حرب اسرائيل الثانية
فى
قصص محمود البدوى
*****
بقلم : على عبد اللطيف
و ليلى محمود البدوى
وأعطى " أيزنهاور " اليهود فى إسرائيل لطمة قاسية ووضعهم فى حجمهم الطبيعى .
***
كتب محمود البدوى العديد من القصص التى تعبر عن احاسيس الإنسان ومشاعره تجاه الأحداث التى مرت بها البلاد أثناء العدوان الثلاثى على مصر فى سنة 1956 .
وكان مشغولا بوطنه الذى تحوم فوقه طائرات الأعداء ، وبالناس الذين أحبهم والذين فوجئوا بالعدوان الوحشى وهموا جميعا لملاقاته ، وأخذ ذهنه يعمل وقت الغارات والظلام والانفجارات ، ولم يدع دقيقة واحدة تمر دون عمل .
اشترك بقلمه ، وكتب القصص التى استوحاها من المعركة ، والتى تظهر المعدن الأصيل للإنسان المصرى ، ونضال وشجاعة الرجال فى مواجهة الغزاة .
ونشرت القصص فى الجرائد اليومية أثناء المعركة ، وقد كرمته الدولة ونال ميدالية الإنتاج الفنى والأدبى من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عام 1957 " حصل فيما بعد على جائزة الدولة للجدارة فى الفنون 1978 وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب 1986 ومنح اسمه بعد وفاته وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1988".
وقد تركزت أحداث قصصه فى مدن القنال وفى القاهرة ، ومن هذا المنطلق أستطيع أن أحكى وأقص ما حدث فى هذه المدن ، ولم أستعن فى إيراد وقائعها بأى مرجع خارج عن نطاق قصص محمود البدوى .
مدن القنال
***
انطلقت الصواريخ وتأججت النيران .. وفتحت المدافع أفواهها .. وصفر الرصاص .. وأبرقت الشهب .. واهتزت الأرض .. وأرعدت السماء .. وخيل للناس أن قذائف المدافع المضادة تشق السحاب ، وأن الأرض تخرج السنة الجحيم .
كانت المدينة الباسلة تقاوم الغزو بقلب واحد ، الرجـال والنساء وحتى الأطفال ، كانوا يقاتلون ببسالة من شبر إلى شبر ، يأتيها الضرب شديدا ومروعا من ناحية البحر ، والقنابل تسقط عليـهم من السماء ، والنيران تندلع حولهم ولم يتخاذل منهم أحد ، ولم يتراجع ، وأعطى السلاح للناس دون شرط .
وظلت البيوت صـامدة ومشرقة فى وهج الشمس ، ثم أخذت كرات من اللهب تسقط عليها ، وأخذت القذائف تدكها ، وبين الأطلال والرماد وقطع الأثاث المتناثرة كان الأهالى يتجمعون من جديد ويقيمون المتاريس ، ويطلقون النيران ، والجموع تحمل البنادق والخناجر لترد على العدوان بما هو أشد منه .
واشتدت المعركة وانقلبت إلى جحيم ، فأخذ الناس يخرجون النساء والأطفال من المدينة .
***
يقول الراوى فى قصة "عند البحيرة":
"ولكن زبيدة بقيت فى بيتها ، ومن الصباح البـاكر وهى تسمع الضرب يأتى من ناحية البحر وكان شديدا مروعا ، ولكنها كانت مطمئنة ، وتقول لكل من تراه سنسحق الأنذال ، وكان زوجها قد حمل سلاحه وذهب إلى مطار "الجميل" .. "وفى الصباح علمت أن المعركة انتقلت إلى "بور فؤاد" وزوجها فى قلب الجبهة يقاتل مع الوحدات المدرعة ..... وكانت هناك طابية على الساحل ، ترسل بين الفينة والفينة قذيفة واحدة ، ولكنها تدك الجبال وتجعل البحر يتحول إلى طوفان ..... وكانت تعرف أنه مادامت هذه الطابية تعمل ، فلن يجرؤ أسطول الأعداء على الاقتراب من الشاطىء ، ولكن بعد غروب الشمس، سكتت "الطابية."
وكانت النساء اللائى ذهب أزواجهن للقتال مع الوحدات المدرعة يعرفن أنهم سيعودون إليهن حاملين أنباء النصر .
***
ويقول الراوى الذى عاش فى قلب المعركة تحت النيران والقنابل ورصاص البنادق فى قصة "تحت النيران":
"فى كل مرة كنت أتوقع أن أقتـل ولكننى عشت وخرجت من المعركة بقلب جديد وشعور جديد .. وأدركت عن بصيرة أن النصر لايأتى من البندقية التى نمسكها وإنما من اليد التى تحرك البندقية . كما أدركت أن المستميت لايموت وأن الظلام والقنابل لاتميت ولا تخيف مادام الإنسان قد قرر أن يعيش ويحيا."
***
ويقص الراوى فى قصة "رصاصة " بطولة أحد الجنود فى خليج السويس حينما اقتربت طرادة الاعداء من الخليج وأخذت تقذفه بالنار :
"أدار وجهه لرفقائه ، وقال لهم بهدوء ، سأغرقها ، وظل يقاتل والطائرات تحلق فوقه كالنحل ، ولما عجزت الطائرات عن إسكات مدفعه ، صبت عليه النار وحصرته فى دائرة مشتعلة ، لتقضى عليه القضاء الحتـم ، ولكنه لم يعبـأ بهذا كـله وظل يقاتل ويرمى السفينة باللهب وأصابته شظية فى بطنه ، وأخرى طيرت يده ، ومع هذا لم يسكت مدفعه ، كان يستعمل كل جوارحه الباقية ويحرك المدفع ويده تقطر بالدم حتى أغرق السفينة .
***
وفى قصة "الجريح" يحكى عن بطولة خفير مزلقان على السكة الحديد فى الخط الشرقى ويبعد عن مدينة الإسماعيلية ببضعة كيلو مترات .. ويقول :
"عندما بدأت الحرب فى القنال يوم 29 اكتوبر ، لم يتغير شىء فى حياة عبد الغنى وفى الكوخ الذى يعيش فيه بجانب الشريط الحديدى .. فقط كان يرى قوافل السيارات والدبابات تتجه إلى الميدان .. ولا تنقطع التحركات لحظة ..... ولم يكن فى هذا المكان المنعزل عن الحياة .. يستمع إلى الراديو أو يقرأ الصحف .. فغابت عنه كل تطورات المعركة .. ولكن جوارحه كلها كانت تحس بها ..كان يحس بها من تحركات الجنود فى الطريق ، ومن القطارات المحملة بالعتاد والدبابات والمدرعات .. التى تمر بجانبه .. ومن طائرات الاعداء .. ألتى تلقى القنابل فى كل مكان ..... وفى المساء .. سمع ما كان يخشاه .. سمع من سائق لورى عبر المزلقان .. أن الاعداء سيضربون بطائراتهم الخطوط الحديدية ..... وفى اليوم السابق للهجوم الغادر على ميناء بور سعيد ، اشتد الضرب فى هـذه المنطقة وفى منطقة التـل الكبير والقصاصين ، وكانت المدافع المضادة تمزق طائرات الأعداء وتصليها بالنار الحامية.
وكان عبد الغنى يرى بعض هذه الطائرات تحلق قريبا منه .. ثم تفرغ حمولتها وتلوذ بالفرار ، فكمن على ربوة بجانب الشريط وأخذ يطلق عليها النـار بشدة ، حتى تصور كل من سمـع الضرب أن هناك فصيلة كاملة تقاتل هذه الطائرات .. وترد على عدوانها .. وأخذت بندقيته تزأر .. وحاصرته الطائرات وألقت حوله القنابل المتفجرة .. ومع هذا لم يكف عن القتال .. ظل يقاتل .. ويقاتل .. حتى أصابته الشظايا .. فجرح جرحا دفينا .. وسكتت بندقيته وغاب عن الوجود .
وعندما فتح عينيه .. وجد الظلام يخيم ومد بصره .. إلى الشريط فلم يستطع أن يرى شيئا .. فتحامل على نفسه والدم ينـزف منه ، وزحف ببطء ومشقة على الرمال .. وبعد ثلاثين مترا وجد حفرة عميقة بجانب الخط ثم شهد القضبان ملتوية وطارت الفلنكات ودعائم الكوبرى الصغير الذى يمر فوقه القطار .....
وسمع جرس الإشـارات يدق منـذرا باقتراب القطار . والسائق لايعرف ما حدث على الخط وما من شخص نبهه .
وحاول عبد الغنى أن يزحف على بطنه .. فلم يستطع أن يتحرك مقدار شبر واحد ، ولكن يده عثرت على شىء فتقلصت عليه ، ونظر إلى الكوخ فوق رأسه وعيدان الحطب بجواره .. ولمعت فى رأسه فكرة ولكنه قرر خطورتها .. لأنه سيحترق مع الكوخ عندما تقترب منه النار ولا يستطيع أن يتحرك ويبتعد عنها .. وتردد لحظات والعرق يتصبب من جسمه المحموم ، ولكنه سمع صفير القطار .. فجن .. وتناول عود الثقاب من جيبه .. وأشعل عودا من الحطب .. ورماه على القش فأشتعل الكوخ .. ورأى النور يتوهج ويقلب كل شىء إلى نهار مبصر .. وكان القطار يصفر .. ثم لم يعد يسمع صفيره .. وغاب عن الوجود.
وتطورت الأحوال وعلم الأهالى أن اسطول الأعداء يقترب ، فخرج النساء والأطفال والشيوخ من المدينة ليقيموا مع أهاليهم فى الريف ، واشتد الضرب ومادت المنازل فخرجت النساء يجرين بملابس البيت وأخريات أذهلهن الموقف حتى عن أخذ النقود ومنهن من خرجت تجرى ومتاعها على رأسها ، واتجه جمع غفير من الناس إلى " بحـيرة المنـزلة" وجلسوا هناك صامتين ، وحـولهم المدافـع تقصف والنيران تتأجج والاعداء يرمون القنابل على البحيرة ليغرقوا الزوارق بمن فيها ، وكلما شاهدوا قاربا يقترب من البر ، اندفعوا نحـوه بسرعة وأخذوه وأبحروا .
واشتد قصف المدافـع ، وأسقطت الطائرات حمولتها ، وزلزلت الأرض وانهارت المنازل ، وتأججت النيران ، وحجب الغبار والسواد الأبصار ، والرصاص والقذائف واللهب يتساقط كالمطر ، واحتل الإنجليز المدينة وحاصروها ، وقطعوا الماء عنها ، واستمر القتال على حدود المدينة .
*****
القاهرة
***
اشتعلت نيران الحرب فى القنال وابتدأت الغارات ودوت صفارات الإنذار وانطلقت المدافع بقوة والجمهور يسير فى حياته العادية كما كان قبل الحرب دون رهبة ولم يتغير شىء فيه ولم يتبدل ، والأطفال الذين كانوا يلعبون ظلوا فى أماكنهم والناس الذين كانوا يسيرون فى الشوارع أخذوا من حين إلى حين يتطلعون وينظرون إلى السماء ويترقبون ، وكان يفلت منهم الزمام فقط فى اللحظات المثيرة عندما تحترق طائرة وتهوى أو يسقط طيار بالمظلة ، وعندئذ ترى الجموع تنطلق وتتجمع كالروافـد من الشوارع الجانبية كلها لتصب فى مكان الحادث هادرة صاخبة كموج البحر الهائج الذى لا يرده شىء .
***
ففى قصة "سيدة وفنان" .. وبطلها رسام شاب يبحث فى المكتبات عن اللوحات التى تلهب حواسه فى فترة المعركة ، وفكر فى أن يشترك فى المعركة بريشته ويرسم اللوحات التى يثير بها مشاعر الناس ضد الاعداء ويبـين فظاعتهم ووحشيتهم ، وحرب السويس مشتعلة على اشدها والطائرات تلقى القنابل فى كل ساعة .
هذا الفنان عندما ركب الاتوبيس وهو فى طريقه إلى المكتبة وجـد الركاب يتحـدثون عن الحـرب ، وكل راكـب يتحـدث عنهـا كأنه اشترك فيها فعلا أو كأن الميدان قد انتقل إلى الشارع الذى يسـكن فيه .
ويقول "كان الركاب يتحدثون عن طـائرة سقطت فى الصبـاح بجوار كنيسة "سانت فاتيما"، بمصر الجديدة .. وكانت الجموع تود أن تفتك بالطيار الذى هبط بالمظلة ، قريبا من مكان الطائرة التى احترقت ولكنها ضبطت أعصابها وسلمته حيا لرجال الشرطة ، كما تحدث الركاب عما قليل عن طائرة سقطت قرب المرج وأخرى فى امبابة ، وطيار سقط .. قريبا من سوق التوفيقية ..".
ولما بلغ المكتبة "كان الخواجه البير" صاحب المكتبة يتحدث عن طيار فرنسى سقط عند مصلحة التليفونات وحاصره الجمهور ليمنع عنه الاعتداء حتى يصل البوليس . ودخل فى جوف المكتبة ينظر فى صفوف الكتب التى أمامه .
ويقول "وعادت الصفارات تزعق مرة أخرى وأنا أنظر فى صفوف الكتب التى أمامى وأفكر فى أن الذى اخترع آلات الدمـار التى تلقى علينا الآن على شكل قنابل ومفرقعات ، هو عقل بشرى متفتح دون شك .. وكان غرضه الأول هو خير الإنسانية .. ولكن الشياطين هم الذين حولوا هذه الاشياء إلى آلات للدمار تسـحق الإنسـان نفسـه .. الذى اخترعها وقتل الروح الطيبة من البشر ، فياللعجب ، ويالذل الإنسـان عندما يسـيـطر الشــياطين على المـوقف ويصــبح فى يدهـم الزمــام .. ".
اشتد الضرب وانطلقت المدافع بقوة ، وأخذت الطائرات المغيرة تلقى القنـابل المدمرة والحـارقة على السـكان ، فجرى الناس فى الشوارع ، ونزل الركاب من وسائل المواصلات واحتموا بمداخل البيوت وتحت باكيهات الشوارع وفى داخل المخابىء .
وكانت الطائرات المغيرة تضرب المارة فى الشوارع بالمدافع الرشاشة وتحلق على ارتفاع منخفض ، وتسير فوق العمارات وتنـزل إلى الفضاء بين البيوت وينطلق الرصاص ويسدد إلى الطائرات من فوق أسطح المنازل والشرفات ليتمكنوا من اصابتها .
***
وعاد الراوى إلى بيته اثناء سير الطائرات فوق البيوت مباشرة ، ويقول فى قصة "النور" :
"ولما دخلت من الباب حذرنى الناس من الصعود إلى فوق لأن الرصاص يتساقط كالمطر ، فوقفت معهم فى المدخل .. وهنا أصيبت طائرة وأخذت تهوى وهى مشتعلة ورأى النــاس الذى اصابهـا وكان فى الطابق السابع من بيتنا .."
***
ويتعجب بطل قصة " اللوحة " من روح الشر التى تحرك المعتدين ويريد أن يرى تلك الوجوه التى تدمر البيوت وترسـل الصواعق من السماء على شعب مسالم يحـب السـلام ولا يعرف تلك الروح التى تحركهم ، ويسمع هاتفا بأن مواجهة الشر يجـب أن تكون بقلب صلد .
ويقول :
"ولكن هنـاك أناس فى العـالم يصنعون الحروب ويقتلون النساء والأطفال ..... اذا واجهناهم بوداعتنا وحمامة السلام التى على وجوهنا سحـقونا ، وإذا أرسلنـا عليـهم الصواعق من السـماء وصفونا بالتوحش ..".
كان الجنـود المصريين يرابطون فى مواقعـهم على رأس الشوارع والطائرات تغير وتلقى القنابل والرصـاص يدوى أو يصفر ، واشتد ضرب النار ، وبدأت معركة رهيبـة ، وشباب الحرس الوطنى حاملين البنادق يقيمون المتاريس ويحملون للجنود المحاربين الماء ويتحركون فى المنطقة ولا يخيفهم الرصاص المتساقط فوقهم .
***
ويحكى الراوى فى قصة "فى الجبهة" عن احـدى السيدات كان لديها ولدين وبنت ، والابن الأكبر يقاتل اليهود فى سيناء والأصغر تطوع فى الحرس الوطنى والبنت أرادت أن تشترك بعمل إيجابى فتطوعت للعمل بالمستشفيات ، ولما رأت الأم أن الجميع يشـتركون فى جبهة القتال جمعت حولها الأطفال فى المخبأ وقت الغارة وأخذت تقص عليهم الأحاديث الممتعة ، حتى نسى الأطفال الظلام والخوف .
وكانت تسكن فى الدور الخامس من حى القلعة ، ونظرت من شرفة مسكنها :
" فبدت المدينة الجبارة تحتها .. بكل جمالها وجبروتها .. بدت المآذن والقباب وبروج الكنائس والعمارات الشاهقة والحدائق والفنادق .. وبدا النيل الخالد .. وعلى جانبيه الأرض الخضراء .. بدت الإنسـانية الوادعة وحضارة قرون .. "وشعرت الأم بالفخار والزهو فى أن أصغر الأبناء تطوع فى الحرس الوطنى ليدافع عن هذا التراث.
وفى الليل عندما تدوى صفارة الإنذار وتطفأ المصــــابيح
ويخيم الظلام وينـزل الناس إلى الطابق الأرضى ، يفتح ساكنيها أبواب بيوتهم للاحتماء بداخلها .
***
ويحكى الراوى فى قصة " الماس
عن سقوط القنابل بجوار إحدى العمارات الكبيرة ، فأخذ السكان فى صباح اليوم التالى يرحلون الأطفال والنساء إلى الريف ، وفضلت إحدى السيدات البقاء فى العمارة بعد أن ذهب زوجها إلى الميدان لتكون قريبة منه وتعرف اخباره وأصبحت وحيدة فى الطابق كله هى وطفلها الرضيع ، وكانت تظل فى شقتها بعد صفارة الإنذار ، ثم أصبحت تخاف من الجدران المظلمة ، فأخذت تنـزل إلى الطابق الارضى فتجد البواب وثلاثة من السكان يتحدثون عن الغارات وطائرات الأعداء التى تسقط كالذباب ، وكل منهم يروى قصـة فـذة من قصص البطولة لشعب يقـاتل وحـده ثلاث دول مجتمعة . وكل رجل فى العمارة يتطوع لخدمتها ويخرج والطائرات تلقى القنابل ليأتى للطفل باللبن .
"وكان يسكن بجوار السلم مباشرة شاب مصرى يعيش وحيدا ، وعندما يراها وعلى ذراعها الطفل يخرج لها كرسيا من شقته ، وكانت الغارات تمتد إلى نصف الليل ، وعرض عليها الشاب أن تسـتريح فى شقته حتى لايتعرض الغلام للبرد ، وفى كل ليلة تلاحظ أن الشاب بعد أن يدخلها ويدعها فى أمان ، ينسحب ويقف فى الخارج مع البواب ومن بقى من الرجال فى العمارة ، وشعرت بارتياح كبير فالجميع يعاملونها بانسانية وشهامة الرجل مع امرأة وحيدة".
***
ومن السكان من كان يرفـض النـزول من مسكنه ويفضل البقاء بداخله ، كبطلة قصة "الاشارة" التى تقول:
"إن الناس اذا اجتمعوا فى مكان واحد ، يتسلط عليهم خوف واحد من عدو مشترك .. الموت .. ويصبح حديثهم كله عن حوادث الغارات ..".
***
وكبطلة قصة "النـور" التى تظل فى مسكنها أثناء الغارة وقد شاهدها الراوى من نافذة المطبخ بعد انتهاء الغارة وهى تتحرك فى شقتها ، فأدرك أنها لا تنـزل مهما اشتد الضرب وكان يحسدها على سكينتها وهدوء أعصابها .. ويقول :
"الواقع أن حالتها كانت أحسن بكثير من حالنا فيما يبدو لى فانها تشغل نفسها فى بيتها بأى شىء .. وتحرك يديها ورجليها .. أما نحن فكنا نجلس فى البدرون فى سكون وكأننا ننتظر حكم الإعدام .. نصمت صمت الموتى ساعة كاملة دون أن تتحرك لنا جارحة ثم نتحدث ثلاثة .. ثلاثة .. فى نفس واحد ..
وكنت أسمع الأحاديث المعادة والأخبار التى سمعتها بحذافيرها فى الصباح ، وفى سبع حالات من تسع يظهر شخص عبقرى فيحدثك وأنت محشور وسط هذه الكتل البشرية عن خطر الغارات والقنابل المباشرة التى لاتبقى ولا تذر .. وخطر التدخين على الأخص والتطلع من باب المخبأ .. فان هؤلاء العبـاقرة لازمة لصـفارات الإنذار .. ويظهرون كمراقبى الرقابة المدنية بمجرد حدوث الغارة ، وكل هؤلاء من الذين انخلعت قلوبهم .. والذين دمرت أعصابهم فى تصور حالات الموت البشع بكل صوره الشنيعة .. ومنهم من يسرح به الخيال ويذهب بعيدا جدا فيترك حرب سنة 1939 بكل فظاعتها وهولها .. ويحدثك عن حرب 1914 .. وعن أستاذ فى جامعة هامبرج .. دمر الجامعة بأسرها لأنه اشتاق أن يدخن سيجارة فى اللحظة التى مرت فيها الطائرات البريطانية فى سماء المدينة".
***
ويحكى الراوى فى قصة "العملاق" عن طبيب خرج من بيته فى ساعة متأخرة من الليـل لانقـاذ امرأة فى حالة وضـع متعسر ، واسرع بسيارته ، وكان الظلام كثيفا وقت حدوث الغارة وانقطعت الرجل عن الطريق ، وصدم شخصا يعبر الشارع فأوقف السيارة ونزل واتجه إلى الرجل وكان مكوما بجوار الرصيف وحرك كتفه ليريحه فى رقدته وتبين ملامحه تحت نور السماء وضوء القذائف ، فألفاه عجوزا أشيب يرتدى جلابية فوقها معطف قديم وقد طار غطاء رأسه ، فتلفت حواليه ليجد إنسـانا يعينه على نقـل المصاب إلى السيارة ، فلم يجد ، وتركه على حـاله ، وركب سيـارته وانطلق ، فقد تسلط عليه الشيطان وسط الظلام ، وبدلا من أن يحمل الرجل إلى المستشفى ، تركه وهرب . ويقول الطبيب لزوجته حينما رأته صامتا أخرس ووجهه يفور بالدم ويغالب الدمع ويحبس شيئا فظيعا فى صدره :
" لا أستطيع أن أنطق .. لقد شل لسانى .. من مجـرد التفكير فى أنى قتلت إنسانا .. خطأ ومن غير قصد .. ولا أدرى كيف يثـير هؤلاء الحروب .. ويقتلون روح البشر .. ماذا يقولون لجنودهم وهم يغيرون الآن علينا .. ماذا يقولون لهم .. ليدمروا البيوت .. ويقتلوا الأطفال ، ماذا يقولون لهم ..... إنهم يخدعونهم بالطبع .. ويصورون لهم الأحلام فى الشرق .. يحلمون بليـالى هارون الرشـيد ولكنهم سيموتون .. وسيصبحون جيفا .. وتأكل منهم النسور".
***
وامتلأت قلوب النـاس بالكراهية لرعايا الدول الموجودين فى مصـر ، ففى قصة "سيدة وفنان " اعتقد الراوى أن الفتاة التى قابلها فى المكتبة يهودية ، وانتابه شعور بالكراهية لم يستطع دفعه ولا مقاومته رغم جمالها الصارخ ، فأقصر معها فى الحديث وعندما أرته جواز السفر وبجانبها صورة زوجها ، اكتشف انها مصرية صميمة واسمها جيهان ، وفاتحته فى انها ذاقت العذاب لأن الناس يتصورون أنها يهودية ، وفى الأتوبيس لم يتحـدث معها إلا قليلا لأنها لا تستـطيع أن تتحدث باللهجة المصرية الدارجة
.. ويقول :" كان حديثها بالعربية فيه لكنة الاجـانب .. وخشـيت إن تحدثنا بالفرنسية يتصور الناس أنها فرنسية فى جـو كان مشـحونا بالكراهية للفرنسيين .. فجلسنا صامتين ، وكنا نستمع إلى أحاديث الناس عن الحرب دون أن نعلق عليها ، وكان فى السيارة راديو .. يذيع الأخبار فى كل لحظة".
***
وتعرف الراوى فى قصة " الإشارة " على فتاة أجنبية قابلها وهو فى طريقه إلى بيته بضاحية مصر الجديدة وفى ليلة اليوم الثانى من المعركة فى القنال ، وكان يتناول معطفه وبندقيته ويتهيـأ للخروج للانضمام إلى زملائه فى الحرس الوطنى وجد الفتاة على الباب وتحمل حقيبتها ، فسر لأنها فكرت فى المجىء اليه لتؤنسه ، وقالت له :
"رأيت الناس ينظرون إلى فى الشارع بقوة .. فقلت لنفسى لعلهم تصوروا أننى يهودية .. لأننى لا أضع الصليب على صدرى .. وخفت .. وجريت اليك".
***
وفى ضاحية عين شمس والظلام ثقيلا والمدافع تدوى بشدة يقول الراوى فى قصة "سيدة وفنان" :
"كان رجال المقاومة الشعبية ببنادقهم وخوذاتهم يروحون ويغدون تحت البيت والمتاريس قائمة .. والخنادق الصغيرة محفورة فى الشـارع ، وأكياس الرمل على النواصى وتحت الشجر .. وكمنت الدبابات الكبيرة والمدافع السريعة الطلقات ، وكمن رجال القناصة الذين سيتصيدون جنود المظلات ..... والأنوار الكاشـفة تلحس السـماء .. وتضىء أعالى البيوت .. وكانت قوافل السيارات والدبابات تتحرك هناك قريبا منا فى الشارع الرئيسى متجهة إلى ميدان المعركة ..... كل شىء كان ينقلب فى الضاحية ويوحى بأننا فى قلب الميدان".
وفى ضاحية مصر الجديدة كان الضرب شديدا وتركز الضرب على المطارات ، وكانت الطائرات التى فيه عبارة عن هياكل خشبية ، مما يدل على علمهم الدقيق بموقعه .. ويقول الراوى :
"كان الظلام رهيبا .. والبيوت تبدو كالجبال السوداء والأشجار كالأشباح وكانت الرجل تنقطع فى المنطقة من الغروب .. ولا تسمع إلا صوت صفارة الإنذار وهمسات الجنود فى الخنادق القريبة .. وومضة سيجارة من حين إلى حين وقد يشق الظلام .. لسان طويل من الضوء .. وتظهر عربة من عربات السلاح وهى فى طريقها إلى خط النار ..
وكنت مكلفا بالمرور على ثلاثة شوارع رئيسية فى المنطقة .. ولمحت من بعيد عربة تتوقف .. قريبا من الصحراء .. وقدرت أنها تعطلت أو ضلت الطريق فاقتربت منها ووجدتها دبابة ضخمة ذاهبة الى الميدان وعرفت السائق الطريق فدار دورتين ثم اخذ الشارع الرئيسى . ومرت بعده قافلة من العربات والسيارات وهى تسرع الى الميدان ".
ودوت صفارة الإنذار ، وسمع صوت طائرات الأعداء فوقه ، فاستـدار ، وظهر له وهو يستـدير نورا انبعث لحظة من الوجهة الخلفية لسطح بيته ، فركز بصره ، ورأى بطارية ترسل أضواء إلى أعلا ، وبعد لحظات تأكد أنها إشارات ضوئية ترسل إلى طائرات الاعداء" ..
ويقول فى نهاية القصة :
"وفكرت سريعا فى الخائن الذى يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل .. وجاءنى الجواب فى الحال .. فقد كان هنـاك رجـل أجنبى يسكن فى حجرة على السطح ، ولا شك أنه جاسوس ولمت نفسى لأنى غفلت عن تنبيه السلطات إليه .
ورأيت أن اصعد العمارة بنفسى دون أن أحدث أى ضجة .. وأقبض عليه وهو فى غفلة منى متلبسا بجرمه ..
وعندما دخلت من الباب كان البواب نائما ، وخلعت نعلى قبل أن أصل إلى السطح ، وكان أزيز الطائرات فوقى يصم الآذان .. ولمحت شيئا فى دثار أسود .. يرتكز فى براعة وتخف على حافة السور ويرسل الأضواء .. الحمراء .. والزرقاء .. من شىء فى يده ..
واقتربت الطائرة منا .. والقت قنبلة رهيبة على المطار .. وجن جنونى فى هذه اللحظة وسددت بندقيتى إلى الشبـح .. وأطلقت .. رصاصة واحدة .. وسمعت صرخة مكتومة وهوى الجسم على الأرض .. ولما اقتربت محاذرا وتبينت وجهه فى الظلام ذعرت .. لقد رأيت هيلين وفى يدها جهاز إشارة يرسل كل الأضواء ، فنـزعته منها ووضعته فى جيبى .. وغطيت جسمها بمعطفى ..
وأحسست بحركة على السلم .. فجريت نازلا لأصرف الصاعدين .. فى هدوء قبل أن يدرك إنسان ما حدث .. وكان على أن ادفن عواطفى فى جوف الصحراء قبل أن تشرق الشمس ..".
***
ويحكى الراوى فى قصة "الماس" ، عن إحدى السيدات خرجت ذات ليلة من بيتها تجرى وعلى صدرها رضيعها وفى يدها حقيبة صغيرة بها حليها ومصاغها ، بعد أن سقطت قنبلة فى الشارع المجاور ، وتنبهت بعد أن وقفت فى مكان آمن ، أن حقيبتها سقطت منها دون أن تدرى وبعد أن انتهت الغارة عادت إلى بيتها ، وقبل أن تبلغ مسكنها ، وجدت خادم العمارة يصعد خلفها ويقدم إليها الحقيبة ، وحينما أعطته بعض النقود لأمانته ، رفض، فتعجبت ، وقالت :
"إن القنابل ألتى يلقيها الأعداء من طائراتهم غاصت فى الارض .. ونبشتها وأظهرت الجواهر الخفية .. أظهرت الماس الكامن فى اعماقها .. أظهرت الجـواهر النقيـة الكامنــة فى النفوس والتى كان يغطيـها التراب .."
وأعطى " أيزنهاور " اليهود فى إسرائيل لطمة قاسية ووضعهم فى حجمهم الطبيعى .
والذين كانوا بعيدين عن جو المعركة ، عن الأهل والوطن بآلاف الأميال ولايستطيعون أن يفعلوا شيئا ، وليس فى امكانهم أن يطلقوا رصاصة واحدة فى قلب الأعداء وقدر عليهم أن يكونوا سائحين يتنـزهون ووطنهم تشتعل فيه النار ، كانوا متلهفين على سماع أخبار بلادهم ، وسروا لما سمعوا خبر وقف القتال وأن الأعداء أخذوا يرحلون عن بور سعيد .
*****
المراجـع من قصـص محمـود البدوى التى استعان بها الكاتب :
1- قصة " فى الجبـهة " … نشرت بصحيـفة الشـعب 8111956
وأعيد نشرها بمجموعة الغزال فى المصيدة
2- قصة " تحت النيران " ... نشرت بصحيـفة الشعب فى 15111956
3- قصة " المــاس " … نشـرت بصحيـفة الشـعب فى 23111956 وأعيد نشرها بمجموعة الزلة الأولى
4- قصة " رصاصـة " … نشـرت بصحيـفة الشـعب فى 7121956 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين
5- قصة "عنـد البحـيرة "... نشرت بمجـلة الجيـل 1012\1956 وأعيد نشرها بمجموعة غرفة على السطح
6- قصة "النــور " ... نشرت بصحيـفة الشـعب 13121956
وأعيد نشرها بمجموعة قصص قصيرة
7- قصة " اللوحـــة "... نشرت بصحيـفة الشعب 20121956 وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان
8-قصة " الجــريح "... نشرت بصحيـفة الشـعب 2512\1956
وأعيد نشرها بمجموعة صقر الليل
9- قصة " العمــلاق " ... نشرت بصحيـفة الشـعب 1011957 وأعيد نشرها بمجموعة الغزال فى المصيدة
10- قصة " الإشــارة " ... نشرت بمجلة الرسالة الجديدة 171958 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين
11-قصة " سـيدة وفنـان " ... نشرت بصحيفة المسـاء 521960
وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان
12- قصة " المســافر " … نشرت بصحيـفة المسـاء 16121960
13- قصة " السفينة الذهبية " … نشرت بمجموعة السفينة الذهبية 1971 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
14- قصة " الفقـــير " … نشرت بصحيـفة مايو 24 و3111983 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص هونج كونج " من تقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق