فهرس بالقصص المنشورة
رزق من السماء *
دمعــــــــــــــــة *
حارس البسـتان *
المجــــــــــداف *
رجل فى القطار *
الجبــــــــــــــار *
حـــارس القرية *
المشــــــــــلولة *
الشيخ عمـــران *
الأســـــــــــرار *
عــالم الأسرار *
ــــــــــــــــــــــــــــــ رزق من السماء
قصة محمود البدوى
خرج أحمد من البيت ومعه زوجته أمينة فى مساء يوم الجمعة الماضى لمشاهدة فيلم " الكونتيسة الحافية "..
وكان أحمد يحب أمينة زوجته ويصحبها معه إلى السينما وإلى الأوبرا وإلى حفلات الموسيقى الكلاسيكية وإلى معارض الفن .. وإلى كل ما يتصل بالثقافة العامة .. ليرفه عنها ويوسع مداركها ويجعلها أكثر ادراكا وفهما للحياة .
وكانا سعيدين كزوجين وقد رزقهما الله بغلام واحد جاء بعد يأس .. وكان فى سنته الأولى ذابلا وعليلا أبدا وميؤسا من حياته . فكانت الأم ترفع وجهها إلى السماء وتدعو له .
واقترب مولد النبى .. فنذرت له خروفا توزعه على الفقــراء فى كل مولد وشفى الغلام وعاش حتى دخل الروضة .
وكان والداه يحبانه حبا جما ويحبسان نفسيهما فى البيت لملاعبته ولايخرجان إلا بعد أن ينام .
كان لهما كل شىء فى الحياة ..
ومن سن الرابعة عرف الغلام أن الخروف الذى يذبح فى المولد هو خروفه ، فكان يذهب مع الخادمة ليوزع " اللحم " على الفقراء فى الحى بيتا .. بيتا .. ويشعر بسعادة تامة وبلذة إذا ركب حصانا حقيقيا إو صعد على بساط الريح ..
وأصبح الغلام يترقب المولد النبوى لأنه عيده .. فيذهب مع والده إلى سوق المطرية ويشترى الخروف .. ويربطه فى غرفة البواب ويقدم له الماء والعلف . ويجلس بجواره ينظر إليه بحنان ويمنع أطفال العمارة من ركوبه .. حتى تجىء ليلة المولد فينام فرحا يحلم بأمتع الأحلام ويستيقظ مع الفجر فيجد والده جالسا بجانب الراديو يستمع إلى ترتيل القرآن فى مسجد السيدة .. من الشيخ شعيشع .. والشيخ عبد الصمد ..
وفى الشروق يذبح الخروف وينقلب البيت إلى حركة مستمرة وفرح .
ولكن فى هذه السنة لم يذبح الخروف فى المولد كالعادة .. لأن الأسرة كانت فى أيام المولد فى الإسكندرية ..
وكان أحمد يود أن يشتريه ويوزعه على الفقراء بمجرد عودته .. ولكن مشاغل الحياة صرفته عن تنفيذ ما اعتزم عليه فنسى أو تعمد النسيان .
وخرج الزوجان من السينما .. وكانت الأتوبيسات مزدحمة فركبا " تكسى " إلى البيت .
وكانت الخادمة نائمة فى غرفة ابنهما لتؤنسه .. فلم تر أمينة ايقاظها وأخذت تعد العشاء .
وكان أحمد يلاحظ أن زوجته تصفو نفسها بعد هذه النزهة وتصبح مرحا طروبا .. وتنسى التوافه التى تشغل بال النساء .
وسألها وهى تخلع ملابس الخروج ..
ـ عجبك الفيلم ؟
ـ بديع .. بس كنا عاوزين نشوف الراجل ده شكله إيه .. اللى بيجر الكونتيسه إلى الوحل ..
وضحكت لتوهمه بأنها هازلة ولكنه كان يعرف أنها جادة وأنها تتكلم بلسان المرأة وشعورها الطبيعى .
ـ والحوار .. ما كنش فوق مستوى الجمهور ..؟
ـ أنت فاكر الجمهور رايح علشان يفهم الحوار ..؟
ـ أمال علشان آفا جاردنر ؟
ـ طبعا .. وكفاية يشوفها لابسه المايوه .. وطالعة من البحر .. الله .. الخاتم يا أحمد .. الخاتم ! .
ـ إيه .. مالك زعجتينى ..؟
ـ الخاتم .. مش فى صباعى .. سقط .. أنا عارفه النهارده الجمعة ولازم .. يحصل حاجة ..
ـ احنا مش فى الجمعة دلوقت .. دورى كويس وبلاش عصبية .. وان راح فداك ..
ـ كان فى صبـاعى وحاسه بيه لغاية ما نزلت من التاكسى ..
وأخذا يبحثان فى كل مكان فى البيت .. ونزل الزوج إلى السلم وبحث فى مدخل العمارة وعلى الرصيف فلم يعثر على شىء ..
واغرورقت عينا الزوجة بالدمع وأخذت تصيح :
ـ دا بدل الخروف .. اللى بخلت توزعه على الفقرا السنة دى .. أهو ضاع ثمنه مضروب فى ثلاثة علشان يعجبك ..
وأخذ أحمد يهدىء من روعها ولكنها نامت باكية .
***
وفى الصباح بحثت فى كل مكان عن الخاتم ولكن دون نتيجة .
وجلس الزوج فى الضحى يلاعب ابنه فى الشرفة ويستدفىء بشمس الشتاء ولمح وهو جالس رجلا عجوزا يزحف على الرصيف الآخر .. ثم رآه يعبر الطريق ويقترب من بيته .. وعندما اقترب لاحظ أنه يلبس ملابس بالية وفى حالة لاتوصف من التعاسة والفقر والجوع وكان يزحف زحفا وينظر إلى الأرض ليجد كسرة خبز .. ورآه أحمد ينحنى ويلتقط شيئا من الأرض ويرفع وجهه إلى السماء وينظر وقد غمره الفرح وهزه ..
كان هذا الشىء هو خاتم زوجته الضائع .
وهتف أحمد بالخادمة ليقول لها بأن تنزل وتأتى بالخاتم من الرجل قبل أن يبعد .
ولكن الخادمة كانت بعيدة مع سيدتها فى المطبخ فلم تسمع .. فكرر النداء .. وكان فى خلال ذلك ينظر إلى الرجل العجوز ويفكر فى مقدار ما يصيبه من خيبة الأمل والتعاسة .. عندما يأخذ منه هذا الخاتم .. رزقه الذى هبط عليه من السماء .. فكر فى السعادة التى يعيش فيها العجوز فى هذه اللحظة .. وقرر ألايسلبها منه .. وقال لنفسه إن الإنسان يعيش ليعطى السعادة للآخرين لاليأخذها منهم ..
وعندما جاءت الخادمة .. وسألته عما يطلب ..
قال لها فى هدوء :
ـ روحى هاتى البدلة من المكوجى ..
ولم يشعر بمثل هذه السعادة فى حياته ..
=================================
نشرت القصة فى كتاب " الجمال الحزين " لمحمود البدوى عام1962
رزق من السماء *
دمعــــــــــــــــة *
حارس البسـتان *
المجــــــــــداف *
رجل فى القطار *
الجبــــــــــــــار *
حـــارس القرية *
المشــــــــــلولة *
الشيخ عمـــران *
الأســـــــــــرار *
عــالم الأسرار *
ــــــــــــــــــــــــــــــ رزق من السماء
قصة محمود البدوى
خرج أحمد من البيت ومعه زوجته أمينة فى مساء يوم الجمعة الماضى لمشاهدة فيلم " الكونتيسة الحافية "..
وكان أحمد يحب أمينة زوجته ويصحبها معه إلى السينما وإلى الأوبرا وإلى حفلات الموسيقى الكلاسيكية وإلى معارض الفن .. وإلى كل ما يتصل بالثقافة العامة .. ليرفه عنها ويوسع مداركها ويجعلها أكثر ادراكا وفهما للحياة .
وكانا سعيدين كزوجين وقد رزقهما الله بغلام واحد جاء بعد يأس .. وكان فى سنته الأولى ذابلا وعليلا أبدا وميؤسا من حياته . فكانت الأم ترفع وجهها إلى السماء وتدعو له .
واقترب مولد النبى .. فنذرت له خروفا توزعه على الفقــراء فى كل مولد وشفى الغلام وعاش حتى دخل الروضة .
وكان والداه يحبانه حبا جما ويحبسان نفسيهما فى البيت لملاعبته ولايخرجان إلا بعد أن ينام .
كان لهما كل شىء فى الحياة ..
ومن سن الرابعة عرف الغلام أن الخروف الذى يذبح فى المولد هو خروفه ، فكان يذهب مع الخادمة ليوزع " اللحم " على الفقراء فى الحى بيتا .. بيتا .. ويشعر بسعادة تامة وبلذة إذا ركب حصانا حقيقيا إو صعد على بساط الريح ..
وأصبح الغلام يترقب المولد النبوى لأنه عيده .. فيذهب مع والده إلى سوق المطرية ويشترى الخروف .. ويربطه فى غرفة البواب ويقدم له الماء والعلف . ويجلس بجواره ينظر إليه بحنان ويمنع أطفال العمارة من ركوبه .. حتى تجىء ليلة المولد فينام فرحا يحلم بأمتع الأحلام ويستيقظ مع الفجر فيجد والده جالسا بجانب الراديو يستمع إلى ترتيل القرآن فى مسجد السيدة .. من الشيخ شعيشع .. والشيخ عبد الصمد ..
وفى الشروق يذبح الخروف وينقلب البيت إلى حركة مستمرة وفرح .
ولكن فى هذه السنة لم يذبح الخروف فى المولد كالعادة .. لأن الأسرة كانت فى أيام المولد فى الإسكندرية ..
وكان أحمد يود أن يشتريه ويوزعه على الفقراء بمجرد عودته .. ولكن مشاغل الحياة صرفته عن تنفيذ ما اعتزم عليه فنسى أو تعمد النسيان .
وخرج الزوجان من السينما .. وكانت الأتوبيسات مزدحمة فركبا " تكسى " إلى البيت .
وكانت الخادمة نائمة فى غرفة ابنهما لتؤنسه .. فلم تر أمينة ايقاظها وأخذت تعد العشاء .
وكان أحمد يلاحظ أن زوجته تصفو نفسها بعد هذه النزهة وتصبح مرحا طروبا .. وتنسى التوافه التى تشغل بال النساء .
وسألها وهى تخلع ملابس الخروج ..
ـ عجبك الفيلم ؟
ـ بديع .. بس كنا عاوزين نشوف الراجل ده شكله إيه .. اللى بيجر الكونتيسه إلى الوحل ..
وضحكت لتوهمه بأنها هازلة ولكنه كان يعرف أنها جادة وأنها تتكلم بلسان المرأة وشعورها الطبيعى .
ـ والحوار .. ما كنش فوق مستوى الجمهور ..؟
ـ أنت فاكر الجمهور رايح علشان يفهم الحوار ..؟
ـ أمال علشان آفا جاردنر ؟
ـ طبعا .. وكفاية يشوفها لابسه المايوه .. وطالعة من البحر .. الله .. الخاتم يا أحمد .. الخاتم ! .
ـ إيه .. مالك زعجتينى ..؟
ـ الخاتم .. مش فى صباعى .. سقط .. أنا عارفه النهارده الجمعة ولازم .. يحصل حاجة ..
ـ احنا مش فى الجمعة دلوقت .. دورى كويس وبلاش عصبية .. وان راح فداك ..
ـ كان فى صبـاعى وحاسه بيه لغاية ما نزلت من التاكسى ..
وأخذا يبحثان فى كل مكان فى البيت .. ونزل الزوج إلى السلم وبحث فى مدخل العمارة وعلى الرصيف فلم يعثر على شىء ..
واغرورقت عينا الزوجة بالدمع وأخذت تصيح :
ـ دا بدل الخروف .. اللى بخلت توزعه على الفقرا السنة دى .. أهو ضاع ثمنه مضروب فى ثلاثة علشان يعجبك ..
وأخذ أحمد يهدىء من روعها ولكنها نامت باكية .
***
وفى الصباح بحثت فى كل مكان عن الخاتم ولكن دون نتيجة .
وجلس الزوج فى الضحى يلاعب ابنه فى الشرفة ويستدفىء بشمس الشتاء ولمح وهو جالس رجلا عجوزا يزحف على الرصيف الآخر .. ثم رآه يعبر الطريق ويقترب من بيته .. وعندما اقترب لاحظ أنه يلبس ملابس بالية وفى حالة لاتوصف من التعاسة والفقر والجوع وكان يزحف زحفا وينظر إلى الأرض ليجد كسرة خبز .. ورآه أحمد ينحنى ويلتقط شيئا من الأرض ويرفع وجهه إلى السماء وينظر وقد غمره الفرح وهزه ..
كان هذا الشىء هو خاتم زوجته الضائع .
وهتف أحمد بالخادمة ليقول لها بأن تنزل وتأتى بالخاتم من الرجل قبل أن يبعد .
ولكن الخادمة كانت بعيدة مع سيدتها فى المطبخ فلم تسمع .. فكرر النداء .. وكان فى خلال ذلك ينظر إلى الرجل العجوز ويفكر فى مقدار ما يصيبه من خيبة الأمل والتعاسة .. عندما يأخذ منه هذا الخاتم .. رزقه الذى هبط عليه من السماء .. فكر فى السعادة التى يعيش فيها العجوز فى هذه اللحظة .. وقرر ألايسلبها منه .. وقال لنفسه إن الإنسان يعيش ليعطى السعادة للآخرين لاليأخذها منهم ..
وعندما جاءت الخادمة .. وسألته عما يطلب ..
قال لها فى هدوء :
ـ روحى هاتى البدلة من المكوجى ..
ولم يشعر بمثل هذه السعادة فى حياته ..
=================================
نشرت القصة فى كتاب " الجمال الحزين " لمحمود البدوى عام1962
نشرت القصة فى مجلة صوت الإسلام ـ العدد السابع 11 أغسطس 1935
دمعــــــة
قصة محمود البدوى
استيقظ بعد أن أفجر النهار ، تعس النفس ضيق الصدر موزع الخاطر مشتت الذهن ، والواقع أنه شعر فى ليلته الماضية بغير ما كان يتوقع ويقدر ..
فما احتواه البحر حتى اكتنفته الوحشة واعتراه الملل ، وراح يرزخ تحت أعباء هذا وينوء بحمله الثقيل عليه ، حتى كانت ليلته ليلاء ..
فما غمض له جفن ولا استقر به مضجع ، وطردت الوساوس عن ذهنه كل الصور الجميلة والأمانى العذبة التى طافت بمخيلته قبل أن يعد العدة للسفر ويأخذ أهبته للرحيل وحلت محلها أوهام جسمها له نوع من " الهستيريا " استقر فى رأسه الشهرين الأخيرين واستحوذ عليه بشكل عجيب .. ! حتى خشى مغبة هذا على نفسه ..
فاستشار طبيبا يثق فيه ، فحبب له هذا السفر ، فنـزل عند رغبته وسافر .. ! فلما أحس بما أحس به فى الليلة التى انقضت ، ورأى أن السفر انقلب نقمة لانعمة ، لعن هذا الطبيب فى سره الف مرة .. !! على أنه عزم على جلب السرور لنفسه بكل ما يملك من حول ..
فمشى وئيد الخطى إلى مقدم السفينة يستقبل شروق الشمس ، ويفتح صدره لهواء الصبح العليل ، وكانت الطبيعة مازالت راقدة فى حضن الكرى ، وخيم سكون رهيب تجلت معه أروع المناظر وأبدع الرؤى ..
وما عتم بعد ساعات من هذا ، أن حن للطبيعة وجنح إلى العزلة بحكم ميوله ورغباته والتذ لهذا ووجد أن الهم أخذ ينـزاح عن قلبه ، وأن العافية بدت تسرى إلى جسمه وتدب فى عظامه .. وكان إذا صفت نفسه وطابت يجلس على مقعد خشبى يقع فى ركن منعزل فى الجزء الأمامى من السفينة ، ويأخذ فى ترتيل القرآن بصوت شجى مؤثر وهو خاشع سادر ، وهنا يشعر بإحساس روحى جارف يغمر قلبه ويفيض على نفسه فيمعن فى القراءة حتى يغيب بكليته عن الوجود ..
***
كانت " مارلين " تستشعر فى كل آونة تسمع فيها هذا الصوت الشجى الساحر الهافى اليها من نافذة غرفتها ـ وكانت أول غرفة فى الجناح الأيمن ـ بإحساس لذيذ يتملك فؤادها ويستحوز على كيانها حتى كانت من فرط السرور ، تضع أذنها ملاصقة للنافذة علها تزداد من الصوت قربا ..
واستمرت تسمع هذا الصوت ثلاثة أيام متتالية فى وقت معين حتى كان صباح أحست فيه أن الصوت بلغ من الرقة والعذوبة مبلغا لامزيد بعده ..
فتسمعت وقد اضطرب جسمها واهتز واشتدت ضربات قلبها وتدافعت وتملكها احساس غامض وشعرت نحو الصوت بحنين بالغ لم تقو معه على البقاء فى غرفتها ..
فمشت إلى الباب وجذبت مصراعه بيد راعشة ، واجتازت الممر الضيق إلى ممشى السفينة الجانبى ، وهناك أرهفت سمعها بعد أن حبست أنفاسها ، فألفت الصوت آتيا من الأمام فتقدمت قليلا ثم جفلت وتراجعت .. وهنا ارتفع الصوت وازداد حلاوة ، فجمدت فى مكانها .. ما هذا .. ؟
هذا الصوت الساحر يناديها .. ! أجل هذا الذى نفذ إلى شغاف قلبها وحرك كل جارحة فى جسمها وأرسل الدمع من عينيها ، لابد أنه يناديها .. !
ومشت مسلوبة الإرادة سادرة البصر إلى الأمام ، وكان الصوت قد خفت ولكنه تنغم وازداد سحرا ، ورمت بصرها ، فألفت انسانا يجلس فى ركن منعزل على مقعد طويل ، فوقفت دقيقة تحرن ثم مالت على مقعد آخر وجلست بالقرب منه ، وكان وجهه إلى البحر فلم يحس بها ..
وانطلق هو يرتل فى صوت خافت
" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لانسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لما أنزلت إلىّ من خير فقير . فجاءته إحداهما تمشى على استحياء وقالت ..... "
وجلست تسائل نفسها :
ـ ما الذى يتغنى به ..؟ وما الذى يقوله .. ؟ بأى لغة يتكلم .. ؟
وقامت وتقدمت نحوه إلى أن وقفت أمامه ، فألفته شابا فى مقتبل العمر يضرب لونه إلى السمرة ويميل جسمه إلى النحافة ، وملامحه بعد ذلك عادية وليس فيه ما يبعث على استلفات النظر ، غير شعره الجثل الطويل الذى أرسل على غير نظام ..
وحاولت الكلام فجف ريقها ووقفت الكلمات فى حلقها .. وكان هو قد أخذها بنظرة ثم غضه وأطرق ، وتابع قراءته حتى فرغ من الآية ..
وتشجعت قليلا بعد أن صمت وقالت بالإنجليزية فى صوت خافت مرتعش :
ـ ما الذى تغنيه .. ؟
فرمقها بعينـه وقـد أربد وجهـه واضطرم وقالت لها عيناه :
ـ دعينى وحيدا
فلم يخذلها هذا وكررت :
ـ ما الذى تغنيه .. ؟
وظهر على وجهه عند هذا الاستياء والضجر ، فقد كان شديد المقت للمرأة وقال فى نفسه :
ـ أى شيطان رماك .. ؟ اليك عنى ..
ورفع وجهه إليها ثانية وتفرس فيها فرأى الطهر يطل من عينيها ويطفح بلون الأرجوان على خديها .. فأجاب بصوت خافت :
ـ ما كنت أغنى وانما أرتل القرآن ..
ـ القرآن ..
ومدت الألف ونغمت النون ..
ـ أجل ..
ـ أعربى أنت ..
ـ أجل ..
ـ ولكن صوتك جميل للغاية ..
ـ ذلك لأنى أتلو كلام الله ..
ـ كلام الله .. !
ـ أى نعم ..
ـ أممتع هو جدا ..
ـ إلى الحد الذى لايدركه العقل البشرى ..
ـ أيمكنك أن تترجم لى شيئا ..
ـ قليلا من المعنى ..
وانطلق يقص عليها جزءا كبيرا من صورة القصص وهى مأخوذة بحلاوة الحديث فائضة البشر طلقة المحيا ، ثم قالت فى صوت عذب :
ـ أصعب تعلم العربية .. ؟
ـ أبدا .. سهل جدا ..
ـ أيمكنك أن تعلمنى شيئا منها .. ؟
ـ أقبل هذا عن طيب خاطر ، ولكنا سنفترق بعد يومين ..!
ـ لنبدأ فيهما وسأستكمل الباقى بنفسى ..
ومضى يوم كامل وهما أحسن أصدقاء ، ثم أطل عليهما الدردنيل بشامخاته ..
***
ولاحت الآستانة فى الأصيل بمآذنها وقبابها ومساجدها وقصورها وهى قائمة على شط الماء كعرائسه ، ضاحكة مستبشرة وقد تغشى الأفق سحاب خفيف تلتقى به الشمس أو تهوى به الريح ..
وحلقت عصائب الطير تحيى الركب فى ايناس .. ! وخفت سرعة الباخرة لما خرجت من الميناء ثم القت مرساها حتى يجىء الربان التركى .. وأفلت الشمس وخيم على الوجود صمت عميق ..
وصعد وهى تتبعه درج السفينة الخشبى حتى وصلا الظهر فوقفا فى الممشى الأمامى وكان خاليا ، وارتفقا على الحاجز وصوبا عينيهما إلى البوسفور ، وكان قد أشرف برياضه وقصوره ووقفا سادرين مشدوهين من فرط الروعة المحيطة والجمال الشامل ..
ودوى صوت قوى قطع هذا الصمت العميق
الله اكبر الله اكبر
فحملقت فيه وكان غارقا عنها ذاهلا عن وجودها وحاولت أن تجره إلى الكلام بيد أنها رأت أن ما غشيه كان أعمق وأبلغ فصمتت .. وكانت يدها على مدى ذراع منه فحركتها وهى ترجف حتى قربت من يده قليلا ، ووجف قلبها فارتعدت مفاصلها من فرط الرهبة الشاملة ..
ووصل المؤذن عند :
أشهد أن محمدا
رسول الله
فجال فى عينيها الدمع وتحدر وقربت يدها من يده حتى لامستها ، وظلت على هذا دقيقة كاملة نسيت فيها الوجود كله ، وانتفض هو من حركة يدها وأبعدها عنه برفق ..
ولما فرغ المؤذن من آذان المغرب نظرت اليه بعين دامعة وقالت :
ـ ما الذى قاله .. ؟
ـ يؤذن للصلاة ..
وسأل وقد حول وجهه اليها ..
ـ ألا تعرفين شيئا عن الإسلام .. ؟
ـ طبعا لا .. ولكنى بدأت أعلم القليل .. وبدأت أحب الإسلام ..
وكانت تود أن تضيف " وأحبك أنت أيضا على أنها لم تجسر على هذا "
وقالت بعد فترة انقضت:
ـ سأستأذن من أمى وأخى وأهبط معك إلى أجمل المدائن فى الشرق ..
فأجابها باسما :
ـ أقبل هذا بصدر رحب ..
وعادت بعد مدة لابسة ثوبا داكنا تبدو عليه الحشمة والبساطة معا ، وابتدرته قائلة :
ـ ألا تود أن تغير حلتك .. ؟ ألا تنوى النـزول إلى المدينة الآن .. ؟
ـ لاأود النـزول الآن ، وانما بعد أن يهبط الناس وتفرغ السفينة ..
ـ ألا تحب الناس .. ؟ أتتضايق منهم .. ؟
ـ أجل ..
ـ وربما ستتضايق منى أيضا .. !
وأمعنت البصر فيه مستفسرة ، بيد أنه صمت ولم يقل شيئا ، وآلمها هذا كثيرا ..
***
وقامت من فراشها مبكرة جدا ومشت مرحة نشطة إلى غرفته وقرعتها قرعا خفيفا فلم يجاوبها أحد ، فانقلبت تدق الباب بشدة وقد تمشى فى مفاصلها الخوف واستولى عليها القلق ..
وسمعتها الوصيف فسعت إليها وقالت بلطف :
ـ السيد خرج ..
ـ إلى أين ..؟ إلى البهو الكبير .. ؟
ـ لاأدرى ..
فجرت وهى تلهث إلى المكان الذى اعتاد الجلوس فيه فلم تجده ، وكرت راجعة تهرول كالمخبولة وجازت البهو بسرعة ثم صعدت إلى السطح ، فألفته يجلس فى ركن منـزو ويرتل فى صوت خافت ..
ولما فرغ من القراءة استقبلها بوجهه وأشار إليها بأن تجلس ففعلت
وقالت :
ـ لمـاذا غـيـرت مـكان قراءتك .. ؟ .. ألا تود أن أسمع صوتك .. ؟
فصمت ثم نظر إليها فى عطف وقال :
ـ ألا ترغبين فى درس الآن قبل أن نزور أيا صوفيا ..؟
فأجابت وقد لمعت عيناها ..
ـ ما أحلى هذا عندى ..
***
وركبا الترام إلى أيا صوفيا ، وكانت الشمس قد ارتفعت وغمر نورها البسيطة ، واجتاز الترام كوبرى " غلطة " ثم دار فى عرجات وممرات ملتوية حتى استوى عند سور عال ، وهنا صعد طريقا منحدرا حتى وقف عند ميدان فسيح فنـزلا وجازاه إلى المسجد ..
ودخلا المسجد خاشعين ضارعين ، ولما توسطاه اتجه إلى القبلة وصلى ركعتين ..
ووقفت هى ترقبه فى اكبار واعظام ..
وبصرت عند القبلة باسم الله ورسوله
الله محمد
وسجد فسجدت ..
ولما فرغ من السجود فرغت ومدت يدها إليه وعينها مخضلة بالدمع فشد عليها فى عنف ..
***
وبعد شهر من هذا كان شاب وفتاة يدلفان إلى محطة بودابست ، وقد احتقب الشاب حقيبة صغيرة ووضع على ذراعه معطفا للسفر .. ! ومشى إلى لوحة مواعيد سفر القطر الحديدية ووقف عندها يتأمل ..
وقالت الفتاة :
ـ أود لو تسافر فى آخر قطار يقوم الليلة إلى بوخارست ..
ـ سأفعل هذا ..
ـ لدينا إذا أكثر من ثلاث ساعات نقضيها معا ..
وصمتت لحظة ثم أردفت :
ـ هيا إلى الدانوب ..
ـ الآن .. ؟
ـ أجل ..
ووقفا على الكوبرى صامتين وعيناهما إلى ماء الدانوب الأزرق الجميل ، ثم حولت وجهها إليه وقالت بصوت موسيقى فاتن :
ـ رتل بعض آيات من القرآن ..
ـ هنا ..؟
ـ أجل أرجوك .. !
فصمت برهة ثم قرأ
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون "
وسألت :
ـ متى أفهم معنى هذا الكلام ..
ـ بعد عام ..
ـ إذن فسأصبر عاما .. ؟
ـ أجل ..
ـ ستذكرنى .. ؟
ـ دائما ..
ـ وستكتب إلىّ ..
ـ كل يوم رسالة ..
فاستضحكت
ـ كل يوم إذا فلتكن بلغة القرآن ..
ـ أتحبينه .. ؟
ـ أكثر من كل شىء ..
فأخرج من جيبه مصحفا مذهبا صغيرا وقدمه إليها ..
ـ ليكن هذا كتذكار خالد ..
ـ سأضعه دائما عند قلبى ..
فأطرق يغالب انفعالا شديدا ..
***
ولما قربا من المحطة تخاذلت واشتدت ضربات قلبها وغشى عينيها مثل الضباب وبدا لها أن تتحامل على كتفه أو تستعين بساعده ، بيد أن إرادة قوية صرفتها عن هذا ، ووضعت يدها على المصحف فشعرت بقوة غريبة فتماسكت واشتدت ..
ولما تحرك القطار مد يده إليها وقال :
لا اله الا الله
محمد رسول الله
وشيعت القطار بعينيها حتى طواه الليل فى جوفه ثم مشت متثاقلة تهيم على وجهها فى الطرقات وهى شاردة ساهمة حتى الفت نفسها فى المكان الذى كانت فيه منذ ساعة ..
ووقفت حيث وقف ووضعت يدها حيث وضع يده ثم أخرجت المصحف وقبلته واهتز جسمها عند هذا وأرجف ، وندت عن عينها دمعة صافية امتـزجت بماء الدانوب الأزرق الجميل ..
=================================
نشرت فى مجلة صوت الإسلام ـ العدد السابع 11 أغسطس 1935
=================================
دمعــــــة
قصة محمود البدوى
استيقظ بعد أن أفجر النهار ، تعس النفس ضيق الصدر موزع الخاطر مشتت الذهن ، والواقع أنه شعر فى ليلته الماضية بغير ما كان يتوقع ويقدر ..
فما احتواه البحر حتى اكتنفته الوحشة واعتراه الملل ، وراح يرزخ تحت أعباء هذا وينوء بحمله الثقيل عليه ، حتى كانت ليلته ليلاء ..
فما غمض له جفن ولا استقر به مضجع ، وطردت الوساوس عن ذهنه كل الصور الجميلة والأمانى العذبة التى طافت بمخيلته قبل أن يعد العدة للسفر ويأخذ أهبته للرحيل وحلت محلها أوهام جسمها له نوع من " الهستيريا " استقر فى رأسه الشهرين الأخيرين واستحوذ عليه بشكل عجيب .. ! حتى خشى مغبة هذا على نفسه ..
فاستشار طبيبا يثق فيه ، فحبب له هذا السفر ، فنـزل عند رغبته وسافر .. ! فلما أحس بما أحس به فى الليلة التى انقضت ، ورأى أن السفر انقلب نقمة لانعمة ، لعن هذا الطبيب فى سره الف مرة .. !! على أنه عزم على جلب السرور لنفسه بكل ما يملك من حول ..
فمشى وئيد الخطى إلى مقدم السفينة يستقبل شروق الشمس ، ويفتح صدره لهواء الصبح العليل ، وكانت الطبيعة مازالت راقدة فى حضن الكرى ، وخيم سكون رهيب تجلت معه أروع المناظر وأبدع الرؤى ..
وما عتم بعد ساعات من هذا ، أن حن للطبيعة وجنح إلى العزلة بحكم ميوله ورغباته والتذ لهذا ووجد أن الهم أخذ ينـزاح عن قلبه ، وأن العافية بدت تسرى إلى جسمه وتدب فى عظامه .. وكان إذا صفت نفسه وطابت يجلس على مقعد خشبى يقع فى ركن منعزل فى الجزء الأمامى من السفينة ، ويأخذ فى ترتيل القرآن بصوت شجى مؤثر وهو خاشع سادر ، وهنا يشعر بإحساس روحى جارف يغمر قلبه ويفيض على نفسه فيمعن فى القراءة حتى يغيب بكليته عن الوجود ..
***
كانت " مارلين " تستشعر فى كل آونة تسمع فيها هذا الصوت الشجى الساحر الهافى اليها من نافذة غرفتها ـ وكانت أول غرفة فى الجناح الأيمن ـ بإحساس لذيذ يتملك فؤادها ويستحوز على كيانها حتى كانت من فرط السرور ، تضع أذنها ملاصقة للنافذة علها تزداد من الصوت قربا ..
واستمرت تسمع هذا الصوت ثلاثة أيام متتالية فى وقت معين حتى كان صباح أحست فيه أن الصوت بلغ من الرقة والعذوبة مبلغا لامزيد بعده ..
فتسمعت وقد اضطرب جسمها واهتز واشتدت ضربات قلبها وتدافعت وتملكها احساس غامض وشعرت نحو الصوت بحنين بالغ لم تقو معه على البقاء فى غرفتها ..
فمشت إلى الباب وجذبت مصراعه بيد راعشة ، واجتازت الممر الضيق إلى ممشى السفينة الجانبى ، وهناك أرهفت سمعها بعد أن حبست أنفاسها ، فألفت الصوت آتيا من الأمام فتقدمت قليلا ثم جفلت وتراجعت .. وهنا ارتفع الصوت وازداد حلاوة ، فجمدت فى مكانها .. ما هذا .. ؟
هذا الصوت الساحر يناديها .. ! أجل هذا الذى نفذ إلى شغاف قلبها وحرك كل جارحة فى جسمها وأرسل الدمع من عينيها ، لابد أنه يناديها .. !
ومشت مسلوبة الإرادة سادرة البصر إلى الأمام ، وكان الصوت قد خفت ولكنه تنغم وازداد سحرا ، ورمت بصرها ، فألفت انسانا يجلس فى ركن منعزل على مقعد طويل ، فوقفت دقيقة تحرن ثم مالت على مقعد آخر وجلست بالقرب منه ، وكان وجهه إلى البحر فلم يحس بها ..
وانطلق هو يرتل فى صوت خافت
" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لانسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لما أنزلت إلىّ من خير فقير . فجاءته إحداهما تمشى على استحياء وقالت ..... "
وجلست تسائل نفسها :
ـ ما الذى يتغنى به ..؟ وما الذى يقوله .. ؟ بأى لغة يتكلم .. ؟
وقامت وتقدمت نحوه إلى أن وقفت أمامه ، فألفته شابا فى مقتبل العمر يضرب لونه إلى السمرة ويميل جسمه إلى النحافة ، وملامحه بعد ذلك عادية وليس فيه ما يبعث على استلفات النظر ، غير شعره الجثل الطويل الذى أرسل على غير نظام ..
وحاولت الكلام فجف ريقها ووقفت الكلمات فى حلقها .. وكان هو قد أخذها بنظرة ثم غضه وأطرق ، وتابع قراءته حتى فرغ من الآية ..
وتشجعت قليلا بعد أن صمت وقالت بالإنجليزية فى صوت خافت مرتعش :
ـ ما الذى تغنيه .. ؟
فرمقها بعينـه وقـد أربد وجهـه واضطرم وقالت لها عيناه :
ـ دعينى وحيدا
فلم يخذلها هذا وكررت :
ـ ما الذى تغنيه .. ؟
وظهر على وجهه عند هذا الاستياء والضجر ، فقد كان شديد المقت للمرأة وقال فى نفسه :
ـ أى شيطان رماك .. ؟ اليك عنى ..
ورفع وجهه إليها ثانية وتفرس فيها فرأى الطهر يطل من عينيها ويطفح بلون الأرجوان على خديها .. فأجاب بصوت خافت :
ـ ما كنت أغنى وانما أرتل القرآن ..
ـ القرآن ..
ومدت الألف ونغمت النون ..
ـ أجل ..
ـ أعربى أنت ..
ـ أجل ..
ـ ولكن صوتك جميل للغاية ..
ـ ذلك لأنى أتلو كلام الله ..
ـ كلام الله .. !
ـ أى نعم ..
ـ أممتع هو جدا ..
ـ إلى الحد الذى لايدركه العقل البشرى ..
ـ أيمكنك أن تترجم لى شيئا ..
ـ قليلا من المعنى ..
وانطلق يقص عليها جزءا كبيرا من صورة القصص وهى مأخوذة بحلاوة الحديث فائضة البشر طلقة المحيا ، ثم قالت فى صوت عذب :
ـ أصعب تعلم العربية .. ؟
ـ أبدا .. سهل جدا ..
ـ أيمكنك أن تعلمنى شيئا منها .. ؟
ـ أقبل هذا عن طيب خاطر ، ولكنا سنفترق بعد يومين ..!
ـ لنبدأ فيهما وسأستكمل الباقى بنفسى ..
ومضى يوم كامل وهما أحسن أصدقاء ، ثم أطل عليهما الدردنيل بشامخاته ..
***
ولاحت الآستانة فى الأصيل بمآذنها وقبابها ومساجدها وقصورها وهى قائمة على شط الماء كعرائسه ، ضاحكة مستبشرة وقد تغشى الأفق سحاب خفيف تلتقى به الشمس أو تهوى به الريح ..
وحلقت عصائب الطير تحيى الركب فى ايناس .. ! وخفت سرعة الباخرة لما خرجت من الميناء ثم القت مرساها حتى يجىء الربان التركى .. وأفلت الشمس وخيم على الوجود صمت عميق ..
وصعد وهى تتبعه درج السفينة الخشبى حتى وصلا الظهر فوقفا فى الممشى الأمامى وكان خاليا ، وارتفقا على الحاجز وصوبا عينيهما إلى البوسفور ، وكان قد أشرف برياضه وقصوره ووقفا سادرين مشدوهين من فرط الروعة المحيطة والجمال الشامل ..
ودوى صوت قوى قطع هذا الصمت العميق
الله اكبر الله اكبر
فحملقت فيه وكان غارقا عنها ذاهلا عن وجودها وحاولت أن تجره إلى الكلام بيد أنها رأت أن ما غشيه كان أعمق وأبلغ فصمتت .. وكانت يدها على مدى ذراع منه فحركتها وهى ترجف حتى قربت من يده قليلا ، ووجف قلبها فارتعدت مفاصلها من فرط الرهبة الشاملة ..
ووصل المؤذن عند :
أشهد أن محمدا
رسول الله
فجال فى عينيها الدمع وتحدر وقربت يدها من يده حتى لامستها ، وظلت على هذا دقيقة كاملة نسيت فيها الوجود كله ، وانتفض هو من حركة يدها وأبعدها عنه برفق ..
ولما فرغ المؤذن من آذان المغرب نظرت اليه بعين دامعة وقالت :
ـ ما الذى قاله .. ؟
ـ يؤذن للصلاة ..
وسأل وقد حول وجهه اليها ..
ـ ألا تعرفين شيئا عن الإسلام .. ؟
ـ طبعا لا .. ولكنى بدأت أعلم القليل .. وبدأت أحب الإسلام ..
وكانت تود أن تضيف " وأحبك أنت أيضا على أنها لم تجسر على هذا "
وقالت بعد فترة انقضت:
ـ سأستأذن من أمى وأخى وأهبط معك إلى أجمل المدائن فى الشرق ..
فأجابها باسما :
ـ أقبل هذا بصدر رحب ..
وعادت بعد مدة لابسة ثوبا داكنا تبدو عليه الحشمة والبساطة معا ، وابتدرته قائلة :
ـ ألا تود أن تغير حلتك .. ؟ ألا تنوى النـزول إلى المدينة الآن .. ؟
ـ لاأود النـزول الآن ، وانما بعد أن يهبط الناس وتفرغ السفينة ..
ـ ألا تحب الناس .. ؟ أتتضايق منهم .. ؟
ـ أجل ..
ـ وربما ستتضايق منى أيضا .. !
وأمعنت البصر فيه مستفسرة ، بيد أنه صمت ولم يقل شيئا ، وآلمها هذا كثيرا ..
***
وقامت من فراشها مبكرة جدا ومشت مرحة نشطة إلى غرفته وقرعتها قرعا خفيفا فلم يجاوبها أحد ، فانقلبت تدق الباب بشدة وقد تمشى فى مفاصلها الخوف واستولى عليها القلق ..
وسمعتها الوصيف فسعت إليها وقالت بلطف :
ـ السيد خرج ..
ـ إلى أين ..؟ إلى البهو الكبير .. ؟
ـ لاأدرى ..
فجرت وهى تلهث إلى المكان الذى اعتاد الجلوس فيه فلم تجده ، وكرت راجعة تهرول كالمخبولة وجازت البهو بسرعة ثم صعدت إلى السطح ، فألفته يجلس فى ركن منـزو ويرتل فى صوت خافت ..
ولما فرغ من القراءة استقبلها بوجهه وأشار إليها بأن تجلس ففعلت
وقالت :
ـ لمـاذا غـيـرت مـكان قراءتك .. ؟ .. ألا تود أن أسمع صوتك .. ؟
فصمت ثم نظر إليها فى عطف وقال :
ـ ألا ترغبين فى درس الآن قبل أن نزور أيا صوفيا ..؟
فأجابت وقد لمعت عيناها ..
ـ ما أحلى هذا عندى ..
***
وركبا الترام إلى أيا صوفيا ، وكانت الشمس قد ارتفعت وغمر نورها البسيطة ، واجتاز الترام كوبرى " غلطة " ثم دار فى عرجات وممرات ملتوية حتى استوى عند سور عال ، وهنا صعد طريقا منحدرا حتى وقف عند ميدان فسيح فنـزلا وجازاه إلى المسجد ..
ودخلا المسجد خاشعين ضارعين ، ولما توسطاه اتجه إلى القبلة وصلى ركعتين ..
ووقفت هى ترقبه فى اكبار واعظام ..
وبصرت عند القبلة باسم الله ورسوله
الله محمد
وسجد فسجدت ..
ولما فرغ من السجود فرغت ومدت يدها إليه وعينها مخضلة بالدمع فشد عليها فى عنف ..
***
وبعد شهر من هذا كان شاب وفتاة يدلفان إلى محطة بودابست ، وقد احتقب الشاب حقيبة صغيرة ووضع على ذراعه معطفا للسفر .. ! ومشى إلى لوحة مواعيد سفر القطر الحديدية ووقف عندها يتأمل ..
وقالت الفتاة :
ـ أود لو تسافر فى آخر قطار يقوم الليلة إلى بوخارست ..
ـ سأفعل هذا ..
ـ لدينا إذا أكثر من ثلاث ساعات نقضيها معا ..
وصمتت لحظة ثم أردفت :
ـ هيا إلى الدانوب ..
ـ الآن .. ؟
ـ أجل ..
ووقفا على الكوبرى صامتين وعيناهما إلى ماء الدانوب الأزرق الجميل ، ثم حولت وجهها إليه وقالت بصوت موسيقى فاتن :
ـ رتل بعض آيات من القرآن ..
ـ هنا ..؟
ـ أجل أرجوك .. !
فصمت برهة ثم قرأ
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون "
وسألت :
ـ متى أفهم معنى هذا الكلام ..
ـ بعد عام ..
ـ إذن فسأصبر عاما .. ؟
ـ أجل ..
ـ ستذكرنى .. ؟
ـ دائما ..
ـ وستكتب إلىّ ..
ـ كل يوم رسالة ..
فاستضحكت
ـ كل يوم إذا فلتكن بلغة القرآن ..
ـ أتحبينه .. ؟
ـ أكثر من كل شىء ..
فأخرج من جيبه مصحفا مذهبا صغيرا وقدمه إليها ..
ـ ليكن هذا كتذكار خالد ..
ـ سأضعه دائما عند قلبى ..
فأطرق يغالب انفعالا شديدا ..
***
ولما قربا من المحطة تخاذلت واشتدت ضربات قلبها وغشى عينيها مثل الضباب وبدا لها أن تتحامل على كتفه أو تستعين بساعده ، بيد أن إرادة قوية صرفتها عن هذا ، ووضعت يدها على المصحف فشعرت بقوة غريبة فتماسكت واشتدت ..
ولما تحرك القطار مد يده إليها وقال :
لا اله الا الله
محمد رسول الله
وشيعت القطار بعينيها حتى طواه الليل فى جوفه ثم مشت متثاقلة تهيم على وجهها فى الطرقات وهى شاردة ساهمة حتى الفت نفسها فى المكان الذى كانت فيه منذ ساعة ..
ووقفت حيث وقف ووضعت يدها حيث وضع يده ثم أخرجت المصحف وقبلته واهتز جسمها عند هذا وأرجف ، وندت عن عينها دمعة صافية امتـزجت بماء الدانوب الأزرق الجميل ..
=================================
نشرت فى مجلة صوت الإسلام ـ العدد السابع 11 أغسطس 1935
=================================
من عالم الغيب
حارس البسـتان
قصة محمود البدوى
كان نعمان حارسا لبستان الشيخ سليمان ، وهو بستان كبير غنى بالثمر ومن أشهر البساتين فى الصعيد ، ومنذ ثلاثين سنة ونعمان يحرس هذا البستان .. ولم تحدث فى خلال هذه السنين الطوال حادثة سرقة واحدة ..
كانت المنطقة كلها تعيش آمنة .. كان مرهوبا قوى البطش .. وكان الفلاحون ينسجون حول بندقيته المقصوصة الأساطير .. يقولون أنها تفرش .. وتغرد .. وتنطلق منها النيران فى كل اتجاه .. مع أنه لم تطلق من هذه البندقية رصاصة واحدة ..
وكان الغلامان سعيد وعمار يصطادان البط فى البركة القريبة من البستان عندما انطلقت خرطوشة طائشة من بندقية سعيد فأصابت عمار فسقط والدم ينـزف منه ..
وأصاب الذعر سعيدا فجرى إلى نعمان خفير البستان وقص عليه ما حدث وهو يبكى ويرتعش ..
فهدأ نعمان من روعه وذهب معه إلى المصاب فحمله إلى داخل العريشة .. وأسعفه وربط الجرح وتركه هو وسعيد لزوجته لتعنى بالجريح ولا تدع سعيدا يخرج من البستان حتى لايتعرض لأى سوء ..
وكانت فلاحة قد بصرت بالمصاب وهو ملقى بجوار البـركة وسعيد يجرى مذعورا .. فطارت إلى أهله وأخبرتهم أن سعيدا قتل عمارا ..
وانتشر الخبر فى القرية بسرعة النار فى الهشيم .. وخرجت عائلة عمار وهى مسلحة بالبنادق ، والشوم ، والهراوات .. لتضرب أى إنسان تجده من عائلة سعيد ..
وكانت عائلة سعيد قليلة العدد وضعيفة بالنسبة لعائلة عمار .. فخشيت أن تفنى جميعا .. وهرب أفرادها فى المزارع ..
وأخذ رجال عمار يزحفون إلى مكان الحادث وفى عيونهم الشر والغضب والجهالة .. ورآهم نعمان خفير البستان وهم يتقدمون .. وأدرك أنهم يريدون قتل الغلام المسكين فتناول بندقيته وتحرك من مكانه حتى أصبح قريبا من الطريق الذى يأتى منه الرجال ..
وجلس هادئا وبندقيته ملقاة بجانبه وكانوا يتقدمون فى سواد يسد عين الشمس ، وعجب للجهالة وللغضب الذى يقلب الإنسان إلى شيطان مجنون .. وتساءل هل جاء كل هؤلاء ليقتلوا غلاما مسكينا لاعصبية له فى القرية ولا عائلة قوية تحميه .
وظل يراقبهم وهم مهرولون ويلوحون بالنبابيت .. ومنهم من كان يجرى فى قلب المزارع ويدوس على بساط البرسيم ..
وعندما لمحوه وهو جالس على رأس الطريق حبسوا من خطوهم إذ ندر أن يترك نعمان البستان فى ليل أو نهار ..
وكانوا كلما اقتربوا منه تمهلوا فى سيرهم حتى سمعوه يقول بصوت خافت وهو ينقر الأرض بعصا صغيرة من البوص ..
ـ لا أحد منكم يعبر الطريق ..
فتوقف الرجال واضطربوا ..
ـ إننا بعيدون عن البستان ونبحث عن سعيد .. لقد قتل عمار ..
ـ أعرف هذا .. ولا أحد منكم يتقدم خطوة ..
فسمر الرجال فى أماكنهم كأنما غشيتهم غاشية .. وقال أحدهم ليخفف من حدة الموقف ..
ـ إننا لانريد به شرا .. وسنسلمه للمركز ..
ـ ليضربه العساكر .. وليصنعوا منه مجرما فى يوم وليلة .. لا ..
ـ ولكنه قاتل ..
ـ انه لم يقتل .. والخرطوشة طائشة .. وهذا يحدث لكل إنسان ..
ـ وأين عمار ؟ .. نريد جثته ..
ـ سأحملها إليكم فى المساء .. والآن اذهبوا .. ومن بقى منكم بعد أن أعد العشرة فسأصرعه ..
وعجب الرجال لتخاذلهم وللضعف الذى طرأ عليهم فجأة وقد كانوا أشد ما يكونون حماسة للانتقام .. ماذا جرى لهم أيخذلهم رجل واحد .. ومنهم من هو أشد بطشا منه وقوة .. وسلاحهم أشد فتكا من سلاحه .. وليس معه سوى بندقية عتيقة مقصوصة .. ربطها بالسلك والدوبارة .. فما سر قوته وجبروته طوال هذه السنين ؟..
وقبل أن تغرب الشمس بصر الفلاحون بنعمان قادما على الجسر وهو يمشى ثابت الخطى بجوار حماره .. وقد وضع على كتفه بندقيته العتيقة .. وكان يركب على الحمار سعيد وعمار وكانا مازالا صديقين متحابين .. وقد احتضن سعيد عمارا ليمنعه من السقوط .. إذ كان الأخير بادى الاعياء ..
وقال أحد الفلاحين .. بعد أن مر عليهم نعمان :
" أرأيت أننا كنا معتدين وحمقى ؟ .. ولقد انتصر علينا هذا الرجل وحده .. لأنه كان مؤمنا .. يدافع عن غلام مسكين وقد ظل طول حياته .. يحمى الضعفاء .. ويسحق الشر .. أينما كان فأعطاه الله هذه القوة الرهيبة "
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية فى 1641955 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " لمحمود البدوى فى سنة 1961
حارس البسـتان
قصة محمود البدوى
كان نعمان حارسا لبستان الشيخ سليمان ، وهو بستان كبير غنى بالثمر ومن أشهر البساتين فى الصعيد ، ومنذ ثلاثين سنة ونعمان يحرس هذا البستان .. ولم تحدث فى خلال هذه السنين الطوال حادثة سرقة واحدة ..
كانت المنطقة كلها تعيش آمنة .. كان مرهوبا قوى البطش .. وكان الفلاحون ينسجون حول بندقيته المقصوصة الأساطير .. يقولون أنها تفرش .. وتغرد .. وتنطلق منها النيران فى كل اتجاه .. مع أنه لم تطلق من هذه البندقية رصاصة واحدة ..
وكان الغلامان سعيد وعمار يصطادان البط فى البركة القريبة من البستان عندما انطلقت خرطوشة طائشة من بندقية سعيد فأصابت عمار فسقط والدم ينـزف منه ..
وأصاب الذعر سعيدا فجرى إلى نعمان خفير البستان وقص عليه ما حدث وهو يبكى ويرتعش ..
فهدأ نعمان من روعه وذهب معه إلى المصاب فحمله إلى داخل العريشة .. وأسعفه وربط الجرح وتركه هو وسعيد لزوجته لتعنى بالجريح ولا تدع سعيدا يخرج من البستان حتى لايتعرض لأى سوء ..
وكانت فلاحة قد بصرت بالمصاب وهو ملقى بجوار البـركة وسعيد يجرى مذعورا .. فطارت إلى أهله وأخبرتهم أن سعيدا قتل عمارا ..
وانتشر الخبر فى القرية بسرعة النار فى الهشيم .. وخرجت عائلة عمار وهى مسلحة بالبنادق ، والشوم ، والهراوات .. لتضرب أى إنسان تجده من عائلة سعيد ..
وكانت عائلة سعيد قليلة العدد وضعيفة بالنسبة لعائلة عمار .. فخشيت أن تفنى جميعا .. وهرب أفرادها فى المزارع ..
وأخذ رجال عمار يزحفون إلى مكان الحادث وفى عيونهم الشر والغضب والجهالة .. ورآهم نعمان خفير البستان وهم يتقدمون .. وأدرك أنهم يريدون قتل الغلام المسكين فتناول بندقيته وتحرك من مكانه حتى أصبح قريبا من الطريق الذى يأتى منه الرجال ..
وجلس هادئا وبندقيته ملقاة بجانبه وكانوا يتقدمون فى سواد يسد عين الشمس ، وعجب للجهالة وللغضب الذى يقلب الإنسان إلى شيطان مجنون .. وتساءل هل جاء كل هؤلاء ليقتلوا غلاما مسكينا لاعصبية له فى القرية ولا عائلة قوية تحميه .
وظل يراقبهم وهم مهرولون ويلوحون بالنبابيت .. ومنهم من كان يجرى فى قلب المزارع ويدوس على بساط البرسيم ..
وعندما لمحوه وهو جالس على رأس الطريق حبسوا من خطوهم إذ ندر أن يترك نعمان البستان فى ليل أو نهار ..
وكانوا كلما اقتربوا منه تمهلوا فى سيرهم حتى سمعوه يقول بصوت خافت وهو ينقر الأرض بعصا صغيرة من البوص ..
ـ لا أحد منكم يعبر الطريق ..
فتوقف الرجال واضطربوا ..
ـ إننا بعيدون عن البستان ونبحث عن سعيد .. لقد قتل عمار ..
ـ أعرف هذا .. ولا أحد منكم يتقدم خطوة ..
فسمر الرجال فى أماكنهم كأنما غشيتهم غاشية .. وقال أحدهم ليخفف من حدة الموقف ..
ـ إننا لانريد به شرا .. وسنسلمه للمركز ..
ـ ليضربه العساكر .. وليصنعوا منه مجرما فى يوم وليلة .. لا ..
ـ ولكنه قاتل ..
ـ انه لم يقتل .. والخرطوشة طائشة .. وهذا يحدث لكل إنسان ..
ـ وأين عمار ؟ .. نريد جثته ..
ـ سأحملها إليكم فى المساء .. والآن اذهبوا .. ومن بقى منكم بعد أن أعد العشرة فسأصرعه ..
وعجب الرجال لتخاذلهم وللضعف الذى طرأ عليهم فجأة وقد كانوا أشد ما يكونون حماسة للانتقام .. ماذا جرى لهم أيخذلهم رجل واحد .. ومنهم من هو أشد بطشا منه وقوة .. وسلاحهم أشد فتكا من سلاحه .. وليس معه سوى بندقية عتيقة مقصوصة .. ربطها بالسلك والدوبارة .. فما سر قوته وجبروته طوال هذه السنين ؟..
وقبل أن تغرب الشمس بصر الفلاحون بنعمان قادما على الجسر وهو يمشى ثابت الخطى بجوار حماره .. وقد وضع على كتفه بندقيته العتيقة .. وكان يركب على الحمار سعيد وعمار وكانا مازالا صديقين متحابين .. وقد احتضن سعيد عمارا ليمنعه من السقوط .. إذ كان الأخير بادى الاعياء ..
وقال أحد الفلاحين .. بعد أن مر عليهم نعمان :
" أرأيت أننا كنا معتدين وحمقى ؟ .. ولقد انتصر علينا هذا الرجل وحده .. لأنه كان مؤمنا .. يدافع عن غلام مسكين وقد ظل طول حياته .. يحمى الضعفاء .. ويسحق الشر .. أينما كان فأعطاه الله هذه القوة الرهيبة "
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية فى 1641955 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " لمحمود البدوى فى سنة 1961
من عالم الغيب
المجداف
قصة محمود البدوى
ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..
وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .
ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .
ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى " المندرة " قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .
قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .
وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .
وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..
وسألت الملاح :
ـ إلى أين .. ياعم ..؟
ـ رايح .. الخزان
ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..
ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .
ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..
وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..
ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..
ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..
ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..
وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .
وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .
وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..
وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .
وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..
وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..
وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسـه سيـجارة .. وبعد أن أشعلها .. استراح ..
وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .
وقدرت أن حـاجـا جـديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .
وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..
وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
ـ أساعك .. ياعم ..؟
ـ كتر خيرك .. يا ابنى
وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..
وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
ـ خذنى معك .. يا عم ..
ـ إلى أين ذاهب ..؟
ـ ارمينى تحت الريح ..
وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..
وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..
فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .
فقال له الرجل :
ـ ارجع ..يا عجوز .. أحسن لك ..
واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..
ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..
ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..
ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..
ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..
أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..
ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..
وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..
***
ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .
وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟
انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..
وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..
وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القـاه مـن يده .. كأنه يستخف بنـا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..
وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..
ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..
وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..
وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..
ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..
وقالت الفتاة :
ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..
وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..
وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..
وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..
ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..
وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..
وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..
وقلنا له فى نفس واحد :
ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..
وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..
ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..
وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..
وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..
واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..
وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..
ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..
وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..
واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..
وسألته :
ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟
فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..
=================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 1121 فى 971959 وأعيد نشرها بمجموعة غرفة على السطح 1960 وبمجموعة قصص من الصعيد مكتبة مصر 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================
المجداف
قصة محمود البدوى
ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..
وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .
ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .
ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى " المندرة " قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .
قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .
وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .
وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..
وسألت الملاح :
ـ إلى أين .. ياعم ..؟
ـ رايح .. الخزان
ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..
ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .
ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..
وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..
ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..
ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..
ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..
وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .
وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .
وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..
وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .
وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..
وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..
وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسـه سيـجارة .. وبعد أن أشعلها .. استراح ..
وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .
وقدرت أن حـاجـا جـديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .
وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..
وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
ـ أساعك .. ياعم ..؟
ـ كتر خيرك .. يا ابنى
وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..
وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
ـ خذنى معك .. يا عم ..
ـ إلى أين ذاهب ..؟
ـ ارمينى تحت الريح ..
وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..
وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..
فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .
فقال له الرجل :
ـ ارجع ..يا عجوز .. أحسن لك ..
واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..
ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..
ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..
ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..
ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..
أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..
ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..
وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..
***
ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .
وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟
انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..
وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..
وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القـاه مـن يده .. كأنه يستخف بنـا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..
وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..
ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..
وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..
وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..
ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..
وقالت الفتاة :
ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..
وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..
وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..
وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..
ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..
وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..
وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..
وقلنا له فى نفس واحد :
ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..
وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..
ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..
وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..
وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..
واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..
وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..
ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..
وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..
واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..
وسألته :
ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟
فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..
=================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 1121 فى 971959 وأعيد نشرها بمجموعة غرفة على السطح 1960 وبمجموعة قصص من الصعيد مكتبة مصر 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================
من عالم الأسرار
رجل فى القطار
قصة محمود البدوى
كانت الليلة شديدة البرودة .. والريح تنذر بالعواصف .. وكان كازينو " فينوس " قد أغلق نوافذه وأبوابه وترك فقط الباب الصغير الموصل للطريق مفتوحا .. وكان هذا بابا عتيقا فأخذت الريح تهزه .. وانطلق كلما دفعته الريح يدور على مفصلاته ويحدث صريرا مزعجا ..
وجلس من وراء الباب بعض رواد الكازينو الدائمين متناثرين حول الموائد ولائذين بالأركان فبينهم من كان يشرب ويتعشى ويثرثر .. وبينهم من كان يحتسى الخمر فى صمت كئيب ..
وكان الضوء شاحبا وقليلا فى الخارج والداخل .. وأنفاس الدخان الحارة تذوب فى الهواء البارد .
وكان الجو كله يوحى بالكآبة والوحشة ورهبة الصمت وفى حوالى الساعة التاسعة من المساء .. دخلت من الباب الصغير امرأة شابة .. ترتدى معطفا سنجابيا .. ويبدو على وجهها الهزال والتعب ..
وكانت جميلة حلوة التقاطيع متناسقة القوام ولكنها غطت هذا القوام البديع .. وبدت محتشمة فى ملابسها .. ولاتبرز شيئا من مفاتن جسدها .. وكانت وهى تتحرك بين الموائد مضطربة وفى أشد حالات الخجل .. وكأنها تبحث بعينيها عن شخص ينقذها من دخولها وحدها إلى مثل هذا المكان ..
ثم جلست وحيدة .. منكمشة فى ركن قصى .. وما لبثت أن عـاودها الشرود فذهلـت عن نفسها .. ثم استـفاقـت على صـوت " الجرسون " يسألها عما تطلب ..
فحدقت فيه برهة .. وهى أشد ما تكون اضطرابا .. كانت جائعة جدا وتود أن تطلب شيئا تسد به رمقها .. ولكنها تخشى أن يكون ثمن الطعام أكثر من القروش الخمسة التى فى حقيبتها .. فنظرت إلى الجرسون فى حيرة .. كانت تشتهى طبقا من المكرونة أو شطيرة صغيرة بالجبن .. وخجلت من أن تسأله عن ثمنها .. وأخيرا طلبت فنجالا من الشاى .. وهى تنظر إلى وجه الرجل فى استكانة وكأنها ترجوه أن يبتعد عنها ويرحمها إذ أنها فى الواقع لم تكن ترغب فى أن تطلب أى شىء على الاطلاق ..
وبعد أن تركها " الجرسون " ومضى إلى داخل المحل .. جمعت سعاد أشتات نفسها المضطربة وأخذت تحدق بوعى فى المكان ..
ولاحظت رجلا متوسط العمر .. يسدد إليها النظر بقوة .. فاضطربت جدا ولكن انتباه الرجل إليها سرها فى الحقيقة .. وتذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبل وهى نازلة من الترام ..
وسرت لأنه تبعها فقد كانت فى الواقع تبحث عن شخص تلجأ إليه فى محنتها وفرحت لهذا الغرض .. وكانت قد جاءت إلى هذا الكازينو من قبل مرة واحدة مع صديقة لها .. وعرفت منها أن تحت رواقه يلتقى الرجال بالنساء .. ومن الرجال من يدفع بسخاء طيب فى سبيل ملذاته ..
وعندما سمعت سعاد هذه الكلمات لأول مرة امتعضت وخرجت تجر صاحبتها من الكازينو بسرعة وابتعدت عنه .. كانت رغم فقرها الشديد تخشى أن تتردى فى هذا الوحل أو يصل بها الحال إلى هذا الحضيض .. ولكن الكلمات ظلت مع ذلك فى أذنيها ..
فلما مرضت أختها زكية مرضا أشرف بها على الموت .. وعجزت عن أن تشترى لها حتى زجاجة صغيرة من الدواء خرجت إلى الطريق كالمجنونة وعادت إلى رأسها صورة الكازينو .. والكلمات التى سمعتها من قبل .. فاتجهت إليه مغمضة العينين ..
وكانت سعاد تشتغل من قبل فى منسج ثم طردت منه .. منذ أربعة أشهر دون سبب ظاهر .. ولم تستطع أن توفق إلى أى عمل وتستمر فى أدائه بعد ذلك .. فقد كان جمالها هو سبب نكبتها فى الحقيقة .. فقد طردت من قبل من مصنع العلب الكرتون .. ومن معمل للحلوى لنفس السبب .. كان كل من تعمل عنده ويدفع لها الأجر يود أن يخضعها لنزواته ويفترسها أولا كما يفترس الذئب الشاة .. فكانت تفزع من هذا .. وطارت على وجهها مذعورة وظلت محتفظة بصفائها .. ولكن الجوع حطمها .. ومرض أختها الطويل هز كيانها .. وكانت أصغر منها وهى عائلتها الوحيدة ..
فخرجت من البيت فى ليلة شديدة البرودة مظلمة .. وفى رأسها أن تفعل كل شىء ..
وعندما رأت هذا الرجل يلاحظها بنظراته سرت .. فقد كان هذا هو ما تطلبه وتسعى إليه .. وبعد أن حدق الرجل فى وجهها قليلا .. ولاحظ البسمة الخفيفة التى مرت على شفتيها والومضة التى فى عينيها .. اتخذ مجلسه فى مائدة ملاصقة لمائدتها ولكنه لم يحدثها بادىء ذى بدء بل ظل ينظر إليها طويلا ..
ثم التفت إليها وأخذ يحادثها ولاحظ بعد تبادل بضع كلمات معها أنها أشد اضطرابا مما كان يتوقع .. ومع ذلك صبـر على خجلها وظل يتبسط معها فى الحديث برقة وايناس ..
وكان " الجرسون " قد جاء فى تلك الآونة يحمل الشاى .. فطلب الرجل منه فى الحال عشاء دسما وكأسين من الخمر .. ولكن سعاد رفضت أن تشرب فشرب الرجل الكأسين .. وطلب الكأس الثالثة والرابعة وظل يشرب ..
وتعشت سعاد وملأت جوفها .. وظلت طول فترة العشاء تتفرس فى وجه الرجل .. تستوضح ملامحه .. كان مستطيل الوجه .. فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره ذا شارب صغير وعينين صغيرتين ولكنهما نفاذتان وكان صوته ناعما ملفوفا .. وفيه براعة ورقة من اعتاد التحدث مع النساء والتودد لهن ..
ومع أنه كان جذاب الملامح وحلو الحديث ولكن سعاد أحست بعد أن شبعت وملأت بطنها بشاعة ما هى مقبلة عليه .. وفكرت فى أن تترك الرجل .. وتخرج ..
ولكن كيف تتخلص منه بعد أن أطعمها من جوع .. وكيف تنسى أختها المريضة فى البيت .. ورجعت بفكرها إلى البيت وتصورت أختها وهى تموت دون علاج وظلت فى عذاب شديد .. وجعلتها سذاجتها تفكر فى أن تطلب من الرجل جنيها .. وتتركه على الباب ..
ولكن الرجل قطع عليها حبل التفكير فى الحال بأن خرج بها من الكازينو وركب معها سيارة أجرة من قلب المدينة إلى محطة كوبرى الليمون وعرفها فى الطريق أنه يقيم فى ضاحية عين شمس وكانت قد ذهبت إلى هذه الضاحية مرة واحدة منذ خمس سنوات فى زيارة سريعة وعابرة .. وأعجبت بها وراقها هدوءها ودفؤها فى الشتاء ..
وقد انشرح صدرها لأن الرجل يقيم هناك وستدخل بيته فى سكون بعيدا عن الأنظار وعن فضول الناس ..
وعندما جلست بجواره فى عربة القطار المكشوفة ذات المقاعد الجلدية مع جموع الركاب .. شعرت بالاطمئنان ولكن عندما بدأ الناس ينزلون من العربة ويتركونها فى مختلف المحطات .. أحست بالخوف ..
وكانت تصعد بصرها فى وجه الرجل وتراه يبتسم إليها فى وداعة فعادت تطمئن إليه ..
وقد نسيت فى رحلة القطار ودخانه ووجود الركاب معها .. ما هى مقدمة عليه .. فلما خف الركاب أحست بأنفاس الرجل بجوارها وبالخشب .. والمقاعد الفارغة .. خافت .. وارتعشت من مجرد التفكير فيما هى ذاهبة إليه ..
***
وقبل أن يقف القطار على محطة الزيتون ظهر فى ممر العربة .. رجل طويل القامة عظيم الهامة .. يرتدى معطفا من الصوف الثقيل ويضع على رأسه عمامة بيضاء .. وكانت ذقنه طويلة سوداء لامعة تتخللها شعيرات بيضاء .. وعيناه شديدتا البريق .. وحرك دفترا صغيرا فى يده ..
وأخذ يخطب فى الركاب بصوت جهورى ويحثهم على التبرع لبناء مسجد .. فى جهة الزيتون ..
وكان يتحدث ببلاغة مذهلة وتتدفق الكلمات من فمه كالسيل .. وأثرت الكلمات فى الموجودين جميعا فانهالت عليه التبرعات .. ومنهم من دفع ورقة بخمسة قروش وبعشرة قروش .. وخمسة وعشرين قرشا .. وبلغ التأثر من راكب بأن أخرج جنيها صحيحا وسلمه للخطيب وعيناه تفيضان بالدمع ..
وكان يفك للذين ليس معهم فكة .. ولا يترك راكبا دون أن يدفع ويتبرع ..
وبعد أن انتهى من ركاب العربة .. دفع النقود فى جيب معطفه .. ولاحظت سعاد مع كونه لم يترك راكبا فى العربة إلا وأخذ منه التبرع ولكنه ترك الرجل الذى معها عن عمد .. ولم يوجه إليه أى كلام .. ولكنه كان يلاحظها هى بنظراته القوية حتى شعرت بالخجل من نظراته وكأنه عرف لماذا تركب القطار فى صحبة هذا الرجل فاستحيت وانكمشت ..
وترك الرجل الضخم ذو العمامة هذه العربة .. ونفذ إلى العربة الأخرى ولكنه عاد .. بعد بضع دقائق .. إلى نفس العربة ومر بجوار سعاد بجسمه الضخم وقامته الفارعة .. وذقنه الطويلة ووجد مقعدا خاليا قريبا منها .. وفى الناحية الملاصقة للشباك .. فجلس عليه مسترخيا .. وقد بدا عليه التعب من الجهد الذى بذله .. ورأته بعد قليل يغمض عينيه وجعلته هزات القطار الرتيبة ينام فعلا ..
***
وكان الرجل الذى يرافق سعاد قد تعب من الخمر .. فمال برأسه على صدره .. فانتهزت سعاد هذه الفرصة وأخذت تلاحظ الرجل الآخر جامع التبرعات وقد أعجبها شكله وهندامه وقوة البريق الذى فى عينيه ورأت ورقة مالية تطل من جيب معطفة .. فاضطرب قلبها ..
وطاف برأسها خاطر سريع .. دفعته عنها بقوة ولكنه عاد يسيطر عليها ووجدت نفسها تنهض من مقعدها بخفة وتتجه إلى دورة المياه ..
ومرت بجوار الرجل عن قرب وتحققت من نومه .. ورأت الورقة المالية .. متدلية بأطرافها .. فزاد اضطرابها .. ومشت حابسة صوت أقدامها .. وهى تحدق فى كل ما حولها .. فوجدت المكان خاليا .. وهناك ثلاثة ركاب فى الناحية الأخرى من العربة .. ولا أحد بجوار الرجل النائم ..
وذهبت إلى دورة المياه سريعا ثم عادت فوجدت الرجل الضخم جامع التبرعات نائما وحده على مقعده والورقة لاتزال تطل من جيب معطفه ..
وأحست بالرهبة وبلسعة شديدة فى أطراف أناملها وهى تمد يدها سريعا وتتناول الورقة المالية وطوتها فى لمح البصر فى صدرها ..
وكانت ورقة بجنيه كامل ..
وظلت فى مكانها شاردة إلى أن أحست بالقطار يهدىء من سرعته ويقف على محطة المطرية فاندفعت بسرعة من الباب .. ونزلت من القطار إلى المحطة ..
وبعد دقيقتين ركبت القطار المضاد الذاهب إلى القاهرة ..
***
وقبل أن ينتهى الإسبوع .. سمعت سعاد من جيرانها فى البيت الحديث عن رجل سفاح نشرت صورته فى جريدة الصباح يتصيد النساء الوحيدات من الأمكنة العامة ودور السينما ويذهب بهن إلى بيته فى ضاحية عين شمس .. وبعد أن ينال منهن وطره .. يقتلهن ويدفنهن فى الرمال ..
وانتفضت سعاد لما سمعت .. عين شمس .. وتطلعت إلى صورة الرجل فى الجريدة .. ولما رأتها صرخت .. انه نفس الرجل الذى صحبها .. وهربت منه فى تلك الليلة ..
***
وتزوجت سعاد .. وسكنت فى خط المرج .. وكانت فى كل مرة تركب فيها القطار .. تتمنى أن تلتقى بالرجل الضخم الذى أخذت من جيبه الجنيه .. والذى أنقذها من الموت والعار .. لترد له ما أخذته وتشكره من قلب بتول .. ولكنها لم تلتق به بعد ذلك أبدا .. وصور لها خيالها وسذاجتها أن الرجل لم يكن بشرا وانما هو ملاك هبط عليها فى تلك اللحظة من السماء ..
=================================
نشرت فى صحيفة المساء بالعدد 1551 بتاريخ 2011961 وأعيد نشرها بمجموعة " عذراء ووحش " عام 1963
=================================
الجبار
قصة محمود البدوى
فى ليلة مظلمة من ليالى الشتاء ، فكر بعض اللصوص الأذكياء فى مغامرة كبرى ليس لها ضريب فى التاريخ ، فكروا فى سرقة نجفة لاتقدر بثمن موضوعة فى مكان آمن .
وهى تحفة كبيرة تتلألأ بالثريات والقناديل ، ومدلاة بعقود من الكريستال، ومزدانة بحبات من الزمرد والياقوت والعقيق والمرجان .
وتتدلى شامخة فى زهو كل نادر فى الوجود ، تتدلى من قبة مسجد كبير من مساجد السلاطين .
وعندما تضاء هذه التحفة بعد الغروب ويغمر المسجد الضياء ، ويهب نسيم الليل ، تتراقص ثرياتها ، وتتماوج قناديلها ، ويمتزج النور الأزرق ، بالأصفر والأحمر ، ولون العناب .
ويسجد المصلون فى النور ، وهم يسبحون لله العلى القدير الذى خلق الإنسان .. فصنع بيده مثل هذا الجمال الفتان .
وفى ساحة المسجد سمع صوت الشيخ رفعت يتردد فى جنباته من المذياع ..
ورتل الشيخ عبد الباسط .. وشعيشع .. والمنشاوى القرآن فى صلاة الجمعة .
كما أنشد الشيخ طه الفشنى التواشيح .
وتحت هذه النجفة جلس الطلبة يراجعون دروسهم .. وقرأ المصلون القرآن واستراح أهل الحى يستنشقون الهواء النقى المصفى فى ليالى الصيف الجميلة .
وكان المسجد على رحابة صحنه ، واتساع أرجائه قليل الرواد والمصلين فى الليل والنهار .. لأنه يرتفع عن الطريق بدرجات عالية .. ولأنه يقع فى منطقة تكثر فيها المساجد ، كما أنه يغلق أبوابه بعد صلاة العشاء بنصف ساعة .
وبعدها يخيم السكون التام ، والهدوء المطلق على الحى بأجمعه .
وفى الشتاء القارس يتحرك تيار الهواء بعنف تحت جدرانه العالية ، ويصبح كحد السيف يقطع الرقاب .
ويقوم على خدمة المسجد ، وهو فى الوقت عينه حارسه فى الليل .. عجوز مشلول كان يرقد بعد صلاة العشاء فى قاعة منعزلة تقع فى الزاوية الغربية من المسجد .. وبابها على الباب الكبير ليسمع المشلول وهو راقد ويرى ..
وقد ظل هذا العجوز المشلول يخدم فى هذا المسجد قرابة خمسين سنة .. خدمه فى صباه وشبابه .. ويافع رجولته .. فلما انشل فى شيخوخته أشفق عليه انسان طيب ممن بيدهم الأمر .. وأشر على أوراقه بأن يبقى خادما للمسجد ما دام حيا .
وعاش العجوز يتنفس من هواء المسجد .. فأصبح قطعة منه .
وكان يعرف كل شبر فى المسجد .. وكل حجر ، وكل عامود ، وكل سجادة وتحفة ..
وقبل شلله كان يتحرك فى نشاط وقوة .. ويدور على زوايا المسجد ومحرابه .. ثم يغلق الباب .
وبعد أن انشل عينوا له صبيا يأتيه بالطعام والشراب ، ويتحامل عليه إلى دورة المياه .
ويبقى الصبى معه إلى ما بعد صلاة العشاء ، ثم يغلق الباب ويترك العجوز وحده إلى الصباح .
دخل اللصوص الثلاثة المسجد فى أوقات الصلاة .. وشاهدوا بأعينهم كل ما هو فى حاجة إلى معرفته .. عرفوا فى أى شىء تتعلق النجفة .. ومكان السلم الطويل .. ومتى يغلق الباب الضخم ومتى يفتح .. وفى أى ساعة من ساعات الليل يبقى العجوز وحده .. ومتى يدخل حجرته لينام وهو آمن .. عرفوا كل شىء .. ورسموا الخطة الجهنمية بإحكام لاثغرة فيه .
وكان من تدبيرهم الشيطانى أن يرفعوا النجفة المخطوفة ! بخطاف يوضع فى السقف ، ويضعوا فى مكانها فى نفس الليلة نجفة أخرى عادية يشترونها بجنيهات لاتزيد على المائة ..
واشتروها فعلا وأعدوها للمغامرة .
وكان لابد من وجود الكهربائى الفنى الذى يخلع هذه النجفة النادرة دون خدش ، ودون أن تسقط مرة واحدة .. ثم يضع فى مكانها النجفة الزائفة .
ووجدوا المشقة فى الحصول على هذا الشخص ، فإن مجرد ذكر المكان ولو على سبيل التعمية والتضليل .. كان يرعش العامل ويرعبه .
وأخيرا وبعد يأسهم ممن أغروه بالمال .. عثروا على من هددوه بالقتل إن لم يرضخ لمشيئتهم ..
وأخذوه فعاين كل شىء فى الداخل على الطبيعة ..
وبلغ منهم السرور مبلغه ، لما قال لهم أن العملية ستتم فى يسر ، وفى وقت أقل مما قدروه بحسابهم .
وفى الليلة الظلماء .. تحرك أربعة فى سيارة ومعهم نجفة كبيرة وعدد وحبال وبكر ..
وتحت جدار المسجد صعد اثنان منهم وصليا العشاء مع المصلين .
وبقى اثنان مع النجفة الزائفة فى العربة .. حتى تأتيهما الإشارة .
وبعد أن خرج المصلون من المسجد .. وأغلق الباب وخيم الظلام .. تحرك من فى العربة .. وصعدا السلالم .. وفتح لهما رفاقهما الباب ثم أغلقوه ..
وعلى ضوء مصباح واحد .. رفع السلم وصعد العامل الفنى .. وأخذ يدور ببصره فى سقف المسجد ، وقد رأى كل الثريات تدور مع عينيه .. والسلم الواقف عليه يروح ويجىء ويتطوح ..
وأحس بالعرق الغزير وبرعشة .. وبمثل الكلابة تدور على عنقه فسقط ما فى يده .. وصرخ .. وأخذ يهبط السلم كما صعد وهو يرتعش .. فمه يرغى ويزبد بمثل الحمم .
ولكمه أحد الأذكياء ليجعله يفيق من غشيته ، ودفعه أمامه ليصعد السلم مرة أخرى ..
فصعد العامل مستسلما صاغرا ، واللص وراءه وفى يده العدد ..
وأحس خادم المسجد المشلول بهم وهو فى قاعته الصغيرة .. وسمع الصرخة .. ففتح عينيه وحدق .. وشاهد السلم ومن يصعد فوقه .. فأصابه الفزع من هول المنظر .. إن ما يجرى أمامه لم يخطر بباله ولابال أحد من البشر .
وكان الاثنان اللذان فوق السلم قد صعدا إلى قمته .. وهناك دارت بهما الأرض ، وشعرا بالسلم يتطوح كالمرجيحة ، وهما جزء من أخشابه .. فلم يقويا على الحركة وتخشبا فيه .
وأخذ المشلول ينظر إلى من على السلم ، ومن تحته فى فزع ، وهو عاجز عن الحركة ، وغاب عنه أنه لايستطيع أن يفعل شيئا .. وكلما رأى حركاتهم ، وأيديهم ترتفع إلى أعلى ، خيل إليه أن أحدهم قد اقترب من النجفة وتجاسر على لمسها وفكها ، فاحتدم غيظه وانفجر غضبه .. وألفى نفسه من هول المنظر الذى أمامه يقف على قدميه ويتحرك ..
وروع اللصوص الأذكياء بالعجوز المشلول ينهض على قدميه ويصيح فيهم بصوت يرعد :
ـ لم يبق إلا المسجد .. يا أوغاد ..
وتضخم جسم المشلول فى نظرهم ، وأصبح ماردا جبارا فى طول السقف ، وعرض عشرة من الرجال ..
وصاح أحدهم عندما رآه هكذا ..
ـ المشلول .. الجبار ..
وسقط الذى فوق أعلى درجات السلم مفزوعا بين الموت والحياة ..
وحملوه سريعا وخرجوا فى الظلام ..
وفى صلاة الفجر صعد الذى كان مشلولا إلى المئذنة وإذن ..
وما عرف إنسان قصته فقد طواها الزمان ..
=================================
نشرت بمجلة الثقافة ـ العدد 19 فى أبريل 1975 وأعيد نشرها بمجموعة " الباب الآخر " 1977
=================================
قصة محمود البدوى
فى ليلة مظلمة من ليالى الشتاء ، فكر بعض اللصوص الأذكياء فى مغامرة كبرى ليس لها ضريب فى التاريخ ، فكروا فى سرقة نجفة لاتقدر بثمن موضوعة فى مكان آمن .
وهى تحفة كبيرة تتلألأ بالثريات والقناديل ، ومدلاة بعقود من الكريستال، ومزدانة بحبات من الزمرد والياقوت والعقيق والمرجان .
وتتدلى شامخة فى زهو كل نادر فى الوجود ، تتدلى من قبة مسجد كبير من مساجد السلاطين .
وعندما تضاء هذه التحفة بعد الغروب ويغمر المسجد الضياء ، ويهب نسيم الليل ، تتراقص ثرياتها ، وتتماوج قناديلها ، ويمتزج النور الأزرق ، بالأصفر والأحمر ، ولون العناب .
ويسجد المصلون فى النور ، وهم يسبحون لله العلى القدير الذى خلق الإنسان .. فصنع بيده مثل هذا الجمال الفتان .
وفى ساحة المسجد سمع صوت الشيخ رفعت يتردد فى جنباته من المذياع ..
ورتل الشيخ عبد الباسط .. وشعيشع .. والمنشاوى القرآن فى صلاة الجمعة .
كما أنشد الشيخ طه الفشنى التواشيح .
وتحت هذه النجفة جلس الطلبة يراجعون دروسهم .. وقرأ المصلون القرآن واستراح أهل الحى يستنشقون الهواء النقى المصفى فى ليالى الصيف الجميلة .
وكان المسجد على رحابة صحنه ، واتساع أرجائه قليل الرواد والمصلين فى الليل والنهار .. لأنه يرتفع عن الطريق بدرجات عالية .. ولأنه يقع فى منطقة تكثر فيها المساجد ، كما أنه يغلق أبوابه بعد صلاة العشاء بنصف ساعة .
وبعدها يخيم السكون التام ، والهدوء المطلق على الحى بأجمعه .
وفى الشتاء القارس يتحرك تيار الهواء بعنف تحت جدرانه العالية ، ويصبح كحد السيف يقطع الرقاب .
ويقوم على خدمة المسجد ، وهو فى الوقت عينه حارسه فى الليل .. عجوز مشلول كان يرقد بعد صلاة العشاء فى قاعة منعزلة تقع فى الزاوية الغربية من المسجد .. وبابها على الباب الكبير ليسمع المشلول وهو راقد ويرى ..
وقد ظل هذا العجوز المشلول يخدم فى هذا المسجد قرابة خمسين سنة .. خدمه فى صباه وشبابه .. ويافع رجولته .. فلما انشل فى شيخوخته أشفق عليه انسان طيب ممن بيدهم الأمر .. وأشر على أوراقه بأن يبقى خادما للمسجد ما دام حيا .
وعاش العجوز يتنفس من هواء المسجد .. فأصبح قطعة منه .
وكان يعرف كل شبر فى المسجد .. وكل حجر ، وكل عامود ، وكل سجادة وتحفة ..
وقبل شلله كان يتحرك فى نشاط وقوة .. ويدور على زوايا المسجد ومحرابه .. ثم يغلق الباب .
وبعد أن انشل عينوا له صبيا يأتيه بالطعام والشراب ، ويتحامل عليه إلى دورة المياه .
ويبقى الصبى معه إلى ما بعد صلاة العشاء ، ثم يغلق الباب ويترك العجوز وحده إلى الصباح .
دخل اللصوص الثلاثة المسجد فى أوقات الصلاة .. وشاهدوا بأعينهم كل ما هو فى حاجة إلى معرفته .. عرفوا فى أى شىء تتعلق النجفة .. ومكان السلم الطويل .. ومتى يغلق الباب الضخم ومتى يفتح .. وفى أى ساعة من ساعات الليل يبقى العجوز وحده .. ومتى يدخل حجرته لينام وهو آمن .. عرفوا كل شىء .. ورسموا الخطة الجهنمية بإحكام لاثغرة فيه .
وكان من تدبيرهم الشيطانى أن يرفعوا النجفة المخطوفة ! بخطاف يوضع فى السقف ، ويضعوا فى مكانها فى نفس الليلة نجفة أخرى عادية يشترونها بجنيهات لاتزيد على المائة ..
واشتروها فعلا وأعدوها للمغامرة .
وكان لابد من وجود الكهربائى الفنى الذى يخلع هذه النجفة النادرة دون خدش ، ودون أن تسقط مرة واحدة .. ثم يضع فى مكانها النجفة الزائفة .
ووجدوا المشقة فى الحصول على هذا الشخص ، فإن مجرد ذكر المكان ولو على سبيل التعمية والتضليل .. كان يرعش العامل ويرعبه .
وأخيرا وبعد يأسهم ممن أغروه بالمال .. عثروا على من هددوه بالقتل إن لم يرضخ لمشيئتهم ..
وأخذوه فعاين كل شىء فى الداخل على الطبيعة ..
وبلغ منهم السرور مبلغه ، لما قال لهم أن العملية ستتم فى يسر ، وفى وقت أقل مما قدروه بحسابهم .
وفى الليلة الظلماء .. تحرك أربعة فى سيارة ومعهم نجفة كبيرة وعدد وحبال وبكر ..
وتحت جدار المسجد صعد اثنان منهم وصليا العشاء مع المصلين .
وبقى اثنان مع النجفة الزائفة فى العربة .. حتى تأتيهما الإشارة .
وبعد أن خرج المصلون من المسجد .. وأغلق الباب وخيم الظلام .. تحرك من فى العربة .. وصعدا السلالم .. وفتح لهما رفاقهما الباب ثم أغلقوه ..
وعلى ضوء مصباح واحد .. رفع السلم وصعد العامل الفنى .. وأخذ يدور ببصره فى سقف المسجد ، وقد رأى كل الثريات تدور مع عينيه .. والسلم الواقف عليه يروح ويجىء ويتطوح ..
وأحس بالعرق الغزير وبرعشة .. وبمثل الكلابة تدور على عنقه فسقط ما فى يده .. وصرخ .. وأخذ يهبط السلم كما صعد وهو يرتعش .. فمه يرغى ويزبد بمثل الحمم .
ولكمه أحد الأذكياء ليجعله يفيق من غشيته ، ودفعه أمامه ليصعد السلم مرة أخرى ..
فصعد العامل مستسلما صاغرا ، واللص وراءه وفى يده العدد ..
وأحس خادم المسجد المشلول بهم وهو فى قاعته الصغيرة .. وسمع الصرخة .. ففتح عينيه وحدق .. وشاهد السلم ومن يصعد فوقه .. فأصابه الفزع من هول المنظر .. إن ما يجرى أمامه لم يخطر بباله ولابال أحد من البشر .
وكان الاثنان اللذان فوق السلم قد صعدا إلى قمته .. وهناك دارت بهما الأرض ، وشعرا بالسلم يتطوح كالمرجيحة ، وهما جزء من أخشابه .. فلم يقويا على الحركة وتخشبا فيه .
وأخذ المشلول ينظر إلى من على السلم ، ومن تحته فى فزع ، وهو عاجز عن الحركة ، وغاب عنه أنه لايستطيع أن يفعل شيئا .. وكلما رأى حركاتهم ، وأيديهم ترتفع إلى أعلى ، خيل إليه أن أحدهم قد اقترب من النجفة وتجاسر على لمسها وفكها ، فاحتدم غيظه وانفجر غضبه .. وألفى نفسه من هول المنظر الذى أمامه يقف على قدميه ويتحرك ..
وروع اللصوص الأذكياء بالعجوز المشلول ينهض على قدميه ويصيح فيهم بصوت يرعد :
ـ لم يبق إلا المسجد .. يا أوغاد ..
وتضخم جسم المشلول فى نظرهم ، وأصبح ماردا جبارا فى طول السقف ، وعرض عشرة من الرجال ..
وصاح أحدهم عندما رآه هكذا ..
ـ المشلول .. الجبار ..
وسقط الذى فوق أعلى درجات السلم مفزوعا بين الموت والحياة ..
وحملوه سريعا وخرجوا فى الظلام ..
وفى صلاة الفجر صعد الذى كان مشلولا إلى المئذنة وإذن ..
وما عرف إنسان قصته فقد طواها الزمان ..
=================================
نشرت بمجلة الثقافة ـ العدد 19 فى أبريل 1975 وأعيد نشرها بمجموعة " الباب الآخر " 1977
=================================
من عـالــم الأسـرار
حـارس القـرية
قصة محمود البدوى
عرفت الشيخ عبد المطلب وأنا صبى العب فى الأجران .. فقد كان حارس أجران القرية .. وأحب الناس إلى قلوب أبنائها .. وإلى قلوب الصغار منا على الأخص .
ولم يكن الشيخ عبد المطلب حارس أجران القرية وحدها بل كان حارس القرية كلها فى الواقع .
كانت الأجران تقع فى شرق القرية وتكون دائرة واسعة فى " العرصة " وكان بجوارها جسر القرية الوحيد .. ومنه يدخل الناس إلى القرية ويخرجون منها .. وكان " خص " الشيخ عبد المطلب فى قلب الأجران .. وكان يشرف على الأجران والجسر معا .
وقد كان الرجل واسع الحلم طيب القلب .. فقد كان يتركنا على هوانا نمرح ونلعب فى " العرصة " ونصعد الأجران العالية وننحدر منها .. ونجرى كقطار الصعيد ونصيح ونعوى كالذئاب ..! وهو منصرف إلى عبادته .. لايرفع رأسه عن كتاب الله ، ولايسمعنا كلمة نابية .. بل كان ينظر إلينا ويبتسم فى عطف ورقة بالغين .
ثم شببت عن الطوق ، وتركت القرية لأتعلم فى المدينة .. وفى عطلة الدراسة الصيفية كنت أعود إلى القرية ، لأعمل مع إخوتى فى الحقول .
انقطعت عن اللعب فى الأجران ، ولكننى كنت أرى " خص " الشيخ عبد المطلب كل صباح ومساء قائما وسط البرية كأنه منارة تهدى السفن فى ظلام الليل .
ولما كنت أحب القراءة .. وكان الشيخ عبد المطلب هو القروى الوحيد الذى أجد عنده مجموعة نادرة من كتب التاريخ والسيرة فقد كنت أذهب إليه لآخذ منه بعض الكتب .. وكنت أنتقى منها كتب السيرة على الأخص فقد كانت تأخذ بلبى .
وكنت أنتهز فرصة الصيف عندما ننتهى من حصد القمح فأجد متسعا من الوقت للقراءة فى هذا الفراغ الكبير من السنة فلم نكن نزرع القطن فى تلك المنطقة من الصعيد ، ولهذا كنا نمضى الكثير من أيام الصيف فى فراغ ممل ..
ثم زحفت آلات الرى الحديثة إلى هذه المنطقة وتغير الحال ، وأصبح الفلاحون يزرعون القطن والأذرة ويعملون طول السنة .
وقد كانت أحب الساعات إلى نفسى هى التى أفرغ فيها من العمل ، وأجلس فى " خص " الشيخ عبد المطلب لأطالع وأتحدث معه ..
كان قليل الكلام ، كثير التعبد ، نقيا ، تقيا .. وكان يحرس الأجران كلها وحده ويلعب حوله الأطفال من اصفرار الشمس إلى ما بعد الغروب .. ثم يتركونه إلى بيوتهم .. ويظل الرجل فى مكانه من الخص ساهرا إلى الصباح .
ولم يكن مسلحا ، ولا يخيف أحدا بهراوة أو عصا .. بل كان كل ما يملكه قلبه الكبير ، وروحانيته الجارفة التى يواجه بها الليل وحده فى تلك المنطقة المرعبة من الصعيد .
وكنت أراه وحده وأنا سائر على الجسر ، وعينه إلى الشرق .. لايعبأ مما يجرى حوله ولا يخاف ولايرهب أحدا .. فأدرك عظمة الإيمان فى النفوس وأدرك سر قوته .
وكنت إذا شعرت بالعطش وأنا عائد من الحقل أنزل عن الجسر ، وأتجه إلى " العرصة " لأشرب من " زير " الشيخ عبد المطلب . . وكان قائما بجوار الخص .
فإذا شربت وأحس بى .. أشار إلىّ بسبابته يدعونى إليه فأعرف أنه يتعبد ، وأقترب منه فى سكون ، وأجلس بجواره على القـش .. وأرقـب شفتيـه وهمـا تتمتمان فى صوت خافت ..
وأرى وجهه المشرق فى الظلام وهالة النور على غرته .. وخطوط الزمن على جبينه .. والبريق الساطع فى عينيه .. ولحيته الكثة تدور على عارضيه ، وتقى وجهه وهج الشمس ، ولفح الرمضاء .
فإذا فرغ من عبادته سألنى عما عملته فى الحقل .. ثم عاد إلى صمته وتأمله .
وكانت الكلاب تنبح فى الحقول وفى القرية .. والرصاص يدوى فى أذن الليل .. وكنت وأنا جالس معه أرى أشباحا سوداء تتحرك بعيدا .. بعيدا على شط النيل .. فأرقبها بعين ساهرة . أما الشيخ عبد المطلب فما كان يحفل بشىء من هذا كله .. كان يرسل بصره إلى أقصى الأجران ثم يرتد به .. ويعود إلى سكونه وصمته .
وكنت أنظر إلى عينيه الساكنتين .. وجبينه الوضاء ، ونظرته الشاردة إلى السماء .. وأتأمل وأفكر .. ان هذا الرجل قد نفض يده من نعيم الحياة وملذاتها .. وعاش فى عالم كونه بنفسه لنفسه .. ولقد فهم سر الحياة وعرف معنى السعادة ، ولقد استخلص من الحياة زبدتها .. ووصل إلى أعمق أسرارها ولقد مرت عليه وهو جالس فى مكانه من الخص ألوان مختلفة من الحياة والناس .. وهو باق على حاله لم يتغير ..
لقد ذهب من هذه القرية أناس إلى المدينة ، وعاشوا فيها يقامرون ، يشربون ويصخبون فى المواخير وسقط منهم من سقط فى الأوحال .. وذهب منهم من ذهب إلى غير رجعه وعاد منهم من عاد يرتدى القبعة ويدخن فى الغليون بعد أن عبر البحار !
ولكن الشيخ عبد المطلب باق على حاله لم يغير جبته ، ولم يغير مكانه من الخص .. ولم يتغير له طعام ولاشراب منذ نصف قرن من الزمان .. إنه الصورة الخالدة للفلاح المصرى الجبار الذى صارع القرون ، وكافح الاستبداد والظلم والجبروت مدى قرون وقرون من الزمان .. ذاق مرارة الحرمان فى كل عصور التاريخ حتى فى عصر النور .. ومع هذا فإن جبهة الشيخ عبد المطلب لم تتعفر بالتراب قط وما حنى رأسه لمخلوق !!
وكان على مدى البصر منه تتلألأ مدينة أسيوط بأنوارها الساطعة .. ويسطع نور " الخزان " من بعيد .. كانت المدنية تزحف هناك حيث العلم والثراء العريض .. وحيث الكهرباء والسيارات الفخمة والقصور الشامخة وتقف هنا حيث الظلام والفقر والجهالة المطبقة والأكواخ الحقيرة .
كان الظلام الكثيف يخيم .. وكانت أشجار النخيل تحتضن بيوت القرية وتطوقها من الشرق والغرب بسياج طويل من جذوعها .. وكانت الترعة تشق القرية نصفين .. وكان هذا الخط الأبيض من الماء يزحف بين البساتين كما يزحف الثعبان فى الظلام .. وكان الجسر يجاور الترعة ويكون حاجزا منيعا وقت الفيضان وعلى هذا الجسر قام خط المدنية الأول الزاحف إلى هذه القرية الصغيرة .. عمود التليفون الخارج من المركز إلى بيت العمدة .. وهو البيت الأبيض الوحيد فى القرية .
وكانت القرية جمعاء تغط فى سبات عميق .. ويظل الشيخ عبد المطلب وحده ساهرا فى الخص يحرس الأجران ، ويحرس القرية جمعاء .. فما من أحد يستطيع أن يسير على الجسر ، وهو منفذ القرية الوحيد ، دون أن يبصره الشيخ عبد المطلب .. وعندما يشعشع النور ، ويفرغ من صلاته ويفرش زكيبة .. ينام إلى الضحى .. غافلا عن كل ما حوله وتاركا كل شىء لله .
وكنت أجلس فى ظل الخص ساعة الأصيل .. وأرى عن قرب هؤلاء الفلاحين المساكين ، وهم شبه عراة حفاة يعزقون الأرض ويسقون الزرع وقد التصقوا بالأرض ومالهم عنها من فكاك ..
كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى الغروب وأجسامهم تنضح عرقا ، وأرجلهم تغوص فى الوحل .. وما يطمع الواحد منهم بعد هذا الجهد كله فى أكثر من رغيف من الخبز الأسود وقطعة من الجبن .
ولقد خالطت هؤلاء الناس وعاشرتهم ، وحملت معهم الفأس فى قلب الحقول .. وما وجدت فيهم شاكيا ولا متبرما .. إنهم يعملون فى صبر عجيب ، وقد نفضوا أيديهم من كل رحمة تأتيهم من الأرض ، أو من السماء .. وهم يعيشون فى حذر وتوجس وريبة ، ولا يثقون بإنسان .. ويتصورون أن الكل يعمل على تحطيمهم ..
ويظل الفلاح ناصبا قامته للشمس حتى يسقط من الاعياء والجوع .. وهنا يطلب الرحمة من الموتى بعد أن يئس من الأحياء .. فيفزع إلى الأضرحة وقباب أولياء الله الصالحين .
وكانت مرساة القرية على مسافة قليلة من " العرصة " وفيها رست بعض المراكب .. وكنت وأنا جالس فى الخص ساعة الظهيرة أستمع إلى طرقات العمال الرتيبة فى هذه المراكب .. كانوا يصلحونها قبل الفيضان .. وكانوا يعملون فى جهد متواصل .. كان كل من حولى يعمل ويدور كالطاحون .. وكنت الوحيد بالقياس إلى الآخرين الذى يجد عنده وقتا للتنفس والتأمل .
وكنت أتمنى لو أعطانى الله بعض هذه القوة الجبارة ، لأحمل هذه الكتل العريضة من الخشب من اليابسة إلى الماء ، كما يفعل هؤلاء الملاحون .
كنت أجد أنا والشيخ عبد المطلب أنيسا فى عملهم المتواصل ومطارقهم التى لاتنتهى من الصباح إلى المساء .. كانوا يغنون طول النهار فإذا هبط المساء انحدروا إلى النيل وغسلوا ما علق بهم من زيت ونفط .. ثم لبسوا ثيابا زاهية ، وصعدوا فى الطريق إلى القرية .. فإذا اقتربوا منا حيونا فى بشر ومرح .. لاشك أنهم سعداء .
كان السكون الثقيل الشامل يخيم بعد ذلك .. وكنا نرى قلوع هذه المراكب تلمع من حين إلى حين فى جوف الليل الحالك .
***
وفى ليلة من الليالى خرجت من القرية قاصدا المزرعة .. فقد كنا نسقى حقل ذرة لنا ، وكان علىّ أن أسهر مع الفلاحين إلى الصباح حتى نفرغ من الحقل كله .. ومررت فى الطريق على الشيخ عبد المطلب لأشرب معه القهوة وأصلى العشاء .. إلى أن يطلع القمر .. فلم يكن من السهل على شاب مثلى أن يسير وحده فى الظلام ساعة زمانية حتى يبلغ المزرعة .
جلست بجوار الشيخ أمام الخص .. وكان الظلام دامسا .. والكلاب تنبح ، وفروع النخيل تتمايل .. والضفادع تنقنق هناك على شط النيل .
ولمحت شبحا يسير على الجسر ، وكان يمشى على مهل ، ولم يكن أكثر من سواد يتحرك فى جوف سواد .. ولما أصبح فى محاذاتنا انحدر عن الجسر ، ومضى فى طريق الأجران حتى اقترب من موضع الماء ، فوقف هناك هنيهة وهو يلهث كالمتوجس من شىء .. ثم دفع " الكوز " فى جوف " الزير " وسمع له صوت مصلصل فى هذا السكون الثقيل الشامل ، ورفع الإناء إلى شفتيه وشرب .. وتنفس .. ودار على عقبيه وتقدم من حيث أتى فى الطريق صعدا ..
وهنا صحت :
ـ من هناك ..؟
فتوقف عن السير ، وحول وجهه إلينا وظل صامتا برهة
ـ نعمان ..
قال هذا واتجه نحونا .. وكان الشيخ يفرك بعض حبات القمح بين يديه ، فلما اقترب منه نعمان ، أشار إليه ليجلس فجلس أمامه .
وكان نعمان يرتدى جلبابا أسمر ، وعلى رأسه لبدة من الصوف الأسمر كذلك ، وفى يده بندقية من أحسن طراز .. وكان شابا قوى الجسم فارع الطول حديد البصر قوى القلب ، وكان من رجال الليل فى هذه المنطقة ومن فتاكها ، وكان اسمه يتردد بعد كل حادث قتل أو سطو يقع فى هذا الإقليم ، ومع كل ما كان عليه هذا الرجل من شر وجبروت فإنه جلس أمام الشيخ عبد المطلب ، خاشعا منكس الرأس .
ونظر إليه الشيخ وسأله :
ـ إلى أين يا نعمان ..؟
ـ إلى حيث تسوقنى الأقدار .. يا عمى الشيخ ..
وخيم صمت ثقيل علينا ثلاثتنا .. وكان الشيخ يحدق فى وجه نعمان وينظر إلىّ .. ويقرأ أفكارنا ، ولكنه لايقول شيئا ، ونظرت إلى نعمان ، وعدت أتذكر أيام صباى فى القرية .. أيام كنت أصطاد السمك ، وأتسلق النخيل ، وأركب الجمال فى البرارى ، وكان رفيقى فى ذلك كله نعمان هذا بلحمه ودمه ، ولقد كان فى صباه رقيقا وادعا كالحمل ، ولكنه الآن أصبح رجلا آخر .
كان فى صباه يصطاد العصافير ، أما اليوم فهو يصطاد الرجال ، ومن الذى فعل به هذا ؟ أطرقت وفكرت ..
إن نعمان سرق فى صباه ليأكل .. وهو الآن يسرق للسرقة فى ذاتها ، انها لذته الكبرى ، وهو يغشى المدينة ويذهب إلى مراقصها ويرمى بكل ما معه من نقود تحت أقدام الراقصات .. ويشرب .. ويلعن شياطين الأرض .. وإذا مرت عليه ليلة ولم يطلق فيها رصاصة ، ولم يملأ خياشيمه برائحة البارود جن وطار صوابه !
هذا هو نعمان الجالس معنا الآن ..
قال لى الشيخ :
ـ اعمل لنا قهوة يا بنى ..
فتناولت عود ثقاب من نعمان ، وأشعلت النار فى الدريس .. وأخذت أحدق فى وجهه من خلال النار .. كان صارم النظرة قاسى الملامح .. وكان يخط بكعب بندقيته فى الأرض .
وشربنا القهوة ، وأخذ الشيخ عبد المطلب يحدثنا حتى أذن العشاء فنهض وهو يقول :
ـ قم يا نعمان إلى الماء فتوضأ وتعال لتصل معنا ..
فأطرق نعمان وبقى فى مكانه .
فأعاد الشيخ :
ـ قم يا نعمان ..
وكأنما كان صوته نذيرا من السماء ..
وصليت وراء الشيخ .. وبقى نعمان فى مجلسه .. تتساقط حبات العرق البارد على وجهه .. وما رأيته مصفرا أغبر السحنة كما كان فى هذه الساعة .
وتناول نعمان بندقيته ونهض ..
فقلت له :
ـ سأمشى معك حتى المزرعة ..
فنظر إلىّ الشيخ وقال بصوت هادىء :
ـ خليك أنت .. إلى أن يطلع القمر ..
وأذعنت لأمره ، ومضى نعمان .. وابتلعه الظلام .. وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم ..
فقلت للشيخ :
ـ إنه نعمان ..
ـ أجل إنه هو ..
ومضت فترة صمت ..
وسألته :
ـ أتظنه قتل ..؟
ـ لن تراه مرة أخرى ..
وأخذ الشيخ يتعبد .. فصمت .. وأخذت أفكر فى هذا الحادث ، وأتعجب من قوله :
" خليك أنت إلى أن يطلع القمر "
ترى هل كان الشيخ يقرأ الغيب ..؟
وسهرت ذات ليلة مع الشيخ عبد المطلب إلى الهزيع الثانى من الليل .. وكان الفيضان قد بكر والنيل شديدا .. وكان أهالى البلدة يخشون على زراعة الأذرة التى فى الأراضى الواطئة من الغرق ، فأقاموا حولها جسرا قويا ..
وكان النيل يجرى على قرب منا جياشا قويا .. والخزان يهدر فى جوف الليل .. والسكون عميقا شاملا .. حتى الكلاب فى القرية هجعت ، وكفت عن النباح ..
وسمع الشيخ وهو جالس صوتا أشبه بصوت الماء فى السد .. فنهض ومد بصره .. ولم يستطع أن يبصر شيئا .
ولكنه سمع خرير الماء أكثر وضوحا ..
فجرينا مسرعين نحو السد .. ولما بلغناه رأينا الماء قد فتح فجوة فيه وانحدر منه إلى المزارع متدفقا قويا ، وذعر الشيخ .. فلو انهار السد ستغرق مزارع برمتها وهى لصغار الفلاحين المساكين .. وقد يتطور الحال وتغرق بعض منازل القرية ..
أسرع الشيخ وحمل حزمة من " البوص " وألقى بها فى الفجوة وفعلت مثله .. وجرفنا إليها التراب ، واحتبس الماء بعض الوقت ولكنه عاد بعد قليل إلى ما كان عليه واشتد .. ووضعنا حزما أخرى بين عروق الخشب القائمة فى السد ، وحملنا إليها أكواما من الطين ، ولكن جهودنا كلها كانت عبثا فقد كان الماء قويا ، يجرف كل شىء فى طريقه ، وكانت الفجوة تتسع بعد كل لحظة وأخرى ..
وعرف الرجل مقدار الخطر الذى سيحل بالقرية .
فقال لى :
ـ أسرع إلى القرية .. وهات النجدة ..
وجريت مسرعا .. وكنت أسمع وأنا أعدو صراخ الشيخ عبد المطلب فى جوف الليل الساكن .
***
ولما عدت بالرجال .. كان الماء يتدفق كالسيل .. وكان جزء من السد قد انهار ..
ووجدت الشيخ عبد المطلب راقدا هناك دون حراك تحت عروق الخشب عند الجزء المنهار ..
فأدركنا أنه رقد بجسمه فى الفجوة ليحبس الماء إلى أن يحضر الفلاحون .. ولكن الماء كان قويا فانهار به السد وسقط فوقه ..
كان وجهه ساكنا .. وعلى شفتيه ابتسامة من فرغ من عمل عظيم ..
================================
نشرت فى مجموعة العربة الأخيرة لمحمود البدوى عام 1948
================================
المشلولة
قصة محمود البدوى
أعطانى الحاج أبو اسماعيل المفتاح .. وسافرت فى قطار الظهر .. وكانت الشقة فى شارع " المقريزى " وكنت أعرف الشارع والحى ولكن لم أدخل الشقة من قبل أبدا ..
وتأخر القطار خمس ساعات كاملة لانقلاب عربات بضاعة فى الخط .. ووصلت محطة القاهرة فى الثلث الأول من الليل بدل أن أصل قبل الغروب ..
وركبت المصعد إلى الشقة .. وضغطت على الزرار وكانت فى الدور الخامس .. ولما وضعت المفتاح فى القفل استعصى علىّ .. وسمع حركة القفل فى الباب شخص فى الداخل .. ففتح لى الباب وهو يقول :
ـ تفضل ..
وجرت الشغالة إلى الداخل بعد أن فتحت الباب وهى تصيح :
ـ البيه .. وصل يا ستى ..
ـ البيه .. وصل ..
وجلست على أول مقعد فى الصالة .. وأنا أحاول أن أحدد كل ما وقع من خطأ .. فأنا أخطأت فى الشقة .. وقد أكون أخطأت فى العمارة كذلك .. فالعمارات فى هذا الشارع متشابهة فى الطراز والحجم .. ومع يقينى بوقوع الخطأ ولكنى بقيت فى مكانى .. أتطلع إلى ما حولى على ضوء ثلاثة مصابيح أشعلتهم الشغالة مرة واحدة .. كأنها تحتفل بقدومى .. ساعة حائط كبيرة تدق .. وصورة زيتية لمنظر فى النيل ..
ثم صورة لشاب فى الثلاثين من عمره .. وقد تهندم أمام المصور وبرز فى أحسن حالاته .. وكان وجها سمينا .. وعيناه تتطلعان إلى شخصى ، مهما حاولت الابتعاد عنه .. ومن الغريب أننى وجدته قريب الشبه منى إلى حد مذهل ..
وكنت قد وضعت جانبا .. كيسا من التفاح اشتريته وأنا خارج من المحطة فى ميدان رمسيس .. فأخذته الشغالة إلى المطبخ وهى تصيح ..
ـ البيه .. جاء لك بتفاح حلو .. يا ستى ..
ـ مرسى .. خليه .. يتفضل يا سنية .. أنا صاحية ..
وعادت الشغالة تقول لى :
ـ تفضل .. عند الست .. هى صاحية ..
ـ حاضر .. بعد قليل .. لتأخذ هى راحتها أولا ..
وأدركت من مصدر الصوت أن الست مستريحة فى أول باب فى مواجهتى من الصالة .. وبعد أن فتحت الشغالة الباب ودخلت وخرجت منه .. استطعت أن أرى بعض محتويات الحجرة .. كالسرير .. وطاولة الزينة .. ومرآة الدولاب .. التى تكاد تعكس الشخص النائم فى الفراش ..
ولم يكن طابع الفضول هو الذى أبقانى فى المكان بعد أن أدركت مقدار ما وقعت فيه من خطأ .. وأننى دخلت مكانا لايمت لى بأية صلة .. ولا أعرف أحدا فيه ..
وإنما وجدت شيئا رهيبا .. فوق طاقتى يسمرنى بالمقعد الذى أجلس عليه .. كما أن التعب وسوء الحظ لازمنى طوال السفر .. بعد أن تعطل القطار جعلانى فى حالة من البلادة التى تلازم الكثير من الناس إذا وضعتهم الأقدار فى مثل موقفى ..
فقد وجدت بعد التعب ومشقة السفر .. مقعدا مريحا أرحت جسمى عليه فى شقة جميلة .. هادئة .. ليس فيها صراخ أطفال ، ولا صوت راديو .. ولامأتم وندب تليفزيونى ..
جلست فى مكانى شبه نائم وشبه حالم .. ونسيت كل ما يترتب على وجودى فى هذا المكان من عواقب .. فمجرد صرخة فزع من السيدة التى بالداخل إذا وقع بصرها على شخصى .. سيكون فيها هلاكى ..!
دار هذا الخاطر فى رأسى وأنا جالس ، ودار ما هو أكثر منه احتمالا .. ولكن مع ذلك بقيت ساكنا أتطلع إلى ضوء المصابيح الثلاثة التى تتراقص فى الصالة .. وقدرت انقطاع النور .. وهذا يحدث الآن فى أحياء القاهرة فى كل ساعة وحين ..
وفى الظلام الأسود تكون كل أركان الجريمة قد نسجت خيوطها حولى .. بإحكام يفوق كل تطلعات الذهن البشرى ..
وفى جيبى المسدس .. وأنا كريفى أتحرك به دائما لصق محفظتى .. ولكن من يفهم هذا .. من يفهم .. إذا دارت عجلة الظلام .. وطال دوارها .. وامتد وامتد ..
ولكن النور لم ينقطع .. وظلت مصابيح الكهرباء تتلألأ ..
***
وطلبت من الشغالة كوب ماء .. فنظرت إلى وجهى وقالت بنعومة :
ـ سأعمل لك قهوة .. يا بيه .. ظاهر عليك التعب .. وكانت نصف .. ووديعة ..
وقلت لها وهى تتحرك :
ـ كتر خيرك ..
وغابت تصنع القهوة .. وخيم السكون المطبق على الشقة .. ولم أعد أسمع كلام السيدة .. ولم أر من مكانى حركة لفراشها على السرير .. لعلها نامت أو استسلمت لرقادها ..
وجاءت الشغالة بالقهوة وهى تقول :
ـ أتريد حضرتك شيئا آخر ..؟ أنا مروحة ..
ـ مروحة ..؟
ـ نعم .. والعشاء .. على السفرة ..
ـ مروحة .. الآن .. كيف ..؟
ـ أروح بالليل لأولادى .. يا بيه ..
ـ والست تعرف هذا ..؟
ـ نعم وسأحضر بدرى .. قبل الشمس .. لأن الست تعبانة وحضرتك رايح شغلك .. فلا نتركها وحدها ..
ـ وكيف تتركينها الآن وحدها .. وهى تعبانة ..؟
ـ لأن حضرتك عدت من السفر .. جاء للست خطاب بأنك ستحضر مساء اليوم ..
ـ مساء اليوم ..!!
ـ وقرأته الست بدرية .. قريبة الست .. ولما علمت بحضورك مساء اليوم روحت .. وجعلتنى أبقى إلى أن تحضر ..
ـ والست تعبانة إلى هذه الدرجة ..؟
ـ إنها لاتتحرك من سريرها .. ركبها ..
ولم تشأ كشابة من بنات البلد الحسنة التهذيب والتى تحسن انتقاء الألفاظ .. أن تقول مشلولة .. بل اكتفت بأن قالت ركبها تعبانة ..
وقلت لسنية .. حتى لا أكشف نفسى بأنى غريب ومتورط ..!
ـ والسيدة بدرية لاتزال فى مسكنها القريب منا ..
ـ إنها فى العمارة 34 جنبنا على طول ..
ـ جنبنا على طول .. إذن أنا أخذت مفتاح الشقة فى العمارة 32 ولم يحدث أى خطأ .. وقد أكون فى شقة توفيق .. ولكن توفيق أعزب .. ويعيش وحده .. وسافر منذ سنتين .. وقد ترك المفتاح لأبيه الحاج أبو اسماعيل لينزل فيها فى غدوه ورواحه إلى القاهرة .. وليحافظ عليها .. وعلى نظافتها .. ولم يشأ قط أن يؤجرها مفروشة .. لأن فى هذا ما يعد ابتذالا لوضع الأسرة فى الصعيد .. لأن الحاج أبو اسماعيل نفسه لايحب أن ينزل فى فنادق القاهرة بعد أن لمت كل من هب ودب ..!
وظلت الشغالة تعود وتذهب إلى المطبخ .. ثم دلفت إلى حجرة الست .. وعادت مرة أخرى إلى المطبخ ..
وسمعتها تقول وهى على الباب الخارجى :
ـ تصبح على خير .. يا بيه ..
ـ تصبحى على خير .. يا سنية .. تعالى بدرى ..
ـ قبل الشمس .. وسأصحيك ..
وسحبت الباب الخارجى وراءها وخرجت ..
***
وبقيت وحدى .. اتطلع إلى الجدران .. وإلى السكون المخيم .. وخيل إلىَّ أن الست نامت .. ولكنى سمعت صوتها وهى تقول :
ـ تعال .. يا منير .. أنا مشتاقة إايك .. وصاحية .. وطيبة ..
ـ كنت عندك .. منذ لحظات .. ووجدتك نائمة ولم أشأ أن أوقظك .. ورأيتك أكثر جمالا ونضارة مما كنت .. وليس على وجهك أى علامة للمرض ..
ـ دخلت .. ورأيتنى ..؟
ـ نعم .. منذ لحظات ..
ـ ولم أحس بك ..!
ـ كنت نائمة ..
ـ إننى دائما .. أنام وأصحو .. وعيناى سادرتان هدمنى المرض .. بعد زواجنا بستة أشهر فقط سافرت يا منير ولم أشأ أن أحرمك من هذه المنحة .. منحة ألمانيا الغربية .. إنها فرصة العمر ..
ووجدت لسانى يردد كلامها :
ـ فرصة العمر ..
ـ ولكن فرصة العمر .. انقلبت علىَّ .. وطحنتنى .. ثلاثون يوما مرت كثلاثين سنة من العذاب .. وأنا على هذه الحالة .. لا أقوى على الحركة .. ولا حتى التفكير .. تعطلت فيها كل خلايا حياتى ..
وانقطع صوتها ..
وسألت نفسى منذ شهور وهى مريضة ومشلولة هذه المسكينة .. وفى غياب زوجها ، أى عذاب تتحمله الأنثى وأى مشقة .. وتظل صابرة ..
وسألتها :
ـ والدكتور .. ما رأيه ..؟
ـ دكتور .. إيه .. يا منير .. الدكاترة كانوا زمان .. الله يرحم الدكتور عبد العزيز إسماعيل عالج المرحوم والدى من الجلطة فى اسبوع .. قضى عليها تماما .. وقال له روح بقيت كالحصان ..!
الدكاترة كانوا زمان .. الدكتور الذى كان سيعطينى الحقنة اليوم لم يحضر .. لازم كان بيتفرج على الكرة .. فيه لعب اليوم ..!
ـ أنزل وأجىء لك بواحد ..
ـ بقينا فى نص الليل .. ليس كل واحد ينفع .. إنه متخصص ويعطى الحقنة فى عظم الركبة .. وأعطيه خمسة جنيهات على كل حقنة .. ولكن رأى مع ذلك أن الفرجة على الكرة أنفع وأحسن ..! الكل وحياتك يا منير .. يكتب روشتات .. نفس الدواء ونفس النوع .. شهر وأنا فى عذاب .. رحم الله أنور المفتى .. كان فخرا لمصر .. ولكنه ذهب .. كما يذهب كل طيب ونافع .. ويبقى
ـ ولكنى رأيتك متقدمة .. ووجهك أكثر جمالا ..
ـ صحيح ..؟
ـ حقا .. هذا ما رأيته ..
ـ لكن صوتك متغير .. يامنير .. يا منير .. من البرد هناك ..
ـ ثلج ..
ووقع علىَّ السؤال كلوح الثلج .. وكيف ميزت الآن .. والآن فقط بعد كل هذا الحوار الذى دار بيننا اختلاف صوتى .. كيف أدركت الآن فقط .. لعله تأثير المرض عليها .. أو لعل صوتى فى جرسه قريب من صوت زوجها .. أو لعل المرض فى شدة وطأته عليها جعلها تنسى صوت زوجها .. وشكل زوجها .. كل ذلك شبه ..
وعاودت تقول :
ـ كنت أرعى همك وتعبك وأقول ملعون أبو الوظيفة والبعثات التى تجعل الزوج يترك زوجته فى الشهور الأولى من زواجهما ويغيب سنة وسنة .. وسنة ..
ـ والآن الحمد لله لقد رجعت ..
ـ رجعت بعد إيه ..
ـ كله خير .. والخير فى ارادة الله ..
ـ أشعر الآن بقرب الشفاء .. بل لقد شفيت .. وعندما قرأت عمتى بدرية رسالتك التى تعلن فيها قدومك اليوم .. سرت فى كيانى رعشة .. وأحسست بساقى ينبض فيهما الدم .. وتندفعان للحركة .. هذا ما سيحدث هذا ما سيحدث ..
وصمت .. وسرحت أنا فى دوامة الأحداث .. ثم سمعتها تقول بغيرة الأنثى .. وبلهجة مؤكدة :
ـ والحقائب لن يفتحها سواى ..!
ـ بالطبع لن يفتحها غيرك ..
ـ وأين هى ..؟
ـ وضعتها سنية فى غرفة المكتب ..
ـ هذا أحسن .. ويدل على حسن تصرف .. إنها مدربة جاءت اليوم .. وجاء الخير على قدومها .. جئت معها فى نفس اليوم ..
ـ بنت طيبة ..
ـ آه .. لو شفت .. رأيت منهن العذاب .. كل واحدة بشكل .. التى تنظف لاتطبخ .. والتى تطبخ لا تنظف .. والتى تجىء برضيعها والتى تذهب بدون سبب .. والتى تخلف الميعاد .. والكاذبة واللصة على طول الخط .. وأخيرا جاءت الست مفيدة بهذه وتبدو طيبة .. ما الذى نعمله بعد أن عدت بالسلامة كله يهون ..
سمعت منها كل هذا الكلام .. وحرصت كل الحرص على ألا أكشف نفسى ..
أقول لها بأنى دخلت شقتها غلط فى غلط .. وأننى لست منيرا .. ولست زوجها ولا أمت له بأية صلة .. وأننى مجرد عابر .. جاء فى سماء القاهرة لمدة يومين أو ثلاثة ليشترى جرارا .. وما يحمله من نقود فى جيبه جعلته لاينزل فى فندق والشكر للحاج أبو إسماعيل صاحب الفضل والمروءة ..
إن كشفت نفسى سيؤذيها .. وهى فى أشد حالات مرضها وربما قضت عليها المفاجأة ..
***
ودقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. وانقطع ما بيننا من حوار ..
وأيقنت هى أننى دخلت عليها .. واطمأنيت على صحتها .. وأن حالتها الصحية هى التى جعلتنى لا أثقل عليها بالكلام .. ولا أقرب منها أكثر مما اقتربت لأن كل ذلك فى الساعات الأولى من اللقاء قد يؤذيها .. وقد يسبب لها النكسة .. وما هو شر منها ..
***
وبعد دقات الساعة جالت عيناى فى الصالة ورأيت صورة لسيدة .. معلقة فى اطار ذهبى .. وكانت فوق رأسى مباشرة ..
فلما نهضت رأيتها .. إنها هى دون شك .. فما من أنثى تحمل مثل هذه الفتنة .. وهذه النضارة فى العينين والشفتين .. وهذه البشاشة فى الوجه ..
إنها صورتها هى وحدها .. وقدرت أنها بعد الزواج .. أو قبل الزواج بسنة على الأكثر .. وكانت فى فستان وردى وعلى الصدر مشبك من الزمرد الأخضر .. وفى الأذنين قرط مما تلبسه الإسبانيات .. وهن فى ساعة الذروة من البهجة والإحساس بنشوة القلب ..
يا إله السموات والأرض .. من الذى يشل هذه الحسناء وهى فى أوج نضرتها .. وأوج شبابها .. سوء الإدارة .. حادث فى السوق .. فى الطريق .. سارق سلسلة .. سائق تاكسى يشتغل بلطجيا فى ظل رخصة ..
يا إله السموات والأرض .. أى جمال خلقت وأى إبداع فى الأنثى كونت وأعطيت الحياة ..
رأيت نظرة متأنية فى عينيها تحمل معنى التأنيب .. جعلتنى أخجل من وقفتى فجلست .. عدت كما كنت إلى مقعدى .. وأنا ما زلت فى كامل ملابسى ..
***
كانت الشقة من ثلاث حجرات والصالة التى أجلس فيها .. وكان كل شىء أنيقا ولامعا .. ولم يكن ذلك من سنية ولا لأن البيت ليس فيه أطفال .. وإنما لأن الست كما خمنت كانت تحرص على الهدوء وعلى نظافة بيتها إلى حد كبير ..
ولم أكن وأنا جالس أسمع حركة الشارع .. ولا حركة البيوت .. كان السكون يخيم إلى درجة الموت .. ومن خلال هذا السكون الشامل سمعت صوتها :
ـ أجئت بكل ما طلبته منك يا منير ..؟
ـ بالطبع .. بالطبع .. وهى فى حقيبة يدى ..!
ـ تصورتك ستنسى .. سيمفونيات بيتهوفن .. وبشارف تركية حتى لو ذهبت من أجلها إلى استانبول ..
ـ وكيف أنسى لك طلبا .. وأنت مهجة حياتى .. وأعرف تعلقك بالموسيقى التركية .. منذ الصغر .. ومعى شريط .. لبعيون .. عازف الطنبور ..
ـ بعيون أنه كنز .. أو تعلم .. وسيريح سماعه أعصابى .. أحسن من ألف حقنة ودواء والآن تعال لتنام ..
ـ حاضر .. سأتوضأ .. أولا .. وأصلى .. وأقرأ لك سورة من القرآن ..
ـ سنقرأها معا ..
ونهضت كأنى ذاهب لخلع بدلتى .. وسألتها وأنا أتثاءب ..
ـ المهندس توفيق لايزال ساكنا هنا فى العمارة ..؟
ـ المهندس توفيق فى الشقة التى فوقنا على طول ..! لكنه مسافر فى بعثة .. والشقة فاضية .. وأبوه يأتى من وقت لآخر ..
وشعرت بما يشبه الدوار .. بعد أن أدركت خطأ فعلتى .. فقد أدرت المفتاح فى الشقة التى تحتها مباشرة .. لأن المصعد أخرجنى فى الطابق الرابع بدل الخامس .. لأنى ضغطت على الزر خطأ ..
هكذا دخلت كصاحب بيت فى شقة سيدة مريضة .. فأى عبث للأقدار ..
ان السيدة المريضة تنتظر زوجها .. وقد وصل الزوج فى شخصى .. طبقا لمواصفات الخطاب .. فهل أكشف نفسى الآن ..؟ لا .. ثم .. لا .. قد يكون فى ذلك هلاكها .. ليست المسألة إلى هذا الحد من البساطة فى مواجهة الحدث ..
ان أى تبسيط للأمر سيجر إلى عواقب وخيمة .. وما دمت قد أخذت على أننى الزوج العائد فلأظل فى الدور إلى النهاية ..!
ولكن أى عبث للأقدار .. من الذى كتب الخطاب .. أهو زوجها حقا ..؟ وإذا كان قد فعل ذلك فلماذا لم يحضر كما وعد ..
إن تخلفه كان من أجلى .. ليعطينى الصورة ولينفسح لى المجال لأمثل الدور كاملا ..
***
عدت إلى المقعد ووضعت يدى على رأسى .. كاد رأسى أن ينفلق من فرط احساسى بالموقف الصعب .. ما الذى يفعله الإنسان فى مثل هذه المواقف .. سيترك الأمور تجرى فى أعنتها ..
واسترخيت .. وغلبنى النعاس وأنا جالس وتنبهت على صرخة مفزعة .. صرخة خرجت منها ..
وجريت إلى غرفتها .. وصدمنى وأنا أجرى شبح رآنى وأنا أتقدم نحوه وبيدى المسدس فأشهر فى وجهى سلاحا .. فأطلقت عليه النار طلقة واحدة فسقط خارج بابها ..
***
وخيم السكون من جديد وسمعتها تقول بعد دقائق وثوان حسبتها دهرا :
ـ قتلته .. يا منير ..
ـ نعم ..
ـ حرامى ..؟
ـ نعم .. حرامى ..
وسألتها :
ـ أسرق منك شيئا ..؟
ـ أبدا .. عبث فى الدولاب ..
ـ أدخل .. من المنور ..؟
ـ أو من باب المطبخ .. أو أى مكان ..
وأضافت بهدوء :
ـ أتبقيه هنا ..؟
ـ لا .. سأخرجه .. حتى لايزعجك ..
وسحبته على البلاط .. إلى خارج شقتها .. ووضعته فى المصعد ..
وسمعت صوتها .. تنادينى وأنا أغلق بابها الخارجى ولكنى لم أرد .. لأنى سمعت حركة أقدامها ورائى ..
وأنستنى الفرحة بشفائها .. كل ما حدث لى فى هذه الليلة ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو بعددها الصادر بتاريخ 19 أبريل 1982
================================
قصة محمود البدوى
أعطانى الحاج أبو اسماعيل المفتاح .. وسافرت فى قطار الظهر .. وكانت الشقة فى شارع " المقريزى " وكنت أعرف الشارع والحى ولكن لم أدخل الشقة من قبل أبدا ..
وتأخر القطار خمس ساعات كاملة لانقلاب عربات بضاعة فى الخط .. ووصلت محطة القاهرة فى الثلث الأول من الليل بدل أن أصل قبل الغروب ..
وركبت المصعد إلى الشقة .. وضغطت على الزرار وكانت فى الدور الخامس .. ولما وضعت المفتاح فى القفل استعصى علىّ .. وسمع حركة القفل فى الباب شخص فى الداخل .. ففتح لى الباب وهو يقول :
ـ تفضل ..
وجرت الشغالة إلى الداخل بعد أن فتحت الباب وهى تصيح :
ـ البيه .. وصل يا ستى ..
ـ البيه .. وصل ..
وجلست على أول مقعد فى الصالة .. وأنا أحاول أن أحدد كل ما وقع من خطأ .. فأنا أخطأت فى الشقة .. وقد أكون أخطأت فى العمارة كذلك .. فالعمارات فى هذا الشارع متشابهة فى الطراز والحجم .. ومع يقينى بوقوع الخطأ ولكنى بقيت فى مكانى .. أتطلع إلى ما حولى على ضوء ثلاثة مصابيح أشعلتهم الشغالة مرة واحدة .. كأنها تحتفل بقدومى .. ساعة حائط كبيرة تدق .. وصورة زيتية لمنظر فى النيل ..
ثم صورة لشاب فى الثلاثين من عمره .. وقد تهندم أمام المصور وبرز فى أحسن حالاته .. وكان وجها سمينا .. وعيناه تتطلعان إلى شخصى ، مهما حاولت الابتعاد عنه .. ومن الغريب أننى وجدته قريب الشبه منى إلى حد مذهل ..
وكنت قد وضعت جانبا .. كيسا من التفاح اشتريته وأنا خارج من المحطة فى ميدان رمسيس .. فأخذته الشغالة إلى المطبخ وهى تصيح ..
ـ البيه .. جاء لك بتفاح حلو .. يا ستى ..
ـ مرسى .. خليه .. يتفضل يا سنية .. أنا صاحية ..
وعادت الشغالة تقول لى :
ـ تفضل .. عند الست .. هى صاحية ..
ـ حاضر .. بعد قليل .. لتأخذ هى راحتها أولا ..
وأدركت من مصدر الصوت أن الست مستريحة فى أول باب فى مواجهتى من الصالة .. وبعد أن فتحت الشغالة الباب ودخلت وخرجت منه .. استطعت أن أرى بعض محتويات الحجرة .. كالسرير .. وطاولة الزينة .. ومرآة الدولاب .. التى تكاد تعكس الشخص النائم فى الفراش ..
ولم يكن طابع الفضول هو الذى أبقانى فى المكان بعد أن أدركت مقدار ما وقعت فيه من خطأ .. وأننى دخلت مكانا لايمت لى بأية صلة .. ولا أعرف أحدا فيه ..
وإنما وجدت شيئا رهيبا .. فوق طاقتى يسمرنى بالمقعد الذى أجلس عليه .. كما أن التعب وسوء الحظ لازمنى طوال السفر .. بعد أن تعطل القطار جعلانى فى حالة من البلادة التى تلازم الكثير من الناس إذا وضعتهم الأقدار فى مثل موقفى ..
فقد وجدت بعد التعب ومشقة السفر .. مقعدا مريحا أرحت جسمى عليه فى شقة جميلة .. هادئة .. ليس فيها صراخ أطفال ، ولا صوت راديو .. ولامأتم وندب تليفزيونى ..
جلست فى مكانى شبه نائم وشبه حالم .. ونسيت كل ما يترتب على وجودى فى هذا المكان من عواقب .. فمجرد صرخة فزع من السيدة التى بالداخل إذا وقع بصرها على شخصى .. سيكون فيها هلاكى ..!
دار هذا الخاطر فى رأسى وأنا جالس ، ودار ما هو أكثر منه احتمالا .. ولكن مع ذلك بقيت ساكنا أتطلع إلى ضوء المصابيح الثلاثة التى تتراقص فى الصالة .. وقدرت انقطاع النور .. وهذا يحدث الآن فى أحياء القاهرة فى كل ساعة وحين ..
وفى الظلام الأسود تكون كل أركان الجريمة قد نسجت خيوطها حولى .. بإحكام يفوق كل تطلعات الذهن البشرى ..
وفى جيبى المسدس .. وأنا كريفى أتحرك به دائما لصق محفظتى .. ولكن من يفهم هذا .. من يفهم .. إذا دارت عجلة الظلام .. وطال دوارها .. وامتد وامتد ..
ولكن النور لم ينقطع .. وظلت مصابيح الكهرباء تتلألأ ..
***
وطلبت من الشغالة كوب ماء .. فنظرت إلى وجهى وقالت بنعومة :
ـ سأعمل لك قهوة .. يا بيه .. ظاهر عليك التعب .. وكانت نصف .. ووديعة ..
وقلت لها وهى تتحرك :
ـ كتر خيرك ..
وغابت تصنع القهوة .. وخيم السكون المطبق على الشقة .. ولم أعد أسمع كلام السيدة .. ولم أر من مكانى حركة لفراشها على السرير .. لعلها نامت أو استسلمت لرقادها ..
وجاءت الشغالة بالقهوة وهى تقول :
ـ أتريد حضرتك شيئا آخر ..؟ أنا مروحة ..
ـ مروحة ..؟
ـ نعم .. والعشاء .. على السفرة ..
ـ مروحة .. الآن .. كيف ..؟
ـ أروح بالليل لأولادى .. يا بيه ..
ـ والست تعرف هذا ..؟
ـ نعم وسأحضر بدرى .. قبل الشمس .. لأن الست تعبانة وحضرتك رايح شغلك .. فلا نتركها وحدها ..
ـ وكيف تتركينها الآن وحدها .. وهى تعبانة ..؟
ـ لأن حضرتك عدت من السفر .. جاء للست خطاب بأنك ستحضر مساء اليوم ..
ـ مساء اليوم ..!!
ـ وقرأته الست بدرية .. قريبة الست .. ولما علمت بحضورك مساء اليوم روحت .. وجعلتنى أبقى إلى أن تحضر ..
ـ والست تعبانة إلى هذه الدرجة ..؟
ـ إنها لاتتحرك من سريرها .. ركبها ..
ولم تشأ كشابة من بنات البلد الحسنة التهذيب والتى تحسن انتقاء الألفاظ .. أن تقول مشلولة .. بل اكتفت بأن قالت ركبها تعبانة ..
وقلت لسنية .. حتى لا أكشف نفسى بأنى غريب ومتورط ..!
ـ والسيدة بدرية لاتزال فى مسكنها القريب منا ..
ـ إنها فى العمارة 34 جنبنا على طول ..
ـ جنبنا على طول .. إذن أنا أخذت مفتاح الشقة فى العمارة 32 ولم يحدث أى خطأ .. وقد أكون فى شقة توفيق .. ولكن توفيق أعزب .. ويعيش وحده .. وسافر منذ سنتين .. وقد ترك المفتاح لأبيه الحاج أبو اسماعيل لينزل فيها فى غدوه ورواحه إلى القاهرة .. وليحافظ عليها .. وعلى نظافتها .. ولم يشأ قط أن يؤجرها مفروشة .. لأن فى هذا ما يعد ابتذالا لوضع الأسرة فى الصعيد .. لأن الحاج أبو اسماعيل نفسه لايحب أن ينزل فى فنادق القاهرة بعد أن لمت كل من هب ودب ..!
وظلت الشغالة تعود وتذهب إلى المطبخ .. ثم دلفت إلى حجرة الست .. وعادت مرة أخرى إلى المطبخ ..
وسمعتها تقول وهى على الباب الخارجى :
ـ تصبح على خير .. يا بيه ..
ـ تصبحى على خير .. يا سنية .. تعالى بدرى ..
ـ قبل الشمس .. وسأصحيك ..
وسحبت الباب الخارجى وراءها وخرجت ..
***
وبقيت وحدى .. اتطلع إلى الجدران .. وإلى السكون المخيم .. وخيل إلىَّ أن الست نامت .. ولكنى سمعت صوتها وهى تقول :
ـ تعال .. يا منير .. أنا مشتاقة إايك .. وصاحية .. وطيبة ..
ـ كنت عندك .. منذ لحظات .. ووجدتك نائمة ولم أشأ أن أوقظك .. ورأيتك أكثر جمالا ونضارة مما كنت .. وليس على وجهك أى علامة للمرض ..
ـ دخلت .. ورأيتنى ..؟
ـ نعم .. منذ لحظات ..
ـ ولم أحس بك ..!
ـ كنت نائمة ..
ـ إننى دائما .. أنام وأصحو .. وعيناى سادرتان هدمنى المرض .. بعد زواجنا بستة أشهر فقط سافرت يا منير ولم أشأ أن أحرمك من هذه المنحة .. منحة ألمانيا الغربية .. إنها فرصة العمر ..
ووجدت لسانى يردد كلامها :
ـ فرصة العمر ..
ـ ولكن فرصة العمر .. انقلبت علىَّ .. وطحنتنى .. ثلاثون يوما مرت كثلاثين سنة من العذاب .. وأنا على هذه الحالة .. لا أقوى على الحركة .. ولا حتى التفكير .. تعطلت فيها كل خلايا حياتى ..
وانقطع صوتها ..
وسألت نفسى منذ شهور وهى مريضة ومشلولة هذه المسكينة .. وفى غياب زوجها ، أى عذاب تتحمله الأنثى وأى مشقة .. وتظل صابرة ..
وسألتها :
ـ والدكتور .. ما رأيه ..؟
ـ دكتور .. إيه .. يا منير .. الدكاترة كانوا زمان .. الله يرحم الدكتور عبد العزيز إسماعيل عالج المرحوم والدى من الجلطة فى اسبوع .. قضى عليها تماما .. وقال له روح بقيت كالحصان ..!
الدكاترة كانوا زمان .. الدكتور الذى كان سيعطينى الحقنة اليوم لم يحضر .. لازم كان بيتفرج على الكرة .. فيه لعب اليوم ..!
ـ أنزل وأجىء لك بواحد ..
ـ بقينا فى نص الليل .. ليس كل واحد ينفع .. إنه متخصص ويعطى الحقنة فى عظم الركبة .. وأعطيه خمسة جنيهات على كل حقنة .. ولكن رأى مع ذلك أن الفرجة على الكرة أنفع وأحسن ..! الكل وحياتك يا منير .. يكتب روشتات .. نفس الدواء ونفس النوع .. شهر وأنا فى عذاب .. رحم الله أنور المفتى .. كان فخرا لمصر .. ولكنه ذهب .. كما يذهب كل طيب ونافع .. ويبقى
ـ ولكنى رأيتك متقدمة .. ووجهك أكثر جمالا ..
ـ صحيح ..؟
ـ حقا .. هذا ما رأيته ..
ـ لكن صوتك متغير .. يامنير .. يا منير .. من البرد هناك ..
ـ ثلج ..
ووقع علىَّ السؤال كلوح الثلج .. وكيف ميزت الآن .. والآن فقط بعد كل هذا الحوار الذى دار بيننا اختلاف صوتى .. كيف أدركت الآن فقط .. لعله تأثير المرض عليها .. أو لعل صوتى فى جرسه قريب من صوت زوجها .. أو لعل المرض فى شدة وطأته عليها جعلها تنسى صوت زوجها .. وشكل زوجها .. كل ذلك شبه ..
وعاودت تقول :
ـ كنت أرعى همك وتعبك وأقول ملعون أبو الوظيفة والبعثات التى تجعل الزوج يترك زوجته فى الشهور الأولى من زواجهما ويغيب سنة وسنة .. وسنة ..
ـ والآن الحمد لله لقد رجعت ..
ـ رجعت بعد إيه ..
ـ كله خير .. والخير فى ارادة الله ..
ـ أشعر الآن بقرب الشفاء .. بل لقد شفيت .. وعندما قرأت عمتى بدرية رسالتك التى تعلن فيها قدومك اليوم .. سرت فى كيانى رعشة .. وأحسست بساقى ينبض فيهما الدم .. وتندفعان للحركة .. هذا ما سيحدث هذا ما سيحدث ..
وصمت .. وسرحت أنا فى دوامة الأحداث .. ثم سمعتها تقول بغيرة الأنثى .. وبلهجة مؤكدة :
ـ والحقائب لن يفتحها سواى ..!
ـ بالطبع لن يفتحها غيرك ..
ـ وأين هى ..؟
ـ وضعتها سنية فى غرفة المكتب ..
ـ هذا أحسن .. ويدل على حسن تصرف .. إنها مدربة جاءت اليوم .. وجاء الخير على قدومها .. جئت معها فى نفس اليوم ..
ـ بنت طيبة ..
ـ آه .. لو شفت .. رأيت منهن العذاب .. كل واحدة بشكل .. التى تنظف لاتطبخ .. والتى تطبخ لا تنظف .. والتى تجىء برضيعها والتى تذهب بدون سبب .. والتى تخلف الميعاد .. والكاذبة واللصة على طول الخط .. وأخيرا جاءت الست مفيدة بهذه وتبدو طيبة .. ما الذى نعمله بعد أن عدت بالسلامة كله يهون ..
سمعت منها كل هذا الكلام .. وحرصت كل الحرص على ألا أكشف نفسى ..
أقول لها بأنى دخلت شقتها غلط فى غلط .. وأننى لست منيرا .. ولست زوجها ولا أمت له بأية صلة .. وأننى مجرد عابر .. جاء فى سماء القاهرة لمدة يومين أو ثلاثة ليشترى جرارا .. وما يحمله من نقود فى جيبه جعلته لاينزل فى فندق والشكر للحاج أبو إسماعيل صاحب الفضل والمروءة ..
إن كشفت نفسى سيؤذيها .. وهى فى أشد حالات مرضها وربما قضت عليها المفاجأة ..
***
ودقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. وانقطع ما بيننا من حوار ..
وأيقنت هى أننى دخلت عليها .. واطمأنيت على صحتها .. وأن حالتها الصحية هى التى جعلتنى لا أثقل عليها بالكلام .. ولا أقرب منها أكثر مما اقتربت لأن كل ذلك فى الساعات الأولى من اللقاء قد يؤذيها .. وقد يسبب لها النكسة .. وما هو شر منها ..
***
وبعد دقات الساعة جالت عيناى فى الصالة ورأيت صورة لسيدة .. معلقة فى اطار ذهبى .. وكانت فوق رأسى مباشرة ..
فلما نهضت رأيتها .. إنها هى دون شك .. فما من أنثى تحمل مثل هذه الفتنة .. وهذه النضارة فى العينين والشفتين .. وهذه البشاشة فى الوجه ..
إنها صورتها هى وحدها .. وقدرت أنها بعد الزواج .. أو قبل الزواج بسنة على الأكثر .. وكانت فى فستان وردى وعلى الصدر مشبك من الزمرد الأخضر .. وفى الأذنين قرط مما تلبسه الإسبانيات .. وهن فى ساعة الذروة من البهجة والإحساس بنشوة القلب ..
يا إله السموات والأرض .. من الذى يشل هذه الحسناء وهى فى أوج نضرتها .. وأوج شبابها .. سوء الإدارة .. حادث فى السوق .. فى الطريق .. سارق سلسلة .. سائق تاكسى يشتغل بلطجيا فى ظل رخصة ..
يا إله السموات والأرض .. أى جمال خلقت وأى إبداع فى الأنثى كونت وأعطيت الحياة ..
رأيت نظرة متأنية فى عينيها تحمل معنى التأنيب .. جعلتنى أخجل من وقفتى فجلست .. عدت كما كنت إلى مقعدى .. وأنا ما زلت فى كامل ملابسى ..
***
كانت الشقة من ثلاث حجرات والصالة التى أجلس فيها .. وكان كل شىء أنيقا ولامعا .. ولم يكن ذلك من سنية ولا لأن البيت ليس فيه أطفال .. وإنما لأن الست كما خمنت كانت تحرص على الهدوء وعلى نظافة بيتها إلى حد كبير ..
ولم أكن وأنا جالس أسمع حركة الشارع .. ولا حركة البيوت .. كان السكون يخيم إلى درجة الموت .. ومن خلال هذا السكون الشامل سمعت صوتها :
ـ أجئت بكل ما طلبته منك يا منير ..؟
ـ بالطبع .. بالطبع .. وهى فى حقيبة يدى ..!
ـ تصورتك ستنسى .. سيمفونيات بيتهوفن .. وبشارف تركية حتى لو ذهبت من أجلها إلى استانبول ..
ـ وكيف أنسى لك طلبا .. وأنت مهجة حياتى .. وأعرف تعلقك بالموسيقى التركية .. منذ الصغر .. ومعى شريط .. لبعيون .. عازف الطنبور ..
ـ بعيون أنه كنز .. أو تعلم .. وسيريح سماعه أعصابى .. أحسن من ألف حقنة ودواء والآن تعال لتنام ..
ـ حاضر .. سأتوضأ .. أولا .. وأصلى .. وأقرأ لك سورة من القرآن ..
ـ سنقرأها معا ..
ونهضت كأنى ذاهب لخلع بدلتى .. وسألتها وأنا أتثاءب ..
ـ المهندس توفيق لايزال ساكنا هنا فى العمارة ..؟
ـ المهندس توفيق فى الشقة التى فوقنا على طول ..! لكنه مسافر فى بعثة .. والشقة فاضية .. وأبوه يأتى من وقت لآخر ..
وشعرت بما يشبه الدوار .. بعد أن أدركت خطأ فعلتى .. فقد أدرت المفتاح فى الشقة التى تحتها مباشرة .. لأن المصعد أخرجنى فى الطابق الرابع بدل الخامس .. لأنى ضغطت على الزر خطأ ..
هكذا دخلت كصاحب بيت فى شقة سيدة مريضة .. فأى عبث للأقدار ..
ان السيدة المريضة تنتظر زوجها .. وقد وصل الزوج فى شخصى .. طبقا لمواصفات الخطاب .. فهل أكشف نفسى الآن ..؟ لا .. ثم .. لا .. قد يكون فى ذلك هلاكها .. ليست المسألة إلى هذا الحد من البساطة فى مواجهة الحدث ..
ان أى تبسيط للأمر سيجر إلى عواقب وخيمة .. وما دمت قد أخذت على أننى الزوج العائد فلأظل فى الدور إلى النهاية ..!
ولكن أى عبث للأقدار .. من الذى كتب الخطاب .. أهو زوجها حقا ..؟ وإذا كان قد فعل ذلك فلماذا لم يحضر كما وعد ..
إن تخلفه كان من أجلى .. ليعطينى الصورة ولينفسح لى المجال لأمثل الدور كاملا ..
***
عدت إلى المقعد ووضعت يدى على رأسى .. كاد رأسى أن ينفلق من فرط احساسى بالموقف الصعب .. ما الذى يفعله الإنسان فى مثل هذه المواقف .. سيترك الأمور تجرى فى أعنتها ..
واسترخيت .. وغلبنى النعاس وأنا جالس وتنبهت على صرخة مفزعة .. صرخة خرجت منها ..
وجريت إلى غرفتها .. وصدمنى وأنا أجرى شبح رآنى وأنا أتقدم نحوه وبيدى المسدس فأشهر فى وجهى سلاحا .. فأطلقت عليه النار طلقة واحدة فسقط خارج بابها ..
***
وخيم السكون من جديد وسمعتها تقول بعد دقائق وثوان حسبتها دهرا :
ـ قتلته .. يا منير ..
ـ نعم ..
ـ حرامى ..؟
ـ نعم .. حرامى ..
وسألتها :
ـ أسرق منك شيئا ..؟
ـ أبدا .. عبث فى الدولاب ..
ـ أدخل .. من المنور ..؟
ـ أو من باب المطبخ .. أو أى مكان ..
وأضافت بهدوء :
ـ أتبقيه هنا ..؟
ـ لا .. سأخرجه .. حتى لايزعجك ..
وسحبته على البلاط .. إلى خارج شقتها .. ووضعته فى المصعد ..
وسمعت صوتها .. تنادينى وأنا أغلق بابها الخارجى ولكنى لم أرد .. لأنى سمعت حركة أقدامها ورائى ..
وأنستنى الفرحة بشفائها .. كل ما حدث لى فى هذه الليلة ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو بعددها الصادر بتاريخ 19 أبريل 1982
================================
الشيخ عمران
قصة محمود البدوى
كانت عندنا فرس من كرام الخيل ، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها ، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل ، أم ذهبت على وجهها فى الحقول ..؟!.
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر ..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ " عمران " فى النجع .. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق ..
وراح الخدم يخرجون الخيل .. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية ، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر . وكان معى خفيران من خفراء المزرعة ، مسلحان بأحدث طراز من البنادق ، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد ..
وأخذ " مسعود " ــ أحد الخفيرين ــ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له ، فمر تحته قارب صيادين ، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج ، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه ، وأحس بهم الشيخ عمران .. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال ، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك .. !
وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية " الوليدية " فى أسيوط .. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز ، وأخذ يحصدهم حصدًا ..
ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان ، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان ، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع .. وأدير الكوبرى .. ومر العرب يقرعون الطبول ..
قص على مسعود هذا وغيره . وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران ، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا ، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها .. وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها .. إنه رجل رهيب ، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها ، وإذا تنكر لقوم بطش بهم .. مسحهم من الوجود مسحًا . بدأ حياته كقاطع طريق صغير ، ثم تطور وعظم أمره ، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا ، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار ، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا ..
ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال ، رجلا فى طول المارد وبطشه ، له جسم ثور وقوة عنترة .. دائما مسلح ، دائما مقاتل ..
واقتربنا من النجع ، وكانت الجياد تتصبب عرقًا ، والتعب قد بلغ منا منتهاه .. ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح ، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة .. والكلاب تنبح فى كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل ..
ولم نجد الشيخ عمران فى النجع ، بل كان فى جزيرة وسط النيل ، فتركنا الخيل فى النجع ، وركبنا زورقا إلى الجزيرة ..
* * *
وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة . ولقد ذهلت عندما رأيته ، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة ، مدور الوجه جامد الملامح ، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام ، جاوز الخمسين هادئًا ، ساكن الطائر . هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها .. ؟!.
رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة ، ولم يكن يلقى باله إلينا ، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض !! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا ... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد ..؟!
وعرف مسعود ، ونظر إلىّ قليلا ثم قال :
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم ..؟
ـ أجل ..
فرحب ، وفرش لى " زكيبة " وجلست بجواره فى الظل ، وعيناى لا تتحولان عنه .. لا ، إننى مخطئ .. إن نظرتى الأولى كانت عاجلة .. إن هذا الرجل ليس كالرجال ، إنه من طراز آخر ، إن له شخصية جبارة ..
وشربنا القهوة ، وحدثته عن الفرس ، فضحك وقال :
ـ لم يبق إلا هذا ..!
ثم أردف :
ـ لقد شرفتنا ، ونحن فى موسم الإيجار ، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا ، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى ، وتعود إلى والدك محملا بالمال ..
ابتسمت وشكرته . إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة ..
وتغدينا وأكلنا البطيخ ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما :
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية ..
ومشى معى يطوف بالحقول ..
* * *
مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة ، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران ..
كانوا فى أخصاص من " البوص " قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول .. لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها ، فإذا بصروا بنا نهضوا ، وزجروا الكلاب ، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه .. فإذا رفضنا قال فى حماسة :
ـ إن هذا لا يصح .. إن هذا لا يصح ..
ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه .. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها.. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا ، ولا خنجرًا ولا بندقية .. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران ، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة .. إنها فى قبضة مارد جبار ..
وحدثته عن هذا ، فنظر إلى مليًا ، ثم قال مبتسمًا :
ـ إن كل شىء هنا حسن .. والشر يجىء لنا دائمًا من المدينة .. عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق ، يعرف الشاى الأسود " والتمباك " و" الحسن كيف " .. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة ، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق .. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين .. ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل ، والملاهى البراقة فى كل مكان .. يرى كل هذا ، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا .. كان كمن ضرب على أنفه .. إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات ، وروث البهائم .. هل أنا كائن حى .. ؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا .. ؟ هل أنا من طينة هؤلاء ؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا .. وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة ، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة .. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا .. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار .. ويغشون ويخادعون ، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل ، لأنك صاحب الأرض ، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم ..
فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى :
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون .. ظلم أجيال وأجيال .. إن الفلاح المصرى يسرق ، ويخادع ، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين ، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا .. ؟
ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا ..
وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة ، ونودع الشمس الغاربة ..
* * *
ابتدأ النساء فى الجزيرة يخرجن من الأخصاص ، وعلى رؤوسهن الجرار ويتجهن إلى النيل .. رأيت سواعدهن البضة وهى تتحرك من بعيد ، وبعض وجوههن النضرة .. كن يمشين فى خفر أسرابا ، وكن جميلات فاتنات ..
ونزل الشيخ عمران إلى النيل وتوضأ .. ولما غربت الشمس صلى .. وعاد فجلس بجوارى صامتًا .. وكان الظلام يتساقط رويدًا رويدًا ..
وتعشينا ، وفرشوا لى لأنام . كان الشيخ عمران يود أن أنام داخل " الخص " ولكننى رأيت أن أنام فى العراء لأرى هذا الرجل الرهيب فى الليل ..
إنه لا يدخن ، وهو رجل قليل الكلام ، كثير الصمت ، وصوته ليس جهوريا ، ولكنه قوى آمر .. ولعل ذلك راجع إلى أنه تعود صيغة الأمر دائمًا فى حديثه مع الناس .. وهو فى الليل لا يغير ثوبه كما يفعل كثير من القتلة ، وإنما يظل كما هو لا يتغير فيه شىء .. تتركز حواسه كلها فى باصرتيه ويغدو خفيف الحركة ، سريع اللفتة ، يقظ السمع ، يرنو ببصره إلى بعيد ، لقد أدركت قوة بصره فى الليل وهو يرى من وراء الأبعاد ، ويخترق به حجب الظلام ، ويسمع أدنى حس ..
كانت تمر تحتنا قوارب الصيادين ، وكان يسمع حركة المجاديف وهى مقبلة من بعيد ، فإذا اقتربت من رأس الحجر فى طرف الجزيرة صاح بصوته المرعب :
ـ من هناك .. ؟
ـ نحن يا عم الشيخ عمران ..
ـ ابتعد عن الحجر وخليك إلى الشرق ..
ـ حاضر ..
إنه لا يريد أن يقترب أحد من عرينه .. إنه قاتل ، والقاتل فى الصعيد دائما مطارد ، ولو عاش ألف عام .. وعندما يخور الشيخ عمران ويستضعف سيتمزق إربا .. ولقد خلف وراءه فتيانا أشداء ، وله أسرة مرهوبة الجانب ، وقد يعيش فى هذه الشيخوخة فى ظلها وعلى حسها .. وإن كان لا يزال شامخ الأنف ، لم يسقط فى حياته سقطة واحدة ..
شمل الظلام كل شىء ولفنا فى ردائه .. ونام من معنا من الفلاحين ، وبقيت ساهرًا مع الشيخ عمران .. لقد شعرت بطراوة الهواء ولينه ، وعمق السكون .. وكنت أود لو أتمرغ على الرمل وأنزل لأسبح فى النيل .. كان كل شىء ساكنا .. والطبيعة سافرة طليقة من كل قيد ، تشعر الإنسان بالحرية الصحيحة . كنت أشعر أننى قد تحررت من قيود المدنية الزائفة وأخذت أنظر إلى النجوم البراقة فى السماء ، وإلى الغياهب .. غياهب الليل .. وإلى النيل الجارى تحتنا ، وإلى مزارع النيل من حولنا .. وأتأمل وأفكر ..
إن الشيخ عمران يجلس على هذه الربوة وحيدا فى الليل ، وأولاده فى كل مكان . " معاذ " فى الماكينة ، و" سلمان " فى النجع ، و" عبد الكريم " فى الجبل ، ولكن أنفاسهم جميعا معه ..
وفى الهزيع الثانى من الليل ، رأيته يدخل العريشة ويعود وفى يده شىء ، إنها بندقيته .. وهى من طراز هندى ككل البنادق التى تراها فى الريف .. ولكنها فى يده شىء آخر .. وضعها بجانبه واستلقى وعينه إلى الغرب .. وضعت رأسى على الفراش وحاولت أن أنام ، فالشيخ عمران ساهر علينا جميعا ، ولكننى لم أنم ، وظللت أراقبه .. تحرك ، ومد البندقية .. وأطلق .. أطلق فى الهواء .. وسمعت صوت الطلقة وطاف بذهنى شىء .. لقد تذكرت ، سمعت صوت هذه الطلقة فى الليل من قبل ، كانت طلقة واحدة تنطلق فى ساعة معينة بعد نصف الليل .. وكنا نسمعها ونحنُ فى أجران العزبة ، ونصيح فى صوت واحد :
" الشيخ عمران !.. "
إنه ظل على عادته يرسل هذه الطلقة كل ليلة .. طلقة واحدة ليس إلا ، ثم يضع البندقية تحته وينام ..
اعتمدت بمرفقى على تل من الرمل ، وأقبلت أتحدث معه . أخذ يحدثنى عن مغامراته فى الليالى السود ، والمعارك الدامية التى تحدث فى القرى على لا شىء .. وحوادث السرقة فى وضح النهار ، والزمن الذى تطور ، وطوى معه كثيرا من القتلة فى الريف .. كان حديثه طليا ساحرا يستغرق الحواس كلها ..
طلبت منه أن يحدثنى عن أول حادثة قتل فى حياته ، فتجهم وأطرق طويلا .. لقد نبشت دخيلة نفسه .. إنه يتذكر ..
رفع رأسه وقال فى صوت متغير :
ـ سأحدثك يا بنى ...
وأطرق مرة أخرى ، ثم رفع رأسه وقال :
ـ كان ذلك منذ سنين طوال .. كنت فى صباى ..
وكان والدى يحب أن يزوجنا صغارًا ، فزوجنى من ابنة عم لى ، على عادة العرب فى قصر زواجهم على الأقارب .. وكانت صغيرة .. وكنا قد شببنا معا ، ورعينا الغنم معا ، فكان حبى لها قويا .. وكان كل شىء فى الحياة يمضى رتيبا ثقيلا .. لم تكن الحال كما تراها الآن آلات للرى ، وزراعة ، وعمران ، بل كان جدبا شديدًا وفقرًا شاملا ، كنا نعيش من بيع الملح .. نجىء به من الجبال ونبيعه فى القرى النائية .. وكنت أطلب الرزق أينما وجد .. فلم يكن من السهل على رجل فى مثل شبابى ورجولتى أن يتبطل ..
وكان هذا الفقر يدفع العرب إلى السلب والنهب ، وقطع الطريق على الناس .. فكانت الحوادث تترى ، والرصاص يدمدم فى كل ساعة ..
وحدث أن أغار جماعة من العرب على مزرعة واستاقوا مواشيها ، وقتلوا خفيرا من خفرائها .. وجاء الجند ، وعلى رأسهم ضابط طوقوا النجع .. وبدأوا يفتشون فى بيوتنا لأنها فى اعتقادهم وكر الجريمة ..! وكنت غائبا ، ودخلوا بيتى وفتشوه ..
وسأل الضابط « جميلة » زوجتى :
ـ أين زوجك ؟ ..
ـ مسافر يا سيدى منذ شهور يجرى وراء معاشه ..
ـ ومن الذى وضع هذا فى بطنك إذن .. ؟
ووضع أصبعه على بطنها ، وكانت حبلى « بمعاذ » ..
فعل هذا وخرج .. وصعقت المسكينة .. وطار الخبر فى كل مكان .. وعدت من سفرى وسمعت بما حدث وأنا فى الطريق .. ودخلت البيت ولكننى لم أحادث جميلة ولم أر وجهها .. وتناولت بندقيتى وخرجت .. وذهبت عند صديق لى فى الجبل ، ومكثت عنده أياما .. وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..
وتركت البندقية عند صاحبى ، وخرجت متنكرا أطوف حول « النقطة » .. ورأيت خير ما أفعله أن آخذه ، وهو خارج للدورية ، بعيدًا عن النجع والقرى المجاورة لنا ..
وخرجت فى ليله سوداء لا أنساها ما عشت ، ففى هذه الليلة تقرر مصيرى يابنى ، ورسم القدر خط الحياة لى .. وكانت ليلة من ليالى الشتاء ، ضريرة النجم شديدة البرد ، وكانت معى بندقيتى وخمسون طلقة ، وكنت على استعداد لأن أقاتل جيشا بأسره ، وأفتك بكل من يعترض سبيلى حتى ولو كان أبى ..
كانت ثورتى جامحة ، وغضبى لا يصور ..
وكمنت فى زراعة قصب ، وانتظرته وهو مار على ظهر جواده فى الطريق.. وجاء .. وصوبت وسقط ..
وأطلق العساكر النار ، ولكن طوانى الليل ..
وبت هذه الليلة فى بيتى ، واستطعت أن أقابل « جميلة » .
وصمت الشيخ عمران قليلا ثم أضاف :
ـ بعد هذه الليلة يا بنى تغير فى كل شىء ، وجدت شيئا جديدا يعتمل فى داخل نفسى ، واستطعمت رائحة البارود ، وأصبحت حياتى كما تعرف وترى .. وأنت لا تستطيع أن تغير الدم .. الدم الجارى فى عروقك ، أو تمحو أثر البيئة ، وأنت تتعلم وتتهذب وترقى ، ولكن دمك سيظل عربيا لأنك ولدت فى النجع ونشأت فى النجع ، وفى هذا الجو الطليق عشت ، وتنفست أول نسيم للحياة ..
وصمت الشيخ عمران وتركنى لأنام ..
مضى وحده فى الظلام ، فقد سمع نباح كلاب شديد ..
* * *
بعد قليل عاد إلى مكانه ، وكانت الكلاب قد كفت عن النباح ، وعاد السكون . وكانت النجوم تهوى فوقنا متعاقبة ، والظلمة شديدة ، والماء يجرى تحتنا ويهدر .. ومن ساعة إلى أخرى كنا نسمع صوت رصاصة تنطلق فى الجو. لابد من هذا فى الريف ، كان صوت الرصاص مألوفا عند الفلاحين ..
بل لعلهم يأتنسون به أكثر من صوت الكلب ، وصوت الإنسان ، ويشعرون بالوحشة عندما يشتد السكون ..
غلبتى النعاس ، وصحوت والشمس تغمر وجهى ، ولم أجد الشيخ عمران..
وسألت عنه فقيل لى : إنه ذهب إلى النجع ..
ورأيته بعد ساعة مقبلا من بعيد يمشى تحت وهج الشمس .. ووراءه ابنه معاذ .. معاذ الذى يحرس « الماكينة » بذراع واحدة .. فقد ذهبت ذراعه الأخرى فى حادث .. كان وهو غلام فى « الماكينة » ومعه أخوه الأكبر .. وذهب أخوه إلى القرية ليجىء بشىء ، وتركه وحده .. فهجم عليه اللصوص فى الغروب .. وظل يقاتل .. واخترق الرصاص ذراعه ، ومع هذا لم يستسلم ، ولم يستطع أحد أن يقترب منه ، أو يمس حديدة فى « الماكينة » .. هذا هو معاذ ، إنه من دم عمران ومن صلبه ، كان يجىء إلى قريتنا كثيرا يحمل الإيجار، ويحاسب على الأرض ، وكنا نعرفه جميعا .. وكان إذا تأخر واحد من إخوتى فى الليل ، أو بات فى الأجران ، سأل والدى عن الذى معه .. فإذا عرف أنه معاذ اطمأن وكف عن السؤال .. كنا نسميه « أبو ذراع » وكان واسع الحلم طيب المشعر .. فإذا غضب انقلب أسدًا ..
حيانى معاذ وجلس .. وبعد قليل تحركت ذراعه .. ودفع يده فى جيبه وأخرج صرة ناولها لى وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامة :
ـ هذا إيجار زراعات الماكينة جميعا ..
ـ جمعته كله يا معاذ ..
ـ أجل ..
ـ ولم يبق أحد .. ؟
ـ ولم يبق أحد ..
ونظرت إليه ، وكان يبتسم وعيناه تلمعان .. إنه صورة من والده . نفس النظرة القوية .. ونفس الملامح الصارمة . ونفس الشخصية الجبارة التى تفرض نفسها على من حولها ..
جمع الشيخ عمران باقى المستأجرين ، وشغلت طول النهار بتحصيل الإيجار، وفى المساء وضعنا الأوراق المالية والفضة فى كيس كبير أعطيته للشيخ عمران فوضعه فى العريشة أمام الجميع .. !
وهبط الليل ، وكنت قد تعبت طول النهار ، فنمت فى أول الليل وصحوت على صوت طلقة .. لم تكن الطلقة التى تعودت سماعها من الشيخ عمران .. طلقة تذهب فى الهواء تدمدم .. لا .. إنها طلقة مكتومة .. رصاصة أصابت جسما واستقرت فيه .. فتحت عينى وتلفت حوالى .. لا أحد بجوارى غير عمران .. كان على قيد خطوات منى ، نائما على بطنه ويده تعمل فى البندقية .. لقد أخرج الظرف وألقى به بعيدًا ، ولما أحس بى ، وعرف أنى صحوت ، قال وهو يبتسم :
ـ لا شىء .. إنه ثعبان ! ..
ـ أقتلته ؟ ..
وصمت ولم يقل شيئا ، وظل وجهه مبتسما ، ويداه تعملان فى البندقية .. ثعبان .. ؟
تلفت مرة أخرى .. أرسلت بصرى إلى رأس الحجر كان هناك شىء أسود وفتحت عينى جيدًا ، وتفرست فى الظلام ، وتملكنى الرعب .. إنه رجل نصفه فى الماء ، ونصفه على الأرض .. وقد منعته الحجارة من أن ينجرف مع التيار ..
ولقد جاء بعد أن عبر النيل فى زورق أوسواه ليقتلنى أو ليقتل الشيخ عمران ، ولكنه انتهى فى لحظة واحدة وما أحس به إنسان ..
ونظرت إلى الشيخ عمران .. نظرت إلى هذا الرجل ، وحاولت أن أقرأ على وجهه شيئا ينم عن فعلته ، شيئًا يدل على أنه قتل نفسا بشرية ..
ولكنه على حاله .. لم يتغير فيه شىء .. إنه هادىء ساكن ، وما نبض فى جبهته عرق ، ولا إختلجت شفة ، ولا اهتزت يد .. أى قلب .. ! وأى أعصاب ! ومن أى طينة هذا الرجل .. إننى إذا ضربت خادما بعصا فى ثورة غضب ، أظل طول الليل أتململ فى فراشى ، والندم يأكل قلبى ، ولا أعود لنفسى إلا إذا طلبت من الخادم أن يصفح عنى .. أما هذا الرجل فهو يقتل إنسانًا .. ولا تتحرك فيه جارحة ، ولا يظهر على وجهه شىء .. أى قلب ..! وأى أعصاب .. ! .
بعد قليل تحرك ، ومشى إلى رأس الحجر .. مشى متمهلا ، ورأيته يدفع الرجل العالق بالحجر برجله .. وذهب الرجل مع التيار ..
وعاد عمران إلى مكانه كما كان أول الليل .. كأن لم يحدث شىء ..
* * *
فى أصيل اليوم التالى ، غادرنا الجزيرة إلى النجع ، وبعد أن استرحنا ، وشربنا القهوة فى مضيفة الشيخ عمران ، أمر بإعداد الركائب ، وكان هو وابنه « معاذ » سيرافقاننى إلى قريتى ..
ولما خرجت إلى الساحة ، وجدت فيها ما أدهشنى .. وجدت فرسنا التى سرقت مسرجة ومعدة لركوبى ..! ونظرت إلى ذلك الرجل الجبار نظرة امتنان وشكر .. سأعود الآن إلى قريتى مرفوع الرأس وكل ذلك بفضله . ولقد علمت أن معاذًا جاء بالفرس منذ يومين وكتموا عنى الخبر لأفاجأ هكذا ..
وركبنا نحن الثلاثة وخرجنا من النجع .. وكان الشيخ عمران يركب حمارًا وكذلك ابنه ، ولهذا سرنا متمهلين نقطع الطريق بالحديث والتندر مع معاذ .. وكان دائم المرح حلو الدعابة ، لا يكف عن الضحك ولا يعير باله لشىء فى الوجود وهو الرجل المقطوع الذراع . وكانت وجوهنا إلى الشمس ؛ فلما غربت تنفسنا الصعداء ، وأسرعنا فى السير ، وكان الطريق على عادته مقفرا وكل شىء فى سكون .. وأخذ الظلام يشتد ويلف كل شىء فى ردائه الأسود ..
وكنا كلما أوغلنا فى السير زاد السكون ، واشتدت الوحشة فى الطريق .. وقطع هذا السكون دوى رصاص شديد انهمر فى غير انقطاع مرة واحدة ، واستمر عدة دقائق .. فتمهلنا فى السير ، وأمسكنا بالبنادق وقلت للشيخ عمران وأنا أتسمع :
ـ عرس فى القرية ..
فقال وهو ينظر إلى ومض البارود :
ـ إنه ليس بالرصاص الذى يطلق فى الأفراح ، إنه شىء آخر ..
انقطع صوت الرصاص ، وخيم السكون من جديد .. وظللنا نرقب .. ورأينا من بعيد خطا أسود يزحف إلى الغرب ..
ومددنا أبصارنا وتبين الخط الأسود .. وضح ما فيه .. إنها ماشية تساق سراعًا فى طريق غير مألوف .. وخلفها وأمامها رجال مسلحون .. لقد سرقوا هذه المواشى من القرية ، واشتبكوا مع الحراس فى المعركة التى سمعنا دويها .. ثم تغلبوا عليهم وهاهم قد أفلتوا بالماشية يسوقونها سراعا ..
وترجل الشيخ عمران ، وأشار علينا بالنزول .. ترجلنا وبحثنا عن مكان نربط فيه الركائب ، ووجدنا ساقية خربة .. فربطناها فى ترسها وأخذنا نرقب.. تحول الرجال بالماشية إلى طريق آخر ، ومضوا فى الظلام وابتدأ عمران يعمل بسرعة .. تناول بندقيته ومضى فى أثرهم .. ولما هممنا بالذهاب معه ، رفض .. وحلف على معاذ بالطلاق أن يبقى معى فى الساقية ولا يتركنى حتى لو قتل .. وبعد أن تنتهى المعركة بخير أو بشر نستأنف السير إلى القرية ..
وخرج الرجل وحده ، رأيناه يمضى سريعا كما يمضى الليث فى الظلام ..
وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم .. ابتدأ عمران يقاتل وحده .. أخذت بندقيته تزأر .. إن له طريقة فريدة فى القتال ، كما أنه رجل فذ فى كل شىء ..
واستمرت المعركة حامية مدة .. ثم انقطع صوت النار .. وخيم السكون ولاحت لنا أشباح تتحرك .. تتحرك فى اتجاهنا .. إنها المواشى .. وها هو عمران وراءها يسوقها .. لقد خلصها من اللصوص وحده ..
ودخلنا بالمواشى المسروقه القرية ، واستقبلنا أهلها استقبال الفاتحين .. وكان عمران يسير فى المؤخرة وحده .. مطرق الرأس ، متواضعا كأنه ما فعل شيئًا ..
==============================
نشرت القصة فى ص . أخبار اليوم ـ العدد 109 فى 7/12/1946 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " العربة الأخيرة " وفى كتاب " قصص من الصعيد " من اعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2002
==============================
من عالم الأسرار
الأســرار
قصة محمود البدوى
سافر الدكتور حمدى زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك فى مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت فى القاهرة .. فوقع فى حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..
وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة فى شارع الفلكى لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .
وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل فى هذا الموقع ..
واستقر الدكتور حمدى فى مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .
وكان الدكتور حمدى مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والايحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر فى هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .
ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة فى عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله فى يوم الجمعة فقط ولايحضرها إلا أخص أصدقائه .
وكان عنده تمرجى أسمه " خليل " وهو فى الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .
وكان هذا التمرجى .. ربعه فى الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجى البيضاء .. ولا يخلعها فى صيف ولا شتاء ..
وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .
ومع كثرة ترددى على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجى وحده ..
كان يصنع لى القهوة ، ويستقبلنى بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفانى .
وكنت أرى الغرفة التى يستعملها الدكتور فى يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان فى هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .
وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجى جالسا فى المدخل ، ولا فى المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور فى الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجى وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسى فى المدخل وأنا أدير بصرى فى كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..
وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل " خليل " فى خطوه الثقيل وحيا ..
وقال يبرر غيابه :
ـ كنت عند الدكتور " فاضل " أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
وأضاف :
سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتى حالا ..
وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .
وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصنى بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التى بينى وبين الدكتور حمدى .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور فى طلبى لأى عارض أو ألم نزل به فجأة ..
ولهذه العلاقة كان " خليل " يخصنى بالجلوس فى مكتب الدكتور حمدى عندما يكون هذا فى عمل بالخارج .
وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله فى الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..
ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملى .. ولأنى كنت ألاقى الدكتور فى نفس اليوم فى المساء فى مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .
ومع براعة الدكتور فى التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لايصحو .. من نومه .. وينام نومة الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .
وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدى :
ـ يا أخى .. أختر أحدا غيرها .. انها مسكينة وتعبت ..
ـ لايصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
ـ نوم " خليل " .
وضحك وقال :
ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !
***
والواقع أن " خليل " يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدى .. لأنه يتمتع بارادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .
ولقد وجدته ذات ظهر فى العيادة ، وكان فى حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و " خليل " لاتزال بيده الورقة التى تسلمها من الرجل الذى أدركت أنه المحضر .. لأنى كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن " حمدى " أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..
وأعطانى " خليل " الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الردىء الذى لايقرأ وهو يقول ..
ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
فتناولت منه الورقة وقلت له :
ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .
ـ لماذا لاتتفقون معه ..
ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذى عاش فى بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الانس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور فى طنطا .. ومرة فى الاسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .
ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثنى الدكتور حمدى عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد فى اليوم الأول من سكنه ..
ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة فى أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لايحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..
ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذى يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدى لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولايزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته فى العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتى إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لايعرفون الجيد من الردىء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..
ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..
ـ انهم لايهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..
والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لايأخذ منه مليما .. ويحاول اقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدى ولاداعى للقضايا .. لأنها لاتوصل لنتيجة .. ولكنه لايسمع كلامه ..
شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا فى الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..
يوميا فى كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شىء واصبر ..
ومرة .. كان فى حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لاعطائه حقنة .. ولم يكن فى العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لى يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يامعلم .. داحنا جيران ..
***
واطلع الدكتور حمدى على الإعلان الأخير الذى أرسله إليه صاحب البيت وتضايق منه جدا .. وقال لى بهدوء :
ـ انه يتصور نفسه هرقلا .. ويستضعفتى .. من دون السكان وهذا ما يفجر غيظى .. ولقد استقر رأيى على التخلص منه نهائيا .. لقد طفح الكيل وليس هناك زيادة لمستزيد ..
ـ كيف ..؟
ـ سأسلط عليه الوسيط ..
وضحكنا ..
***
واتجهت إلى العيادة ذات مساء .. فرأيت صوان جنازة فى نفس الشارع .. فاضطربت وحسبت أن مكروها أصاب الدكتور حمدى وأنا لاأدرى ..
ولكن لما دخلت العيادة .. وجدت خليل التمرجى .. فى مجلسه .. وكان أكثر الناس هدوءا .. فاطمأنيت ..
وسألته عن الدكتور ..
فقال :
ـ تفضل .. هوا جوا ..
ولما دخلت عليه عانقنى .. وقال .. بفرحة :
ـ ربنا خلصنا من المعلم ..
ـ من ..؟
ـ صاحب البيت .. مات ليلى أمس ..
وسألته مازحا ..
ـ أسلطت عليه الوسيط ..؟
ـ يا راجل حرام .. أنا كنت أضحك ..
وكان فرحا ونشطا .. ويحس بأن كابوسا ثقيلا رفع عن كاهله ..
وفكرت هل يفرح الانسان لموت إنسان آخر .. هل يحدث هذا فى الحياة منذ وجدت الخليقة .. أم يحدث فقط فى هذه الأيام بسبب أزمة المساكن ! !
***
وكان وجه التمرجى يروعنى .. فمنذ مات الرجل وهو على حالة من السكون .
وفكرت هل تخلص منه بحقنة قاتلة أو بغيرها من الوسائل .. لما يلقيه عليه من الزبالة من فوق ، وفعل ذلك لأنه أكثر الناس تضررا منه ..
وهل فعل ذلك وحده وبدافع من نفسه أم بتحريض ودفع من الطبيب .. وهل يفكر الرجل المتعلم المثقف فى الجريمة كما يفكر كل الناس ..
وما جدوى العلم والثقافة إذا كنا نتساوى فى الانفعالات والسقطات والثورات الجامحة وتنقلب إلى وحوش .. ولا فرق بيـن إنسـان وإنسـان إذا تملكه الغضب وأفلت منه الزمام ..
ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأسى أياما .. ثم صرفتنى شئون الحياة عنها إذ سافرت إلى الإسكندرية فى مهمة عاجلة .. ولما عدت إلى القاهرة وذهبت إلى العيادة كعادتى فى مساء الخميس وجدت الدكتور قد بكر فى الحضور عن ميعاده المسائى ..
والمرضى على غير المألوف وأكثر من المعتاد ..
وكان خليل .. فى مكانه من المدخل .. يدخل الزبائن حسب أرقامهم .. ويخطو فى الردهة .. بخطوه الثقيل المألوف .. ومرتديا نفس المريلة ..
وبعد أن انصرف المرضى .. وجلست مع حمدى نتحدث وتأملت وجهه البرىء وروحه الصافية ، استبعدته تماما من الأمر فانه لايمكن لمثل هذا الانسان أن يفكر فى الجريمة على أى وجه من الوجوه .. مهما أوذى وأصيب من ضرر .
وتعشينا سويا .. وافترقنا على لقاء فى الغد لأحضر جلسة التنويم .
***
وحضرت الجلسة .. فى الميعاد .. كما حضر الأستاذ رمزى صديق الدكتور الذى وقع فى بيته حادث سرقة ..
ودخلنا الغرفة المسدلة الستائر .. وشعرت بالظلام ورهبة المكان ..
وبدأ الدكتور ينوم الوسيط .. وكانت النقود قد سرقت من دولاب فى غرفة النوم .. فأوضح الوسيط صفات السارق بدقة .. طوله وعرضه وسنه وملامح وجهه وما كان يرتديه من ملابس وقت الحادث . فعرف الأستاذ رمزى أنه قريب له فاشل وعاطل .. وكان قد شك فيه من قبل ولكنه استبعده لصلته القريبة ..
وقال الدكتور حمدى موجها الخطاب لى :
ـ والآن جاء دورك :
وارتعشت وقلت له على الفور لأقطع عليه السبيل :
ـ ليس عندى مشكلة .. وما سرقنى أحد ..
فقال الدكتور :
ـ انها مجرد نزهة فى بيتك من زمان لم نزره ..
هيا يا مديحة ..
ـ اتجعل مديحة تتلصص فى بيتى .. لا ..
ـ يا راجل لاتفكر هكذا .. انها زيارة ممتعة ..
وتركته يفعل ما يشاء
وبعد دقائق قليلة .. نامت مديحة .. وانطلقت إلى بيتى فى شارع حسن الأكبر بعابدين وقال لها حمدى ..
ـ صفى له الشقة ..
فوصفتها فى دقة غريبة ..
ـ طيب .. هل يوجد أحد .. الأستاذ رأفت معانا الآن ..
ـ يوجد ضيوف .. جالسين فى الصالة ..
ـ صفيهم ..
ـ سيدة مسنة .. وشابة .. ومعهما رجل أفندى طويل ..
فارتعشت ..
ـ صفى السيدة المسنة ..
ـ انها بيضاء .. قصيرة .. تلبس السواد .. ملثمة بطرحة .. وعلى خدها الأيسر غمازة .
وقال حمدى :
ـ انها والدتك ..
ـ والدتى جاءت من المنصورة .. الساعة .. من غير اخطار ..
ـ أجل .. وان كنت غير مصدق .. اتصل بها بالتليفون ..
ورد علىّ عبده الخادم ..
فسألته باضطراب :
ـ هل عندك ضيوف .. ؟
ـ أجل يا أستاذ .. الست الوالدة .. وأخت حضرتك وجوزها ..
ـ متى حضروا .. ؟
ـ منذ ساعة ..
وتصورت أن الدكتور أراد المزاح واتصل بالخادم واتفق معه على هذا الرد .
فقلت له لأزيح عن نفسى كل شك .
ـ طيب خلى والدتى تكلمنى ..
ولما سمعت صوتها حقا ، سقطت السماعة من يدى ، وأصابنى الاغماء !
***
ولما فتحت عينى وجدتنى ممددا على كنبة الكشف والدكتور حمدى بجانبى ، وقد أمر خليل بأن يعد لى حقنة مقوية ..
ولما جاء خليل بالحقنة .. كان الدكتور قد خرج من الغرفة لبعض شأنه ..
فقلت لخليل وعلى فمى ابتسامة :
ـ أوعى تكون الحقنة مثل الحقنة التى أعطيتها للمعلم مرسى ..
فرد فى هدوء :
ـ ومن قال لك يا أسـتاذ رأفـت .. أننى أعطيت المعلم حقنة .. ؟
ـ سمعت ..
ـ أنا لم أعطه حقنا على الاطلاق .. ولقد وجدته وحده فى بسطة الدور الثالث .. وكان المصعد معطلا والنور مقطوعا .. وقبل أن المسه كان قد لفظ أنفاسه ..
ـ هل ضرب ..؟
ـ أجل ضرب فى مقتل بطريقة فذة .. طريقة ليس لها نظير .. وأعظم عالم فى التشريح لايجد لها أثرا عضويا يمسك منه خيط الجريمة ..
ـ ومن الذى فعل هذا .. ؟
ـ لا أدرى ..
ـ هل له أعداء ..
ـ سكان القاهرة جميعا .. أعداؤه ..
وسمعت خطوات الدكتور حمدى فى داخل الغرفة فقطعت حبل الحديث .. وأنا فى حيرة ورحت أتذكر خليل وهو يقول لى منذ أسابيع .. لن يكون هناك 19 ولا 29 نوفمبر .. والرجل أنتهى .. فعلا قبل هذا الموعد ..
=================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة المصرية عدد يناير 1979 وأعيد نشرها بمجموعة " صورة فى الجدار " لمحمود البدوى 1980
================================
الأســرار
قصة محمود البدوى
سافر الدكتور حمدى زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك فى مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت فى القاهرة .. فوقع فى حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..
وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة فى شارع الفلكى لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .
وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل فى هذا الموقع ..
واستقر الدكتور حمدى فى مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .
وكان الدكتور حمدى مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والايحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر فى هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .
ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة فى عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله فى يوم الجمعة فقط ولايحضرها إلا أخص أصدقائه .
وكان عنده تمرجى أسمه " خليل " وهو فى الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .
وكان هذا التمرجى .. ربعه فى الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجى البيضاء .. ولا يخلعها فى صيف ولا شتاء ..
وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .
ومع كثرة ترددى على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجى وحده ..
كان يصنع لى القهوة ، ويستقبلنى بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفانى .
وكنت أرى الغرفة التى يستعملها الدكتور فى يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان فى هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .
وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجى جالسا فى المدخل ، ولا فى المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور فى الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجى وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسى فى المدخل وأنا أدير بصرى فى كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..
وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل " خليل " فى خطوه الثقيل وحيا ..
وقال يبرر غيابه :
ـ كنت عند الدكتور " فاضل " أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
وأضاف :
سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتى حالا ..
وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .
وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصنى بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التى بينى وبين الدكتور حمدى .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور فى طلبى لأى عارض أو ألم نزل به فجأة ..
ولهذه العلاقة كان " خليل " يخصنى بالجلوس فى مكتب الدكتور حمدى عندما يكون هذا فى عمل بالخارج .
وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله فى الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..
ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملى .. ولأنى كنت ألاقى الدكتور فى نفس اليوم فى المساء فى مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .
ومع براعة الدكتور فى التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لايصحو .. من نومه .. وينام نومة الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .
وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدى :
ـ يا أخى .. أختر أحدا غيرها .. انها مسكينة وتعبت ..
ـ لايصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
ـ نوم " خليل " .
وضحك وقال :
ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !
***
والواقع أن " خليل " يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدى .. لأنه يتمتع بارادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .
ولقد وجدته ذات ظهر فى العيادة ، وكان فى حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و " خليل " لاتزال بيده الورقة التى تسلمها من الرجل الذى أدركت أنه المحضر .. لأنى كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن " حمدى " أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..
وأعطانى " خليل " الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الردىء الذى لايقرأ وهو يقول ..
ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
فتناولت منه الورقة وقلت له :
ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .
ـ لماذا لاتتفقون معه ..
ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذى عاش فى بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الانس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور فى طنطا .. ومرة فى الاسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .
ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثنى الدكتور حمدى عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد فى اليوم الأول من سكنه ..
ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة فى أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لايحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..
ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذى يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدى لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولايزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته فى العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتى إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لايعرفون الجيد من الردىء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..
ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..
ـ انهم لايهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..
والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لايأخذ منه مليما .. ويحاول اقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدى ولاداعى للقضايا .. لأنها لاتوصل لنتيجة .. ولكنه لايسمع كلامه ..
شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا فى الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..
يوميا فى كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شىء واصبر ..
ومرة .. كان فى حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لاعطائه حقنة .. ولم يكن فى العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لى يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يامعلم .. داحنا جيران ..
***
واطلع الدكتور حمدى على الإعلان الأخير الذى أرسله إليه صاحب البيت وتضايق منه جدا .. وقال لى بهدوء :
ـ انه يتصور نفسه هرقلا .. ويستضعفتى .. من دون السكان وهذا ما يفجر غيظى .. ولقد استقر رأيى على التخلص منه نهائيا .. لقد طفح الكيل وليس هناك زيادة لمستزيد ..
ـ كيف ..؟
ـ سأسلط عليه الوسيط ..
وضحكنا ..
***
واتجهت إلى العيادة ذات مساء .. فرأيت صوان جنازة فى نفس الشارع .. فاضطربت وحسبت أن مكروها أصاب الدكتور حمدى وأنا لاأدرى ..
ولكن لما دخلت العيادة .. وجدت خليل التمرجى .. فى مجلسه .. وكان أكثر الناس هدوءا .. فاطمأنيت ..
وسألته عن الدكتور ..
فقال :
ـ تفضل .. هوا جوا ..
ولما دخلت عليه عانقنى .. وقال .. بفرحة :
ـ ربنا خلصنا من المعلم ..
ـ من ..؟
ـ صاحب البيت .. مات ليلى أمس ..
وسألته مازحا ..
ـ أسلطت عليه الوسيط ..؟
ـ يا راجل حرام .. أنا كنت أضحك ..
وكان فرحا ونشطا .. ويحس بأن كابوسا ثقيلا رفع عن كاهله ..
وفكرت هل يفرح الانسان لموت إنسان آخر .. هل يحدث هذا فى الحياة منذ وجدت الخليقة .. أم يحدث فقط فى هذه الأيام بسبب أزمة المساكن ! !
***
وكان وجه التمرجى يروعنى .. فمنذ مات الرجل وهو على حالة من السكون .
وفكرت هل تخلص منه بحقنة قاتلة أو بغيرها من الوسائل .. لما يلقيه عليه من الزبالة من فوق ، وفعل ذلك لأنه أكثر الناس تضررا منه ..
وهل فعل ذلك وحده وبدافع من نفسه أم بتحريض ودفع من الطبيب .. وهل يفكر الرجل المتعلم المثقف فى الجريمة كما يفكر كل الناس ..
وما جدوى العلم والثقافة إذا كنا نتساوى فى الانفعالات والسقطات والثورات الجامحة وتنقلب إلى وحوش .. ولا فرق بيـن إنسـان وإنسـان إذا تملكه الغضب وأفلت منه الزمام ..
ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأسى أياما .. ثم صرفتنى شئون الحياة عنها إذ سافرت إلى الإسكندرية فى مهمة عاجلة .. ولما عدت إلى القاهرة وذهبت إلى العيادة كعادتى فى مساء الخميس وجدت الدكتور قد بكر فى الحضور عن ميعاده المسائى ..
والمرضى على غير المألوف وأكثر من المعتاد ..
وكان خليل .. فى مكانه من المدخل .. يدخل الزبائن حسب أرقامهم .. ويخطو فى الردهة .. بخطوه الثقيل المألوف .. ومرتديا نفس المريلة ..
وبعد أن انصرف المرضى .. وجلست مع حمدى نتحدث وتأملت وجهه البرىء وروحه الصافية ، استبعدته تماما من الأمر فانه لايمكن لمثل هذا الانسان أن يفكر فى الجريمة على أى وجه من الوجوه .. مهما أوذى وأصيب من ضرر .
وتعشينا سويا .. وافترقنا على لقاء فى الغد لأحضر جلسة التنويم .
***
وحضرت الجلسة .. فى الميعاد .. كما حضر الأستاذ رمزى صديق الدكتور الذى وقع فى بيته حادث سرقة ..
ودخلنا الغرفة المسدلة الستائر .. وشعرت بالظلام ورهبة المكان ..
وبدأ الدكتور ينوم الوسيط .. وكانت النقود قد سرقت من دولاب فى غرفة النوم .. فأوضح الوسيط صفات السارق بدقة .. طوله وعرضه وسنه وملامح وجهه وما كان يرتديه من ملابس وقت الحادث . فعرف الأستاذ رمزى أنه قريب له فاشل وعاطل .. وكان قد شك فيه من قبل ولكنه استبعده لصلته القريبة ..
وقال الدكتور حمدى موجها الخطاب لى :
ـ والآن جاء دورك :
وارتعشت وقلت له على الفور لأقطع عليه السبيل :
ـ ليس عندى مشكلة .. وما سرقنى أحد ..
فقال الدكتور :
ـ انها مجرد نزهة فى بيتك من زمان لم نزره ..
هيا يا مديحة ..
ـ اتجعل مديحة تتلصص فى بيتى .. لا ..
ـ يا راجل لاتفكر هكذا .. انها زيارة ممتعة ..
وتركته يفعل ما يشاء
وبعد دقائق قليلة .. نامت مديحة .. وانطلقت إلى بيتى فى شارع حسن الأكبر بعابدين وقال لها حمدى ..
ـ صفى له الشقة ..
فوصفتها فى دقة غريبة ..
ـ طيب .. هل يوجد أحد .. الأستاذ رأفت معانا الآن ..
ـ يوجد ضيوف .. جالسين فى الصالة ..
ـ صفيهم ..
ـ سيدة مسنة .. وشابة .. ومعهما رجل أفندى طويل ..
فارتعشت ..
ـ صفى السيدة المسنة ..
ـ انها بيضاء .. قصيرة .. تلبس السواد .. ملثمة بطرحة .. وعلى خدها الأيسر غمازة .
وقال حمدى :
ـ انها والدتك ..
ـ والدتى جاءت من المنصورة .. الساعة .. من غير اخطار ..
ـ أجل .. وان كنت غير مصدق .. اتصل بها بالتليفون ..
ورد علىّ عبده الخادم ..
فسألته باضطراب :
ـ هل عندك ضيوف .. ؟
ـ أجل يا أستاذ .. الست الوالدة .. وأخت حضرتك وجوزها ..
ـ متى حضروا .. ؟
ـ منذ ساعة ..
وتصورت أن الدكتور أراد المزاح واتصل بالخادم واتفق معه على هذا الرد .
فقلت له لأزيح عن نفسى كل شك .
ـ طيب خلى والدتى تكلمنى ..
ولما سمعت صوتها حقا ، سقطت السماعة من يدى ، وأصابنى الاغماء !
***
ولما فتحت عينى وجدتنى ممددا على كنبة الكشف والدكتور حمدى بجانبى ، وقد أمر خليل بأن يعد لى حقنة مقوية ..
ولما جاء خليل بالحقنة .. كان الدكتور قد خرج من الغرفة لبعض شأنه ..
فقلت لخليل وعلى فمى ابتسامة :
ـ أوعى تكون الحقنة مثل الحقنة التى أعطيتها للمعلم مرسى ..
فرد فى هدوء :
ـ ومن قال لك يا أسـتاذ رأفـت .. أننى أعطيت المعلم حقنة .. ؟
ـ سمعت ..
ـ أنا لم أعطه حقنا على الاطلاق .. ولقد وجدته وحده فى بسطة الدور الثالث .. وكان المصعد معطلا والنور مقطوعا .. وقبل أن المسه كان قد لفظ أنفاسه ..
ـ هل ضرب ..؟
ـ أجل ضرب فى مقتل بطريقة فذة .. طريقة ليس لها نظير .. وأعظم عالم فى التشريح لايجد لها أثرا عضويا يمسك منه خيط الجريمة ..
ـ ومن الذى فعل هذا .. ؟
ـ لا أدرى ..
ـ هل له أعداء ..
ـ سكان القاهرة جميعا .. أعداؤه ..
وسمعت خطوات الدكتور حمدى فى داخل الغرفة فقطعت حبل الحديث .. وأنا فى حيرة ورحت أتذكر خليل وهو يقول لى منذ أسابيع .. لن يكون هناك 19 ولا 29 نوفمبر .. والرجل أنتهى .. فعلا قبل هذا الموعد ..
=================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة المصرية عدد يناير 1979 وأعيد نشرها بمجموعة " صورة فى الجدار " لمحمود البدوى 1980
================================
عــالم الأسرار
قصة محمود البدوى
فكرت ـ أثناء المشروعات الجديدة لبنــــــاء المســاكن ـ أن أبنى لنـفسى فيـلا " صغيرة فى ضـاحيـة مـصر الجديدة .
وكان لى زميل فى الدراسة برع فى المعمار .. وغدا من أشهر وأنبغ المهندسين فى المدينة ..
وكانت تستعين به معظم الشركات والبيوتات الكبرى ليتحايل بفنه على الحد المقرر لارتفاع المبانى حتى أصبح لايشق له غبار فى هذا المضمار ..
وذهبت إليه عصر يوم فى مكتبه بشارع الانتكخانة .. واستقبلنى مرحبا ولاحظت أنه لايستعمل يده اليمنى وهو يكتب أو يقرع الجرس أو يتحدث فى التليفون ..
ولم أسأله عن السبب .. ولكن عندما ترك مكتبه وجلس بجانبى لنشرب القهوة وحدثته عن الفيلا ..
قال :
ـ سأعطى الفكرة لمساعدى وهو الذى يعمل لك الرسم وأراقب أنا التنفيذ ..
ـ وأنت ..؟
ـ لقد خلعت ذراعى ..
فنظرت إليه جزعا
وقال وهو يشير إلى النافذة :
ـ خلعها هذا الرجل الذى هناك ..
ونظرت فلم أر شيئا فى الشارع
فسأل :
ـ ألم تره ..؟
ـ لا .. ليس أمامى سوى ضريح ..
ـ إنه هو ..
ونظرت متعجبا
ورأيت ضريحا صغيرا قد طلى بناؤه وشباكه الصغير وبابه بالدهان والزيت على أحسن صورة .. ووراءه عمارة حديثة عالية قد أخذ فى بياضها وزخرفتها من كل جانب ..
وكان الضريح يشغل الجانب الأيمن من العمارة .. وحوله فضاء على شكل دائرة .. وتراجعت العمارة عن الشارع بما يزيد على ثمانية أمتار .. اكراما للضريح .
وقد عجبت حقا من حدوث هذا فى القرن العشرين ، فالعمارة لولا هندسة صاحبى وبراعته تكاد تكون مشوهة بالجزء الذى اقتطع منها وترك حول الضريح .
وأخذت أقدر بالأمتار المساحة التى تنازل عنها صاحب العمارة طواعية منه إكراما للضريح فى هذه المنطقة الحيوية التى يباع فيها المتر بالمئات وتؤجر فيها الغرفة الواحدة بعشرة جنيهات .
وسألت صاحبى :
ـ هل صاحب العمارة هو الذى ترك مكان الضريح ..؟
فقال :
ـ لا .. لم يخطر لنا الضريح على بال عندما شرعنا فى البناء .. ولما جاءنى المقاول لنعاين المكان .. ونضع التصميم .. كان فى مكان هذه العمارة منزل من أربعة طوابق وهذا الضريح .
ولم نفكر فى الضريح اطلاقا .. وأزلناه ونحن نضع التصميم كلية .. وأعطيت الرسم للمقاول للتنفيذ .
ولكن الرجل جاءنى بعد عدة أيام وقال لى إن العمال حفروا الأساس فى قطعة الأرض كلها وأبقوا مكان الضريح .. فلم يجرؤ أحد على الاقتراب منه .
وكلمـا شـرعوا فى إزالتـه شلت أيديهم أو حدث لهم حادث ..
فسألت المقاول :
ـ هل تعرفون اسم صاحب الضريح ؟
ـ أبدا .. انه رجل مجهول ..
ـ هل نخضع للخرافات .. ونشوه العمارة .. ونحمل صاحبها خسارة الآلاف من الجنيهات من أجل ضريح لإنسان مجهول .. هذا تخريف .. يا معلم أحمد .. هذا الضريح يزال غدا ..
وتركت المقاول وأنا فى حالة من الغضب والعجب لبساطة هؤلاء العمال ..
ولكن المقاول لم يزل الضريح ..
لأن العمال الذين شرعوا فعلا فى إزالته سقط واحد منهم من فوق السقالة وكادت أن تدق عنقه وحلت مصيبة بعامل آخر ومرض الثالث فتشاءموا من هذه الحوادث وامتنعوا عن العمل كلية .
واتصل المقاول بصاحب العمارة فوافق على أن يبقى الضريح فى مكانه وأن نغير التصميم على هذا الأساس .
وزاد ذلك من سخطى ، فاتصلت بصاحب العمارة لأجعله يعدل عن رأيه هذا .. وقلت له إن بقاء الضريح فى مكانه سيشوه واجهة العمارة ويجعله يخسر آلافا مؤلفة من الجنيهات .. ولكن نستطيع أن نفعل شيئا يرضى عقيدته ويمنع الخسارة .. ذلك أن نبنى ضريحا جديدا لهذا الشيخ فى مكان آخر .. ووافق على رأيى هذا .. ووضعت للضريح الجديد تصميما رائعا يكلفنا أكثر من خمسة آلاف من الجنيهات .
ولكن عندما نمت فى تلك الليلة جاءنى رجل فى لباس أبيض وقال :
ـ سيب الضريح مكانه ..
وقد فسرت هذا الحلم بأنى كنت مشغولا قبل أن أنام بالضريح .. وكان مسيطرا على عقلى .. فلما نمت حلمت به .. كما يحلم الطالب فى ليلة الامتحان بالأسئلة والممتحنين ..
***
وشرعنا فى إزالة الضريح ولكن واحدا من العمال لم يقدر على أن يضرب الفأس فى الأرض أو فى سقفه أو فى حوائطه .. فشعرت بالغيظ وأوقفت الماكينات التى تحفر الأساس فى الجهة الأخرى ..
وجمعت العمال جميعا ورائى فى حلقة كبيرة .. وأمسكت بالفأس أمامهم لأريهم بأن الأمر أسهل مما يتصورون ويقدرون .. ولأزيل هذه الخرافات من عقولهم جميعا .
أمسكت بالفأس وضربت ضربة قوية فى الجدار .. فانخلع قالب واحد من الطوب .. ولكن انخلع معه ذراعى وأحسست بمثل النار تسرى فى كتفى اليمنى .. وبسواد شديد يزحف أمامى حتى أظلم المكان ..
ولم أقو على حمل الفأس فألقيتها وأنا أتصبب عرقا .. ونظر إلىّ العمال فى ذهول .. ثم صاح أحدهم :
ـ شهدنا لك يا سيدنا الشيخ ..
وصفقوا وهللوا .. وتركتهم مخذولا ..
أخذت أفكر فى هذا العالم الآخر عالم الأسرار .. وتذكرت الحلم والشيخ الذى جاءنى فى المنام .. وكل ما دار فى رأس العمال من مخاوف بسبب الضريح .. وقلت .. إن هذا عالم آخر .. يعلو عن فهمنا وادراكنا .. وأسراره لاتحيط بها عقولنــا .. إنه عالم الأسرار لاندرك منه شيئا .. عالم الأسرار ..
وأبقينا على الضريح كما ترى فى مكانه .. بل بنيناه بالحجر والجرانيت من جديد .. وزيناه ووضعنا فى سقفه القناديل .. وانه الآن مصباح العمارة ونورها ..
وقد أخذ ذراعى فى التحسن فأنا الآن أستطيع تحريكه واعتقد أنه سيشفى تماما ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 1211955 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين 1962 لمحمود البدوى
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق