متصلة فى لندن ولما مات زوجى قلت لنفسى أعود لبلدى وهذا خير مكان ..
ـ دكتورة ..
ـ أجل وزوجى كان طبيبا ..
ـ كلكم أطباء وهذا يبشر بالخير لكل مريض .. ولكن إذا مرضت فلن أعرض نفسى عليك ..
ـ لماذا لقد تمرنت فى أحسن المستشفيات فى العالم ودرست على أعظم الأطباء ..
ـ لأنى لن أمرض وسأموت واقفا ..
ـ كان الدكتور صبحى يقول هذا وقد صدق فى كلامه ..
واخضلت عيناها بالدموع ..

وشعر بالعطف عليها وبالود .. ونسى كل ما سببته له ورآها تجاوب على مشاعره بمشاعر دافقة من الحب وكأن الأيام التى قضاها فى الحبس قد ولدت بينهما شعورا بالظلم الذى لا يدرك سببه والقسوة التى تصادف كل البشر فى حياتهم ..

وظلت تسأل عنه كل يوم وتقرع بابه بعد الافراج عنه .. ولكنه سافر إلى قريته مباشرة ليمنع أهله من الحضور إلى القاهرة ويسبب لهم المتاعب ..

فلما أحست بعودته طارت إلى بابه ورأته على حقيقته صبوح الوجه ناضر الشباب والرجولة ضاحكا على عكس ما كانت تتوقع بعد الاتهام الذى لوثته به ..

***

وبعد هذه الزيارة أصبحت تخرج معه إلى كل مكان فى القاهرة ..
وقالت له :
ـ سآخذ شقة المرحوم التى تحتك فهل تساعدنى ..؟
ـ وهل هذا الأمر يحتاج لسؤال ..؟
ـ يعنى تفعل كل شىء ..؟
ـ مازلت " رازكولنيكوف " لدستويفسكى ..
ـ لا .. لا .. لا أرغب فى هذا ولا أحب أن تفعل هذا فى سبيلى ويكفى أن تكون " سيدنى " لديكنز ..
ـ كل امرأة تحب أن تكون محبوبة ..
ـ والرجل ..؟
ـ الرجل مشاغله كثيرة .. والحب دائما فى الظل أما المرأة فلا ..
ـ ولكن المرأة تعمل الآن ولها نفس المشاغل ونفس المتاعب التى للرجل ..
ـ ولكن الحب هو فى البؤرة من قلبها .. ومن حياتها وبه تعيش ..
ـ كل ما أرجوه هو أن تساعدنى كجار وأنت تعرف معنى أخذ شقة من صاحب بيت فى هذه الأيام ..؟
ـ اطمئنى وضعى فى الثقة التى حدثتك عنها ..

***

وقال لها باسما :
ـ بعد أن غيرت العقد وأقمت فى الشقة أرجو ألا تضعى فيها نقودا أو كنوزا فتجرينى إلى تهمة جديدة ..؟

وضحكت وقالت بنعومة وعلى وجهها التأثر :
ـ أعرف أن الأثر لا يزال فى نفسك فمتى تغفر لى متى .. واطمئن ليس معى نقود أخزنها وما دمت فى حمايتك فأنا لا أخاف من شىء .. وشكرها وعجب لأحوال النساء وصعد إلى شقته صامتا ..

***

وجعلت الشقة عيادة وسكنا كما كانت وجاءت بشغالة من البلد وممرضة من القاهرة وأخذت الحياة تجرى ..

***

ووجدت أنه صنع منشرا فى السطح غير المسور للبيت وأمامه فى ركن منه مكان يستريح فيه ويسترخى وفرشه بالحشيات والمخدات ..
فاستأذنته وقالت :
ـ أتسمح بأن ننشر فيه الغسيل .. إن البلكونة لاتصلح وأنا لا أحب أن أنشر غسيلا فى البلكونات وربما تولدت هذه العادة فى اقامتى الطويلة فى لندن ..
ـ على الرحب .. السطح كله لك ..

***

وصعدت وعجبت للمكان ولما نزلت خادمتها بعد نشر الغسيل سألته :
ـ اتخذته مكانا أيضا ..؟
ـ إنى أسكن الأدوار العلوية دائما وأحب أن أكون قريبا من النجوم .. وفى الحرب العالمية الثانية كنت صغيرا وأسكن فى شقة صغيرة فى المنيل قريبة من النيل .. وقريبة أيضا من السماء وكنت أرى منها مآذن القلعة ومساجد القاهرة وقبابها وأبراج الكنائس .. كلها مضاءة وشامخة وصامدة فى وجه العدو .. وكانت الطائرات تروح وتجىء وتلقى قنابلها .. ولكن المساجد والكنائس والقباب ظلت شامخة وصامدة ولم يصبها السوء قط ..

وفى الحرب مع اليهود .. ظلت القاهرة أكثر شموخا .. وحركهم جبنهم ككل عادتهم فى الحروب إلى ضرب مدرسة بحر البقر وما تحت مرماهم فى الاسماعيلية والسويس .. ليثيروا الشعب ضد حكامه .. لأنهم لا يعرفون طباع الشعب ..

الشعب المصرى يتحرك فى المحن بقلب واحد وعزيمة صلبه .. ينسى كل متاعبه ليحقق هدفه .. كل شىء يقبل إلا الهوان ..

وقالت لنفسها إنه يخطب كأنه فى حفل ونسى أنى معه وقريبة منه وأشم رائحة عرقه بل وأسمع دقات قلبه ..وهكدا الرجل دائما ..!

وسمعها تقول لترجعه إليها .. وهى تشير بيدها :
ـ فى ليلة قمرية سنصعد معا إلى هذا السطح ..
ـ شاعرية جميلة من طبيبة .. أن ترى القمر ..
ـ اننا لانراه فى سماء القاهرة وكأنه غير موجود .. إلا إذا خرجنا فى الليل إلى الخلاء .. أو صعدنا إلى فوق .. أطبقت البيوت وخنقتنا .. وتبلد احساسنا بعدها .. ولم نشعر بالجمال ..
ـ إنى أشعر به دائما يملأ طيات نفسى ..
ـ أين ..؟
وأمسك بيدها وضغط .. وشعرت كأنها تطير ..

=================================
* نشرت قصة " المهاجر " فى صحيفة مايو 20/7/1981 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين "
=================================









المعجزة

قصة محمود البدوى

كانت هند طريحة الفراش منذ تسعة شهور ، استيقظت ذات صباح فوجدت نفسها لاتستطيع أن تنهض من سريرها ، لقد أصيبت بالشلل النصفى على إثر صراع نفسى جبار استمر سنوات وأحزان قاتلة هدت كيانها ..

كانت تعتقد أنها دميمة قبيحة الصورة لاتصلح للرجال ولايحبها إنسان .. وقد رسخ هذا الاعتقاد فى نفسها منذ الطفولة وكبر مع الأيام .. كانت أمها تقول لها وهى صغيرة تلك الكلمة القاتلة " يا وحشة " كانت تسمع منها هذه الكلمة فى اليوم عشرين مرة .. فرسخت الكلمة فى أعماقها واستقرت فى طوايا نفسها ، فنشأت مريضة حزينة منطوية .

ولما كبرت رأت أختيها الصغيرتين تتزوجان قبلها وبقيت هى فى المنزل لايتقدم لها أحد حتى تعدت سن الزواج . وكانت تتصور أن جميع من فى البيت يكرهونها لهذا السبب ، وزادت أحزانها وآلامها .. وانفجر شريان غضبها أخيرا فأصيبت بالشلل ..

وأحضر لها أبوها أبرع الأطباء فى المدينة ، ودخلت كل المصحات وطافت بالأضرحة ، ونذرت لها النذور ، ولكن دون جدوى ..

ولجأت أمها ـ بعد أن تطرق إلى قلبها اليأس ـ إلى الدجالين ، فكانوا يكتبون لها الأحجبة والطلاسم والألغاز .. وأخذت تطلق البخور فى حجرة ابنتها لتطرد الشياطين .. وتنتظر الفرج من ملائكة الرحمة ..

وكانت الفتاة بعد الحادث الذى نزل قد زهدت فى كل شىء .. فى الحياة .. وقد علمتها الشهور الطويلة التى قضتها فى الفراش التأمل .. والقراءة .. فكانت تطلب الكتب وتقرأ .. وتقرأ وتفكر .. وقد خرج بها الألم عن الدائرة الضيقة التى كانت تعيش فيها من قبل ، فأصبحت إنسانية النزعة تتألم لآلام الناس وتشاركهم عواطفهم ..

وكان أبوها يسير أصيل يوم فى أحد شوارع القاهرة ، فلمح لافتة صغيرة تشير إلى طبيب نفسانى .. ومع أنه لم يسمع به من قبل ولم يحدثه أحد عنه ولكنه صعد إليه .. واستقبله الطبيب مرحبا .. فقد كانت العيادة خالية تقريبا من المرضى ، وتحدث الأب عن فتاته المريضة ..

فقال الدكتور وهو يبتسم :
ـ قبل كل شىء سنشرب القهوة لأن جلستنا ستطول..
وشرب القهوة .. وقال الدكتور وهو يفتح دفتر مذكراته :
ـ أنا على استعداد لأن أذهب معك إلى البيت الآن وأرى المريضة ، ولكنى أود قبل هذا أن أعرف كل شىء عنها .. فأسرد علىّ سيرتها من الطفولة إلى الآن ، وحاول أن تتذكر كل شىء فإن ذلك من الأهمية بمكان ..

وتحدث الأب واستمع اليه الطبيب ساعة كاملة ، ثم ركب عربة إلى البيت ، ودخل الطبيب على المريضة واستقبلها بوجهه الضاحك ، وأخذ يوجه اليها بعض الأسئلة ويشيع الطمأنينة فى نفسها ..
واسـتراحت اليــه الفتــاة كثيرا على خلاف من سبقه من الأطباء ..

ثم استأذن وأخذ طريقه إلى الخارج .. وسأله الأب فى لهفة :
ـ أين الروشته يا دكتور ؟
ـ ليس بابنتك أى شىء ..
ألا تصف لها دواء ؟
ـ أنا لاأعالج بالسموم .. وسأعالجها على طريقتى .. وسترى نتيجة ذلك قريبا ..
ـ وستشفى ؟
ـ بإذن الله .. ما فى شك ..

ونظر إليه الرجل بين مصدق ومكذب .. ودفع يده فى جيبه ليخرج المحفظة ويدفع الأتعاب .. فقال له الطبيب وهو يربت على كتفه :
ـ دع هذا الآن .. وسأحضر غدا فى مثل هذه الساعة ..

وفى اليوم التالى جاء الطبيب ومكث مع الفتاة أكثر من ساعة يحادثها فى مختلف الشئون ، ولم يجر ذكر المرض على لسانه قط ، فعجب الأب لهذا الطبيب المعتوه ..

وفى صباح يوم جميل حمل البريد إلى الفتاة رسالة ففضتها وهى تعتقد أنها من احدى صاحباتها ، ولكنها عجبت بعد قراءة سطرين منها إذ وجدتها بخط رجل يبثها غرامه .. ويقول انه جارها ويسكن فى الشارع الذى تقيم فيه .. وأنه رآها أكثر من مرة فى شرفتها ولكنها كانت فى شغل عنه فلم تلتفت اليه مرة واحدة .. وأنه لم يرها منذ شهور فى الشرفة أو فى النافذة فهل هى مسافرة أو مريضة ؟ إنه يود أن يعرف لأنه قلق .. ولأنه معذب ولأنه متيم بها ..

وقرأت الرسالة مرة ومرات وتورد وجهها .. وكانت عندها خادمة تحبها وتثق فيها فطلبت منها أن تضع الرسالة فى خزانة ملابسها ففعلت ..

وبعد يومين جاءتها رسالة ثانية .. فقرأتها فى لهفة .. وكانت أشد عنفا إذ كتبها بدم قلبه .. ثم تدفقت عليها الرسائل بعد ذلك .. وكان الطبيب فى خلال تلك المدة يزورها ، ويلاحظ التغيـــر الذى طرأ على نفسها وجسمها .. فيسر لذلك ..

وحملت إليهـا الخادمة رسالة معطرة من حبيبها المجهول ..

وقال لها فيها إنه عرف رقم تليفون منزلها بعد أن عرف اسم والدها من البواب .. وإنه سيطلبها الليلة فى التليفون الساعة العاشرة مساء ويرجو أن تكون وحدها ..

ومن غروب الشمس كانت آلة التليفون بجوار سريرها ، وفى الساعة العاشرة دق الجرس .. فرفعت السماعة وظلت ممسكة بها برهة وقلبها يخفق خفقان الطائر المذبوح .. ثم قربت السماعة من أذنها وجاءها صوته من وراء الأبعاد .. وأخذ يتحدث .. وكانت هى تستمع فى نشوة وقد عقد الخجل لسانها .. ثم تشجعت وأسمعته صوتها .. ورأته يسر لذلك ويتدفق فى الحديث كالسيل ..

ووضعت السماعة وأحست بشىء جديد يسرى فى كيانها ، وبالدم يتدفق فى عروقها .. ويسرى فى جسمها كله حتى فى نصفها المشلول ، وكان خداها فى حمرة الورد .. وكانت عيناها تلمعان ببريق غريب .. بريق الحياة التى أخذت تدب فى جسمها ..

وظلت تحلم أحلام اليقظة إلى ساعة متأخرة من الليل ..

وأخذ بعد ذلك يحادثها فى التليفون كل يوم .. وكانت تطلب من خادمتها أن تغلق عليها الباب وتظل تتحدث معه ساعة وأكثر .. وكان إذا تصادف وخرج أهلها للتنزه وبقيت وحدها مع خادمتها ودق جرس التليفون كانت تشعر بسعادة غامرة لأنها تستطيع أن تحادثه بحرية ولمدة أطول وأطول .. وكانت قد ألفت صوته واستراحت إليه وازداد تعلقها به .

وذات مرة قال لها :
ـ عاوز أشوفك ..
ـ صحيح ..؟
ـ والنبى ..
ـ فين..؟
ـ فى أى مكان تحبينه ..
ـ لكن أنا مبخرجش ..
ـ أبدا ..؟
ـ أبدا..
ـ طيب ..
ووضعت السماعة وبكت ..

وفى اليوم التالى حادثها وقال لها :
ـ أنا زعلان منك ..
ـ ليه ..؟
ـ مررت تحت البيت فلم أرك ..
ـ والله فيه عذر قوى .. وأنا معذورة ..
ـ بكرة سأمر .. ولازم أشوفك ..
ـ سأحاول ..

ووضعت السماعة .. ولكنها لم تبك بل أحست بشىء يعمل فى داخل نفسها .. وبقوة دافقة تسرى فى كيانها ..

وقبل الموعد بساعات طلبت خادمتها وأخذت تتزين ، والبستها الخادمة أحسن أثوابها .. وقربت منها المرآة .. فأخذت تنظر فى وجهها طويلا .. وتصفف شعرها ، ولاحظت التغيير الذى طرأ عليها ، ورضيت وابتسمت .. وصرفت الخادمة ولما اقترب الموعد خيل اليها أنها تسمع صوته يناديها فتحركت من فوق السرير ووجدت نفسها لأول مرة فى حياتها تحرك رجليها .. وأنزلتهما برفق وقد غمرتها فرحة عارمة ونزلت على الأرض وتماسكت واستمرت واقفة وحلت المعجزة ومشت فى أرض الغرفة نحو الشرفة ..

واستندت على الحاجز ، ورأته هناك فى الجهة المقابلة من الشارع ولوح لها بمنديله الأبيض كإشارة للتعارف كما اتفقا .. وظلت متماسكة تنظر اليه فى سرور ..

ورأت الخادمة سيدتها واقفة فصاحت :
ـ شوفو ستى .. شوفو .. ستى ..

ورأت الأم ابنتها واقفة فى الشرفة .. فجرت نحوها ، وارتمت هند على صدرها وأخذت تبكى .. بكاء الفرح ..

وبعد ذلك بساعة كان الطبيب جالسا فى مكتبه يسجل فى دفتر مذكراته ..

إنتهى العلاج وحدثت المعجزة
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان المصرية 1121952 وأعيد نشرها بمجموعة حدث ذات ليلة 1953 لمحمود البدوى








أكسير الحيـاة

قصة محمود البدوى
التقيت وأنا أعبر شارع الشيخ حمزة إلى عيـادتى فى أمسية من أمسيات الخريف بصديقى لطفى .. وكان من رفاق الحداثة فى المدرسة الخديوية .. ولما دخلت مدرسة الطب كان هو قد ترك الجامعة واشتغل فى الصحافة .. وغمره تيارها وأصبحت لا أراه إلا قليلا ..

وسر لما رآنى عرضا فى الطريق وسررت أنا أكثر منه .. ولكن شيئا على خديه وفى عينيه أشاع الرجفة فى قلبى ..

سلم فى بشاشة وهو يقول :

لى ستة شهور وأنا عازم على زيارتك فى العيادة ، وكل يوم أقول غدا .. تصور .. ولكن ما دمنـا قد التقينا الآن سأحـدد الميعاد فى هذه الساعة .. وسأجىء فى الخامسة بعد ظهر غد ..

وجاء .. وأخذ يحدثنى عن حياته وعمله .. وكيف أنه يقضى الليل كله فى المطبعة بين الحروف والرصـاص .. ومنـذ شهور طويلة أحس بشىء فى صدره .. ويخشى أن يكون قد تمكن منه الداء ، ولولا أنه أحب فتـاة حبـا جارفا ويفكر فى الزواج منها .. ما اهتم بالأمر ، ولهذا يود أن يطمئن تماما قبل أن يشرك فتاة بريئة فى نفس المصير ..

وابتسمت .. ونفيت له الخاطر الذى دار فى ذهنه ، ولكن نظرة فاحصة إلى وجهه جعلت قلبى يدق بشدة ..

وقال ووجهه يضطرم :
ـ هل يمكن أن أكشف الآن ؟
ـ تفضل ..

وادخلته الحجرة ..التى فيـها جهاز الأشعة .. وخلـع ملابسه ووقف بصدره العارى وراء اللوحة .. وسلطت الجهاز .. ورأيت تمزقا ظاهرا فى الرئة اليمنى .. وخيـطا أسـود كضربة موسى يبعـد عن التمزق بمقدار عشرة سنتيمترات .. واسود وجهى وتندت عيناى بالدموع .. فقد كانت الحـالة ميئوسا منها تماما ولا ينفع فيها أى علاج ..

ولما خرج صاحبى من وراء الجهاز وارتدى ملابسه .. لم أشعل نور الغرفة وتركتها فى الظلام حتى أخفى تعبيرات وجهى ..
ـ ماذا رأيت ..؟
ـ صدرك سليم .. بل أقوى من صدر مصارع الثيران ..
ـ لاشىء ..؟
ـ لاشىء على الاطلاق ..

فنـظر إلىّ فى شـك .. ولكـن الفرحة هزته وأجرت الدم فى خديه ..
ـ أتزوج إذن ..؟
ـ توكل على الله .. هل حددت ميعاد الزواج ..؟
ـ بعد خمسة شهور ..

وقدرت حياته الباقية بثلاثة شهور على أوسع مدى .. وقدرت للفتاة النجاة .. وسألته :
ـ والعروس قريبتك ..؟
ـ لا .. إنها من المنصورة .. وأنا لا أراها إلا مرتين فى الشهر .. ولهذا أتعجل الزواج ..

واسترحت لأنها لاتعيش فى القاهرة معه .. وأسفت على شبابه وصحته ..

وكنت أحادثه وأنا أكتم انفجار الألم فى نفسى .. وأضغط على مخارج الحروف حتى لا أبدو ضعيفا أمامه ..

وعندما بارحنى مسرورا بنتيجة الفحص كنت غـارقا فى دوامـة من الأسى ..

وفكرت فى أن أتصل به بعد ذلك بأيام .. وأقول الحقيقة بطريقـــة مخففة .. أو أعرف عنوان الفتاة وأبعث لها برسالة ..

ولكننى وجدت أن فى إخباره قسوة بشعة وتعذيبا لإنسان سيموت حتما .. وفى الاتصال بالفتاة قسوة مثلها ..

وظللت أتعذب وأنا غير مستريح إلى كذبتى .. وكنت كلما دخلت على فتاة مريضة فى العيادة تصورتها خطيبة صاحبى .. وأنها جاءت تحمل إلىّ اللعنة والعذاب .. ومر عام وأكثر .. ونسيت الحـادث ونسيت صاحبى فى غمرة الحياة ..

***

ثم التقيت به عرضا منذ اسبوع وأنا داخـل إلى استراحة " شل " على الطريق الصحراوى وكان على حالة من الصحة .. والعافية أدهشتنى .. ولما جلسنا .. نشرب القهوة فى الاستراحة وجدت نفسى أوجه إليه هذا السؤال وأنا لا أشعر :
ـ ألم تسافر إلى سويسرا فى العام الماضى ..؟
ـ سويسرا لماذا .. اننى لم أبرح مصر قط ..
ـ خيل إلىّ أننى رأيت شخصا يشبهك فى " بادن "
ـ اننى مشغول بعملى ولا أستطيع السفر إلى الخارج ..
وكنت أود أن أسأله :
ـ ألم تدخل مصحة ..؟

ولكننى " بلعت " هذا السؤال .. وأنا أنظر إلى سيدة رائعة الحسن تقبل علينا فى رشاقة حلوة .. وأدركت بعد أن قدمنى إليها .. ونظرت إلى عينيها ووجهها .. سر نجاته من ذلك الداء ..

فقد كانت " سميحة " زوجته تبتسم له ابتسـامة مشرقة فيها الأمـل والحــياة ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الأهرام المصرية فى 1731956 وأعيد نشرها بمجموعة " الجمال الحزين 1962 " لمحمود البدوى









الـطبـيـب

قصة محمود البدوى

حدث منذ سنوات بعيدة .. أن سطا ثلاثة من عتاة اللصوص ـ فى ليلة شتوية مظلمة ـ على قصر ثرى من أثرياء الصعيد ..

وتنبه لهم خفراء القصر رغم شدة الظلام .. أحس بهم الخفراء قبل أن يصلوا إلى الخزانة .. واشتبكوا معهم فى معركة نارية ..

ولكن اللصوص كانوا أشد مراسا وأقوى سلاحا ..

فاضطر صاحب القصر لنفوذه أن يستنجد بعساكر المركز والمديرية وأسرعت قوة كبيرة وحاصرت اللصوص وقبضت عليهم .. ولكنهم كانوا فى ساعة الاشتباك قد قتلوا اثنين من العساكر وجرحوا ثلاثة .

وسيق اللصوص الثلاثة إلى المركز فتلقفهم العساكر بالضرب المبرح والركل انتقاما لما حدث لزملائهم فى المعركة واشفاء لغل صدورهم .

***

وحول اللصوص والدماء تنزف منهم إلى السجن .. وخشى مدير السجن المغبة لشدة الاصابات وأكثرها ظاهرة للعيان .. فحولهم إلى المستشفى الحكومى .

وكشف عليهم الطبيب المختص ودون كل ما وقع عليه نظره ولمسه كطبيب خبير من إصابات وجروح فى اللحم والعظم .. كتب هذا فى تقرير دقيق مفصل .

وشاع كل ما كتب فى التقرير فى أرجاء المستشفى بعد ما رفعه الطبيب إلى رئيسه مدير المستشفى .

وكان حكمدار البوليس فى مكتب مدير المستشفى بسبب ما وقع .. فاطلع على التقرير وهاله ما دون فيه ونهض مسرعا إلى حجرة الطبيب وفى عينيه شرر الغضب ..

وابتـدره بقوله فى غلظـة :
ـ ما هذا .. يا دكتور ..؟!

ولوح بالتقرير ويده ترتعش غضبا .

ورد الطبيب بهدوء مالكا أعصابه
ـ تقرير من طبيب مختص عن اصابات حدثت للناس .
ـ ولكن هؤلاء الناس لصوص .. وقتلة .
ـ القتلة ستحاكمهم المحكمة يا سعادة الحكمدار على جريمتهم ولا أحد غير القضاء هو المختص بمحاكمتهم .. فلا أحاكمهم أنا ولا سعادتك .

ـ ولكن التقرير فظيع .. وواضح الإدانة على العساكر .
ـ دونت الحقيقة خالصة من كل غرض .
ـ لم يحدث مثل هذا فى تقرير يكتبه أطباء الحكومة .
ـ لكنه حدث ..
ـ تقول هذا بكل هوء وأنت لاتعرف العواقب .
ـ لو فكرت فى العواقب .. ما زاولت هذه المهنة قط .

ولانت ملامح الحكمدار وغير من لهجته تحت إصرار الطبيب وعناده .

ـ يا دكتور .. أنت فى سن ابنى مراد .. وأنا أنصحك الآن كما أنصح ابنى .. وأرى لصالحك أن تغير من بعض ما كتبته فى هذا التقرير .
ـ هذا لايمكن أن يحدث .
ـ هل فكرت أن هذا سيذهب بهيبة السلطة .. ويشل حركتها .. وإذا ضاعت الهيبة ضاع الأمن فى البلد .. وبهذه الهيبة نحميك أنت قبل أن نحمى غيرك .
ـ ليس الأمر على النهج الذى تصورته سعادتك .. ولو اتبع من بيده القانون لاستراحوا وأراحوا .
ـ يعنى نترك المجرمين والقتلة وقطاع الطرق يعيثون فى الأرض فسادا .. وإذا وقعوا فى أيدينا نربت " نطبطب " على ظهورهم .
ـ لم أقل هذا ولا أقبل أن أدافع عن مجرم ولا سفاح .. ولكنى أقرر الحقيقة كطبيب .. فى عمل من أخص خصائص مهنتى .. فمن الذى يكشف عن الجريح . الطبيب أو غيره ..؟ انه عمل الطبيب وحده .
ـ ولكن ما كتبته سيجر .. إلى أمر لاتدركه أنت فى هذه الساعة سيجر إلى ضياع السلطة وشيوع الفساد .

وأشعل الحكمدار سيجارة .. واستطرد :

ـ طيب عدم بعض العبارات .. مثل جرح عميق بطول .. وتهتك فى قفص الصدر .. وكسر فى الترقوة .. ومثل هذا كثير يحتاج إلى التعديل .
ـ ولا حرف .
ـ يابنى .. تعبت معك .. سأرى مدير المستشفى وقد يثنيك عن عزمك .. وتقبل منه النصح .

وجاء مدير المستشفى ولكن الدكتور " اسماعيل " ظل على إصراره ورفض .

وأخيرا قال له المدير :
ـ يا بنى أنت متزوج حديثا .. وأصبحت أبا لطفل .. وعليك مسئولية الأبوة .. وأرجو أن تقدر المئولية .. وأنت لاتعرف ما يجرى تنقصك التجارب .

وسقط مدير المستشفى فى نظر الطبيب الشاب .. سقط سقطة أبدية .

وسأل الطبيب الشاب مديره :
ـ وما الذى تريده منى ..؟
ـ تغير من لهجة التقرير الحامية ..!
ـ أغير الحقيقة .. وأكتب الباطل .. أزور .. هل هذا هو ماتعلمته من الدكتور عبد العزيز اسماعيل .. والدكتور على ابراهيم .. والدكتور محمد صبحى .. والدكتور أحمد شفيق .. هل تعلمت من هؤلاء الأفذاذ التزوير .. حتى أكتبه .. حرام عليكم حرام .. وحرام أن يصل الهوان بنا إلى هذه الدرجة .
ـ يعنى تصر على رأيك ..؟
ـ إلى يوم القيامة ..

وتناول المدير التقرير وخرج غاضبا .. وعلم زملاء الدكتور اسماعيل بما حدث .. فانقسموا قسمين قسم رأى التغيير .. وقسم رفض .

وشاع أمر التقرير فى المستشفى بين المرضى والجرحى والممرضات والأطباء .. كان ما فعله الدكتور إسماعيل بقوله الحقيقة هو شىء شاذ وغير مألوف فى حياة المستشفيات .

***

وعندما رجع الدكتور إسماعيل إلى بيته .. لاحظت زوجه حاله .. وعلمت بالخبر .. فظهر على وجهها الألم .. وحاولت كتمان آلامها فى تحركاتها فى الشقة وانشغالها بطفلها وعملها البيتى .

ثم لما سألها عن رأيها قالت له :
ـ من رأيى أن تنزل عند رغبتهم .
ـ هكذا بكل بساطة ..!
ـ نعم ..
ـ يا لخيبتى فيك .. كان يسعدنى أن أسمع عن سيدة مصرية من هذا الجيل وقفت بجانب زوجها فى وجه العاصفة حتى تمر .
ـ أنت تعيش بخيالك وبعيدا عن عذاب العيش ولقمة العيش وهو الشىء الذى تشعر به المرأة .. وتعمـل له الحساب قبـل الرجـل .
ـ ولماذا هذا المنظار الأسود .. وتتوقعين الشر ..؟

ـ لأنى أرى فى كل ما حولى .. انتصار الشر .. وسيبقى صراع الخير والشر أزليا .. سيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة ، وتلك إرادة الله وحكمته .

ـ ولهذا علينا أن نقاوم الشر بكل ما أعطانا الله من قوة .. حتى نقضى عليه .

ـ لو أراد الله الخير الخالص فى هذه الدنيا .. لما أبقى الشيطان فى الأرض بعد أن عصاه وأخرجه من الجنة .. أبقاه يعيش مع الإنسان فى الأرض لأنه جل وعلا هو الذى خلق الإنسان ويعرف طبيعة تكوينه عندما ينزع إلى الخير .. وعنـدما يكون شرا من الوحش فى ضراوته إذا نزع إلى الشر ..

ـ يعنى أبقى الشيطان على الأرض لأن الحياة الدنيا لاتستمر فى مسيرتها بغير شيطان وشياطين ..!

ـ نعم .. والا فكيف تختلف عن الجنة .. فى الجنة النعيم المقيم .. وفى الأرض الخير والشر وإذا قاومت الشر وحدك وأنت ضعيف ستخذل حتما .. تلك سنة الحياة .

ـ ولكن أشعر بكل الناس معى .

ـ أين هم .. أنى لا أرى حتى زميلا لك من أطباء المستشفى .. جاء ليزورك ..؟
ـ سترينهم .

وسمعت قرعا على الباب فمشت اليه وهى تتوقع زيارة صديق ممن يزورنه فى بيته .. ولكنها وجدت خالة لها قادمة بزيارة من الريف فانشغلت بها .. ودخل إسماعيل إلى حجرته بعد أن حيا الضيفة ورحب بها .

وفى اليوم التالى زاره وكيل الحكمدار فى بيته .. وكان الدكتور اسماعيل يتصور أنه جاء ليرجوه كغيره تغيير ما كتبه فى التقرير .. ولكنه وجده يشجعه على شجاعته ووقوفه فى وجه العاصفة التى أثيرت حوله .

وأخيرا قال له وكيل الحكمدار فى حماسة وهو يبتسم :
ـ يابنى أنت لم تر جدك " عبد المنعم " ولكنى رأيته .. فيك كل طباعه وكل صفاته .. أنا كنت ضابطا صغيرا فى النقطة ببلدكم .. وطوال مدة خدمتى فى النقطة والمركز لم يدخل فلاح واحد من أهل قريتكم نقطة ولا مركز .

عاش جدك عبد المنعم ومات وهو عمدة ولم يذهب فى حياته فلاح واحد من أهل القرية نقطة ولا مركز .. وكان يقول لى :

ـ أهين أهل بلدى .. وأجرهم إلى سجن المركز .. لا .. قد يخرج الطيب منه شريرا فى يوم وليلة .. لا لن يحدث هذا وأنا بصحتى أن وظيفتى كعمدة فى حسم الأمور هنا .. وإلا فلا خير فينا للناس المساكين الذين لاحول لهم ولا قوة ..

كان يعالج الأمور بطريقته الفذة .. سرقت جاموسة من " شريفة " وجاءت تشكو له ..

فيقول لها بابتسامته الوضاءة :
ـ طيب روحى يا شريفة .

وفى الصــباح التــالى تعــود الجاموسه إلى بيت " شريفة ".

وهكذا ما يحدث من سرقة وعراك مع الفلاحين .. وما يحدث فى سوق القرية .. وفى غيطانها ونجوعها .. وفى زمن الفيضان وفتح الخزانات .. والنزاع على الرى .. وجنى القطن .. وضم المحصول .. وحراسة الأجران والجسور ..

مئات الأشياء التى كان ينهيها بقوة مراسه وهيبته وتجاربه ومعرفته بخلق الفلاحين وطباعهم .

وكانت قريتكم أول قرية أضيئت شوارعها بالفوانيس وأول قرية لم تحدث فيها حادثة قتل واحدة طوال مدة حكمه التى جاوزت عشرين عاما .. كنا نسميها القرية الآمنة .. فأنا يا بنى لم أدهش لفعلتك ولم أستغرب كما فعل غيرى فأنت خليفة والدك وجدك .

وشكر الدكتور اسماعيل وكيل الحكمدار وسره أن يكون من رجال القوة فى المديرية من هو على هذه الصفات الحميدة .

***

وبعــد ثلاثة أســابيع نقـل الدكتــور إسماعيــل إلى " أرمنت " .

ولما علمت زوجته بأمر النقل تركته إلى أهلها .. ووقف هو على رصيف المحطة وحده ينتظر القطار الذى سيقله إلى مقر عمله الجديد .

ولمح شبحا يتحرك فى سكون الليل .. والسنافورات تتحرك والريح تعوى وتصفر فى الأسلاك ..

ولمــا اقتــرب عرف الدكتور إسماعيل أنه معاون المحطة ..

وقال المعاون وفى صوته رنة الأسى :
ـ جئت أودعك يا بنى وأسلم عليك وأحيى شجاعتك فى هذا الزمن النكود ..

ـ شكرا يا عم " سمعان " فيك الخير ..

ـ لا تتصور أنهم انتصروا عليك بنقلك .. أبدا أنت المنتصر والناس تتصور دائما لغباوتها .. أن الحق مطموس وضائع .. والشر ينتصر على طول الخط .. وهذا خطأ .

اذهب الآن إلى المدينة بعد ما عرفوا فعلتك تجد الجميع يفخر بك ويصفق لك .. دخلت فى قلوب الملايين .. وسترى هذا الأثر فى عملك لو فتحت عيادة خاصة .. الناس لاتنسى الشجاعة أبدا ولا موقف البطل .. ولا تغفر قط للجبان الرعديد .. حتى وان كانوا هم فى أعماقهم جبناء لأنهم يقدرون من عبر عن شعورهم وما عجزوا هم عن فعله .. ومن هنا تكون صفات البطولة للبطل . أنه الفرد الذى تكلم وعبر عن خلجـات الجماهير الضائعة فى تيه الحياة .

ولا تفكر بطريقتهم ولو ضربنا وعذبنا كل مجرم وسفاح .. ما كانت هناك محكمة ولا محاكم فى الأرض .

ـ شكرا ياعم " سمعان " ملأتنى ثقة فى جوانب نفسى .. ولكن أشد ما يؤلمنى الآن ألا أجد زميلا واحدا جاء ليودعنى على المحطة .

ـ اعذرهم .. يا بنى .. قد يكون لهم عذرهم .. وقد يعوضك الله فى مقرك الجديد من هو خير منهم .

ـ شكرا لكلماتك الطيبة .. شكرا ..
ـ جاء القطار .. وقد حجزت لك أحسن المقاعد .. وخذ منى هذا التذكار البسيط .

وتناول الدكتور اسماعيل التذكار من المعاون وعيناه مخضلة بالدمع ..

وكان القطار وهو يدخل المحطة يصفر وأنوار عرباته تتوهج فى الظلمة .
=================================
نشرت القصة بصحيفة أخبار اليوم المصرية فى 26111983 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " لمحمود البدوى 2002
=================================

ليست هناك تعليقات: