السبت، ١٦ ديسمبر ٢٠٠٦

حريق القاهرة فى قصص محمود البدوى ص40




حريق القاهرة في
قصص محـمود البـدوى

بقلم : على عبد اللطيف


فى يوم الجمعة 25 يناير 1952 نشبت معـركة بين جنـود بلـوك النظام المصريين والإنجليز فى الإسماعيلية ، وفرغ السلاح من الجـنود وهم فى داخل مبنى المحافظة ، وحاصرت الدبابات الانجليزية المبنى ودكته على من فيه بالمدافع الثقيلة ومدافع الدبابات وقضت على الجنود البواسل الذين كانوا يدافعون عن الوطن .
وفى اليوم التالى ظهرت العناوين المثيرة فى صحف الصباح تحمل أنبـاء المعركة .
واشتمت رائحة الثورة فى الأنفاس المتحركة فى الطرقات ، وتحركت الجماهير وثارت ، وسارت المظاهرات ، وأدرك الناس أن هذا هو رد الشعب على العدوان .
وتدفقت الجماهير فى أكثر من مكان فى قلب القاهرة ، وتجمعت متحمسة وتصيح ، وهدرت الأصوات كهزيم الرعد ، وفى كل لحظة تزداد هياجا وغضبا ، وترتد عن الشارع الذى تسير فيه ، ثم تعود اليه .
كانت الجماهير تتحرك من تلقاء نفسها بفعل الغضب وحده ، تتحرك وهى ترعد ، ومن عيـونها يطل الشرر ، والأخـبار المثيرة عن معركة الأمس تصل إلى المسامع فتلهب الحماس وتزيد من الغضب .
وأخذت الجموع تجرى من مكان إلى مكان فى نفس الحى دون أن تدرى الغاية من العدو ، وتوقفت ، وأخـذت تسير فى صفوف متراصة تسد عين الشمس ، وأخذت الضوضاء ترتفع ويعلو ضجيجها .
وتدخـل المشردون والرقـاع والسـوقة ، ووجـد المخربـون والفوضويون فرصة مواتية لن تفلت من أيديهم ، فتركزوا فى القلب حيث المتاجر الكبيرة الغنية بما فيها ، فأشعلوا فيها النيران ، والغضب الأسود للجماهير جعلهم يؤدون مهمتهم بنجاح .
الأثاث يلقى من النـوافذ والشرفات ، وأبواب المتـاجر تتحطم ، ونفـر من الناس بمنظرهم الوحشى يتسللون كالسيل فى موج يدفعه موج إلى الداخـل يلتقطون المجـوهرات والساعات فى لمح البصر ، ويحشون بها جيوبهم ، ونهبت معظم الحوانيت فى منطقة وسط البلد وحرقت .
واندفعت الجماهير الغاضبة إلى داخل العمارات يبحثون فيها عن الإنجليز ، ومن يعترض طريقهم ، تسحقه أيديهم وتفتك به .
ويطل السكان من النوافذ فى رعب قاتل وهم يرون الجماهير وهم على حالهم من الغضب ولا عقل لهم فى ثورتهم .
وامتدت النيران إلى حى البنوك ، والبيوت والمتـاجر تشـتعل ، وأخشاب العمارات تطقطق ، والسماء تلفها سحب الدخان الكثيفة .
وامتلأت الطرقات بالهباب وبعروق الخشب المتساقطة ، والنوافذ المحطمة ، وقطع الزجاج المهشم ، فى شوارع عماد الدين وفؤاد وابراهيم وسليمان باشا وعبد الخالق ثروت . وضباب الدخان يملأ الجو ويصل إلى الخياشيم ويضيق به الصدور ، والشعر خلط بالهباب والغبار والعرق والناس تفر وتجرى مذعورة فى الشوارع ، والاذاعة تذيع أخبـار الحريق .
وأجراس عربات المطافىء تدوى وهى تسير ، والخراطيم تمتد على الأرض ، والسلالم الطويلة تصل إلى السقوف ، والماء يتدفق فى الشوارع ويغسل واجهات البيوت العالية .
بوغت البوليس بالحريق ونهب المتاجر فى كل مكان فى القاهرة الواسعة ، ولما تحرك بعد أن أفاق من وقع الصدمة ، كان الزمام قد فلت وهرب هؤلاء واختفوا بأسلابهم ، ووجد البوليس أكثر ما وجد فى الشارع الذين لا علاقة لهم بالسلب والنهب ، ووجد الذين يتفرجون على النـيران ، والعائدين بعـد العمـل إلى بيوتهم ، ويريد أن يثبت وجوده ، فحاجز الجميع واختلط الحابل بالنابل ، وكمن البوليس فى محطة القاهرة يراقب الداخل والخـارج منها ، وحاصرت فصيلة من الجنود الميدان وقبضت على من كان فيه . وأدخلوهم كقطعان الماشية إلى "قسم الأزبكية" وفيهم الشبان والشيوخ ولابسى الجلابيب ومرتدى البدل . وكانت غرفة الحجز لا تسعهم جميعا ، فقسموهم إلى نصفين ، ووضعوا الأول فى غرفة الحجز والثانى فى غرفة مجاورة كما اتفق ، والحـجرة لاتتسع لأكثر من عشرة اشخـاص ، وعلى البابين وقف الحراس بالسلاح .
كانت الفوضى ضـاربة أطنـابها مع كثرة الجـنود داخـل القسم وخارجه ، وأخذت التليفونات داخل القسم تدق باستمرار ، والمـأمور يستشير رئيسه فى استحالة بقاء هؤلاء فى القسم إلى الصباح ، وتلقى الإشارة بنقلهم إلى سجن مصر .
ولم يكن المحبوسـون داخـل القسم يعرفون شيئا عما يجرى فى الخارج ، وسرى الخوف فى نفوسهم ، فهم محبوسون كالجرزان دون عقوبة ودون سبب ، وأحسوا بالاختناق والعرق المتصبب رغم برد الشتاء ، وشل الخوف والرعب كل حركاتهم ، ومنهم من تبول على نفسه وهو واقف وقاعد ، وكان من بينهم من دخـل سجون الأقسام قبل ذلك ، فأخذ الأمر كله بعدم مبالاة واستهتار ، ولكنه أفاق لنفسه عندما سمع ممن حوله أن الأمر هذه المرة يختلف ، وأن الجريمة الجديدة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤبدة .
وحينما جاء الليل ، وأضيئت المصـابيح الكابيـة داخل القسم ، أخرجوهم إلى الصالة وتجمعوا كقطيع الغنم فى مكان واحد ضيق ، وتحرك لوريا ضخما حتى أصبح ملاصقا لبابه ، وكان حوله الجنود فى ملابسم السوداء ذات الأزرار النحاسية التى طمسها الدخان ، وبرز بعض الضباط من الحجرات الجانبية وبعض المخـبرين يلبسون البلاطى على الجلابيب ويغطون رؤوسهم بالطواقى والملاحـف ، يستـعرضون الوجوه فى الصالة ، وتحرك المحبوسون ببطء إلى اللورى وشحن اللورى الأول وتحرك إلى السجن ، وجاء اللورى الثانى .
كان الجمـهور فى الخـارج قد شعر بهؤلاء المقبوض عليهم فى الداخل ، فأخذ افراده يتجمعون خارج القسم وكثر عددهم ، وخشى الجنود أن يفلت منهم الزمام بعد تكاثر أهالى المحبوسين ، فيخرجون المحبوسين بالقوة ، ويصل الاضطراب إلى مداه ، فحركوا اللورى ، وجعلوه يقف بالطول ، ومؤخرته قريبة من سلم القسم ، وفى الظلام ما أمكن .
وأخذ البوليس يطارد أصحاب الأسماء المسجلة فى سجلاته والذين قبض عليهم من قبل فى المظاهرات ، فبعد كل حادث وكل مظاهرة تقفز الأسماء إلى رؤوسهم ويشدونهم كلما حلى لهم بعد كل حادث ولو لم يكن قد اشترك طول حياته فى أى عمل من أعمال التخريب أو حتى مجرد تكسير فانوس .
ومنع التجول فى الطرقات ، وقارب الليل من منتصفه ، والنيران مشتعلة ، والقاهرة تحترق ، والدخان يملأ جو السماء ويحجب كل الرؤى وانهارت البيوت وأكلتها النيران ، وأصبحت أكواما من التراب .
وفى صبـاح اليوم التالى تحولت النار إلى رماد ، وشعاع الشـمس الذهبى يطارد الدخان ، وخرجت الصحف بعناوين سوداء مثيرة ، بعد أن احترقت المدينة الجميلة .
******
المراجع من قصص محمود البدوى عن حريق القاهرة:
1- الهـــارب ... نشرت بمجــلة الجيــل 2461957
وأعيد نشرها بمجموعة الغزال فى المصيدة
2- مجموعـة الطوابع ... نشرت بصحيفة الشعب 2971957
وأعيد نشرها بمجموعة الزلة الأولى
3- الغضـــب ... نشرت بمجــلة القصــة يوليـو 1964
4- المــــارد ... نشرت بمجــلة الثقــافة مـايو 1980
وأعيد نشرها بمجموعة الغزال فى المصيدة .




ليست هناك تعليقات: