قصة القصة
المهاجر
كان الدكتور رمزى من خيار أصدقائى .. وكان نبيل النفس بشوشا فى وجه زبائنه ويتقن عمله إلى درجة التفرد .. ولم يكن سبب معرفتى به لأنه طيب .. وإنما لأنه أديب .. وأديب أصيل فحل من الأدباء الفحول الذين برزوا فى الدراسة والنقد والترجمة .. فى عصر النهضة الأدبية ودوران الفلك مع الأدب ورجاله ..
وكانت عيادته فى ضاحية من ضواحى القاهرة .. تتميز بالهدوء والجمال والنظافة ..
ولكنا كنا نجتمع كل مساء بعد أن يفرغ من العيادة .. فى مقهى " بور فؤاد " بشارع " فؤاد " .. وكان المقهى فى وقتها نظيفا وجميلا ومن أشهر المقاهى فى قلب القاهرة ..
وكنا نجلس هناك ساعة أو ساعتين مع صحبة طيبة من الأدباء الشبان المتفتحين للحياة والأدب .. نقلب فى المجلات والكتب .. التى كانت تصدر فى ذلك الوقت " الرسـالة " للزيات و " الثقافة " لأحمـد أمين .. والسياسة الأسبوعية .. أما الكتب فكانت عن العقاد .. وحسين هيـكل .. والمازنى .. وطه حسـين .. وتوفيق الحكيم .. وصادق الرافعى .. وسلامة موسى .. وعباس حافظ ..
دراسات وتراجم .. وكان المازنى قد أتحف جمهور القراء بأول أعماله الروائية " ابراهيم الكاتب " كمـا أن أهل الكهف لتوفيق الحكيم .. كانت تدور على كل الألسنة .. والاعجاب بها وصل إلى غايته ..
وكان أول من يأتى إلى المقهى .. الأستاذ هلال شتا .. وكان يعمل فى مجلس النواب .. ( وقد صرفته الوظيفة عن الأدب ) ثم الأستاذان ابراهيم طلعت .. و أحمد فتحى مرسى .. وكانا يتمرنان كمحامين فى مكتب الأستاذ الكبير عبد الرحمن البيلى الذى فعل فعلته العظيمة وغسل أوضار المعاشات عندما كان وزيرا للمالية .. وصان أعراض الأرامل والذرية من البنات .. بضربة بكر جاءت فى الصميم .. وذكرها له التاريخ .. وسيظل يذكرها ..
وكان عمله مثالا لمن يفكر فى عمله باخلاص ويريد أن يخدم وطنه حقا .. لا زيفا ولا تهريجا ..
وكان ابراهيم طلعت .. وأحمد فتحى مرسى .. من الصحبة المختارة لى فى مجلة الرسالة لأستاذنا الزيات ..
وكنا نذهب إلى مقر الرسالة بالعتبة فوق محل الفرنوانى .. قبل أن تنتقل نهائيا إلى عابدين .. ونجلس هناك بالساعات ..
وكان فتحى وطلعت ينشران فى المجلة الشعر .. وأنا أنشر القصة وأستاذنا الزيات يراجع وجوه بروفات المطبعة .. ويقرأ المقالات والقصص .. ولم يكن قد استعان بعد بالأستاذ عباس خضر .. ولا الأستاذ فهمى عبد اللطيف ..
وقد تعلمنا من الزيات .. الصبر والمثابرة .. واتقان العمل .. ومجابهة كل الصعاب ..
وطلعت الآن من كبار المحامين فى مدينة الإسكندرية .. وفتحى مرسى .. من كبار أعضاء مجلس الشورى .. وأنا أذكرهما فى الكثير مما أكتب من ذكريات ( وإن ندر لقاؤنا فى هذه الأيام ) لارتباطهما معى بمجلة الرسالة التى شققت بها طريق حياتى الأدبية وتوسعت فى المجال وسهلت لى الطريق وشجعتنى على الترجمة أولا ثم التأليف ثانيا ..
وكان الدكتور " رمزى " آخر من يأتى إلى المقهى .. ويعتذر لبعد المسافة بين مصر الجديدة وقلب القاهرة ..
وظلت الصحبة هكذا .. إلى أن تفرق الجميع بعد الحرب العالمية الثانية كل ذهب إلى وجهته ..
وأصبحت أنا والدكتور رمزى فى ضاحية واحدة .. فظل الاتصـال بيننا على حاله ..
وكنت أذهب للعلاج أو لأسمع رأيه فيما أنشر من قصص .. وكنت أعتز برأيه وأفخر به لأنه كان ناقدا دقيق الملاحظة ملهما واسع الاطلاع على كل تطورات الأدب وفنونه ..
وكبر سنه كما كبرت ووهن العظم منـا .. وأصبح يشكو من المرض .. كما أشكو .. فانقطع عن قيـادة سـيارته وأصبح يركب المترو .. إلى مكتبه فى الظاهر .. ويعمل فى العيادة .. صباحا فقط ولأنه أعزب .. فقد كان يتغدى فى العيادة قبل أن يذهب إلى البيت .. وكان يأتى له بالطعام غلام المطعم ..
وكان غلام المطعم يحمل صينية الطعام ويدخل من باب العيادة الذى يظل على الدوام مفتوحا .. لأن التمرجى روح .. فاما أن يجد الطبيب نائما على كرسيه بعد تعب العمل .. أو يجده صاحيا .. فيضع الصينية على المائدة .. ثم يعود ليأخذها فارغة ..
ولكثرة تردد الغلام على العيادة لاحظ كل شىء فيها .. لاحظ الدولاب الكبير فى غرفة الكشف الممتلىء بالأوراق والأدوية ..
كما لاحظ أن هذا الدولاب يظل على الدوام مفتوحا بمصراعيه .. إما لأن المفصلات تلفت أو لأن الطبيب لايريد أن يتعب نفسه فى كل مرة بالفتح والغلق ..
وذات مرة فتح عينيه مندهشا ومرعوبا وهو يرى الطبيب يضع فى هذا الدولاب لفة كبيرة من الأوراق المالية مطوية فى جريدة .. وظل وهو يذهب بصينية الطعام ويجىء يفكر فى هـذه اللفة من الأوراق المالية .. ويفكر بجنون حتى أصبح يدخل العيادة حابسا أقدامه كأنه طيف أو شبح .. ولا يرى أمام باصرته إلا هذه اللفة .. هذه اللفة تدور وتصرخ وتناديه .. خذها وأجر ..
ورسم له الشيطان الطريق ببراعة .. فعندما دخل وجد الطبيب نائما والسكون يخيم والصمت صمت القبور ..
وتحرك سريعا وفعل فعلته .. وجاءت القصة .. خير قصة ..
جاءت قصة " المهاجر " أحسن قصة .. لأنه اجتمع فيها مع الواقعية الصدق .. كما أنها مرت سريعة وهادئة وخلت تماما من كل افتعال ..
====================================
* نشرت قصة القصة فى مجلة القصة ـ العدد 42 ـ اكتوبر 1984
* نشرت قصة " المهاجر " فى صحيفة مايو 20/7/1981 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين "
====================================
المهاجر
كان الدكتور رمزى من خيار أصدقائى .. وكان نبيل النفس بشوشا فى وجه زبائنه ويتقن عمله إلى درجة التفرد .. ولم يكن سبب معرفتى به لأنه طيب .. وإنما لأنه أديب .. وأديب أصيل فحل من الأدباء الفحول الذين برزوا فى الدراسة والنقد والترجمة .. فى عصر النهضة الأدبية ودوران الفلك مع الأدب ورجاله ..
وكانت عيادته فى ضاحية من ضواحى القاهرة .. تتميز بالهدوء والجمال والنظافة ..
ولكنا كنا نجتمع كل مساء بعد أن يفرغ من العيادة .. فى مقهى " بور فؤاد " بشارع " فؤاد " .. وكان المقهى فى وقتها نظيفا وجميلا ومن أشهر المقاهى فى قلب القاهرة ..
وكنا نجلس هناك ساعة أو ساعتين مع صحبة طيبة من الأدباء الشبان المتفتحين للحياة والأدب .. نقلب فى المجلات والكتب .. التى كانت تصدر فى ذلك الوقت " الرسـالة " للزيات و " الثقافة " لأحمـد أمين .. والسياسة الأسبوعية .. أما الكتب فكانت عن العقاد .. وحسين هيـكل .. والمازنى .. وطه حسـين .. وتوفيق الحكيم .. وصادق الرافعى .. وسلامة موسى .. وعباس حافظ ..
دراسات وتراجم .. وكان المازنى قد أتحف جمهور القراء بأول أعماله الروائية " ابراهيم الكاتب " كمـا أن أهل الكهف لتوفيق الحكيم .. كانت تدور على كل الألسنة .. والاعجاب بها وصل إلى غايته ..
وكان أول من يأتى إلى المقهى .. الأستاذ هلال شتا .. وكان يعمل فى مجلس النواب .. ( وقد صرفته الوظيفة عن الأدب ) ثم الأستاذان ابراهيم طلعت .. و أحمد فتحى مرسى .. وكانا يتمرنان كمحامين فى مكتب الأستاذ الكبير عبد الرحمن البيلى الذى فعل فعلته العظيمة وغسل أوضار المعاشات عندما كان وزيرا للمالية .. وصان أعراض الأرامل والذرية من البنات .. بضربة بكر جاءت فى الصميم .. وذكرها له التاريخ .. وسيظل يذكرها ..
وكان عمله مثالا لمن يفكر فى عمله باخلاص ويريد أن يخدم وطنه حقا .. لا زيفا ولا تهريجا ..
وكان ابراهيم طلعت .. وأحمد فتحى مرسى .. من الصحبة المختارة لى فى مجلة الرسالة لأستاذنا الزيات ..
وكنا نذهب إلى مقر الرسالة بالعتبة فوق محل الفرنوانى .. قبل أن تنتقل نهائيا إلى عابدين .. ونجلس هناك بالساعات ..
وكان فتحى وطلعت ينشران فى المجلة الشعر .. وأنا أنشر القصة وأستاذنا الزيات يراجع وجوه بروفات المطبعة .. ويقرأ المقالات والقصص .. ولم يكن قد استعان بعد بالأستاذ عباس خضر .. ولا الأستاذ فهمى عبد اللطيف ..
وقد تعلمنا من الزيات .. الصبر والمثابرة .. واتقان العمل .. ومجابهة كل الصعاب ..
وطلعت الآن من كبار المحامين فى مدينة الإسكندرية .. وفتحى مرسى .. من كبار أعضاء مجلس الشورى .. وأنا أذكرهما فى الكثير مما أكتب من ذكريات ( وإن ندر لقاؤنا فى هذه الأيام ) لارتباطهما معى بمجلة الرسالة التى شققت بها طريق حياتى الأدبية وتوسعت فى المجال وسهلت لى الطريق وشجعتنى على الترجمة أولا ثم التأليف ثانيا ..
وكان الدكتور " رمزى " آخر من يأتى إلى المقهى .. ويعتذر لبعد المسافة بين مصر الجديدة وقلب القاهرة ..
وظلت الصحبة هكذا .. إلى أن تفرق الجميع بعد الحرب العالمية الثانية كل ذهب إلى وجهته ..
وأصبحت أنا والدكتور رمزى فى ضاحية واحدة .. فظل الاتصـال بيننا على حاله ..
وكنت أذهب للعلاج أو لأسمع رأيه فيما أنشر من قصص .. وكنت أعتز برأيه وأفخر به لأنه كان ناقدا دقيق الملاحظة ملهما واسع الاطلاع على كل تطورات الأدب وفنونه ..
وكبر سنه كما كبرت ووهن العظم منـا .. وأصبح يشكو من المرض .. كما أشكو .. فانقطع عن قيـادة سـيارته وأصبح يركب المترو .. إلى مكتبه فى الظاهر .. ويعمل فى العيادة .. صباحا فقط ولأنه أعزب .. فقد كان يتغدى فى العيادة قبل أن يذهب إلى البيت .. وكان يأتى له بالطعام غلام المطعم ..
وكان غلام المطعم يحمل صينية الطعام ويدخل من باب العيادة الذى يظل على الدوام مفتوحا .. لأن التمرجى روح .. فاما أن يجد الطبيب نائما على كرسيه بعد تعب العمل .. أو يجده صاحيا .. فيضع الصينية على المائدة .. ثم يعود ليأخذها فارغة ..
ولكثرة تردد الغلام على العيادة لاحظ كل شىء فيها .. لاحظ الدولاب الكبير فى غرفة الكشف الممتلىء بالأوراق والأدوية ..
كما لاحظ أن هذا الدولاب يظل على الدوام مفتوحا بمصراعيه .. إما لأن المفصلات تلفت أو لأن الطبيب لايريد أن يتعب نفسه فى كل مرة بالفتح والغلق ..
وذات مرة فتح عينيه مندهشا ومرعوبا وهو يرى الطبيب يضع فى هذا الدولاب لفة كبيرة من الأوراق المالية مطوية فى جريدة .. وظل وهو يذهب بصينية الطعام ويجىء يفكر فى هـذه اللفة من الأوراق المالية .. ويفكر بجنون حتى أصبح يدخل العيادة حابسا أقدامه كأنه طيف أو شبح .. ولا يرى أمام باصرته إلا هذه اللفة .. هذه اللفة تدور وتصرخ وتناديه .. خذها وأجر ..
ورسم له الشيطان الطريق ببراعة .. فعندما دخل وجد الطبيب نائما والسكون يخيم والصمت صمت القبور ..
وتحرك سريعا وفعل فعلته .. وجاءت القصة .. خير قصة ..
جاءت قصة " المهاجر " أحسن قصة .. لأنه اجتمع فيها مع الواقعية الصدق .. كما أنها مرت سريعة وهادئة وخلت تماما من كل افتعال ..
====================================
* نشرت قصة القصة فى مجلة القصة ـ العدد 42 ـ اكتوبر 1984
* نشرت قصة " المهاجر " فى صحيفة مايو 20/7/1981 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين "
====================================
قصة المهاجر منشورة على الرابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق